yousef
yousef
أعمدة

أساطير من مصر

31 مارس 2017
31 مارس 2017

يوسف القعيد -

من أجمل الكتب التي قرأتها مؤخرا. كتاب الدكتور ذوقان قرقوط: الأسطورة والحقيقة في التاريخ العربي: محمد علي وجمال عبد الناصر. وتحت العنوان: «الضِدُ يُظْهِرُ حُسنَه الضِدُ». وعلى الغلاف الخلفي العبارة التي قالها محمد علي لوزيره أرتين الذي كان يترجم له كتاب الأمير. وذلك بعد اليوم الثالث من بدء الترجمة، كان يقرأ له ما يترجمه أولا بأول. قال محمد علي:

- إني أرى بوضوح، أنه ليس لدى ماكيافيللى ما لا يمكنني أن أتعلم منه، فأنا أعرف من الجيل فوق ما يعرف، فلا داعي للاستمرار في ترجمته.

هذا ما يقوله التاريخ عن محمد علي. ولكن ماذا يقول عبد الناصر عنه؟! ما جاء في الميثاق:

- لقد كانت اليقظة الشعبية هي القوة الدافعة وراء عهد محمد علي، وإن كان هناك شبه إجماع على أن محمد علي مؤسس الدولة الحديثة في مصر فإن المأساة في هذا العصر أن محمد علي لم يؤمن بالحركة الشعبية التي مهدت له حكم مصر. إلا بوصفها نقطة وثوب إلى مطامعه. ولقد ساق مصر وراءه إلى مغامرات عقيمة استهدفت مصالح الفرد ومتجاهلة مصالح الشعب.

يوشك كتاب قرقوط «480 صفحة من القطع المتوسط» أن يكون ردا على ما قاله المرحوم أحمد بهاء الدين في مجال المقارنة بين محمد علي وجمال عبد الناصر. وأيضا في الرد على مقولة أن محمد علي يشكل البروفة الأولى لجمال عبد الناصر، ومثلما اجتمع الاستعمار القديم لضرب محمد علي وتصفية تجربته. اجتمع الاستعمار الجديد لضرب عبد الناصر ومحاولة تصفية تجربة ثورته. يهدى قرقوط كتابه إلى «جمال عبد الناصر» الذي عشنا في ظله فترة الشموخ. وإلى السائرين على دربه. الحافظين لعهده.

ولأن بهاء مشغول بقضية استيلاء محمد علي على الأطيان بتحديد الملكية للأرض الزراعية في زمن عبد الناصر فإن قرقوط يقارن بين القرارين. فإن كان محمد علي أخذ الأرض لنفسه ولأسرته من بعده. ولكن ثورة يوليو وقادتها يدركون أن الفلاحين هم السند الحقيقي لها. ولذلك أخذت الأرض من الإقطاعيين لتمليكها للفلاحين.

ربما كان من أهم ما في كتاب قرقوط علاوة على التحليل الثاقب. والنظرة الموضوعية. والقدرة على قراءة ما خلف السطور. والاستشهاد بالنصوص الأدبية. في كتابات توفيق الحكيم والمذكرات الشخصية. خاصة مذكرات لويس عوض «أوراق العمر». أقول إنه يستخدم بعض العبارات الدالة لمحمد علي.

قال محمد علي مخاطبا الأوروبيين:

- لا تخافوا. لم أعمل في مصر سوى ما عمله الإنجليز في الهند. فلديهم جيش من الجنود يقودهم ضابط من الإنجليز. ولدي جيش من أبناء العرب على رأسهم ضباط من الأتراك. وقد قال محمد علي الكلام لمبعوث الدول الأوروبية إليه.

وقال الإمام محمد عبده عن محمد علي في كتابه جريئة:

- ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يحيي. لكن استطاع أن يميت. أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى. كأنه كان يحن لشبه فيه كان ورثه عن أصله الكريم. حتى انحط الكرام وساد اللئام. ولم يبق في البلاد إلا آلات له. يستعملها في جباية الأموال. وجمع العساكر بأي طريقة وعلى أي وجه. فسحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة واستقلال لتصير البلاد المصرية جميعا إقطاعا له ولأولاده. على إثر إقطاعات كثيرة كانت ملكا لأمراء عدة.

وقال محمد علي موجها كلامه إلى ابنه إبراهيم:

- يجب أن يكون معلوما يا بني أن ترقية العربي إلى رتبة نقيب سوف تكون خطرا على مصير أسرتنا. ولو بعد مائة عام.

إن نظرة المؤلف لتجربة محمد علي. يمكن تلخيصها في هذه الخطوات العامة:

(1) إن الاقتصاد المصري أصبح جزءا مكملا للاقتصاد الغربي. وأصبح لا هدف لمواصلات القطر إلا الإسراع بموارد البلاد خاصة القطن نحو موانئ البحر الأبيض المتوسط. والإسراع بالمنتجات الغربية نحو الأسواق الداخلية. وهذا التكامل جعل القوى الرأسمالية حريصة على عزل مصر عن كل تأثير خارجي قد يؤثر عن مصالحها فيها. سواء كانت متمثلة بالمواصلات مع أفريقيا وآسيا أم في الاستثمارات الزراعية والصناعية.

(2) وقد عملت هذه القوى في الداخل على إبقاء مصر مزرعة كبيرة. وعلى ترويج الأفكار التي تؤكد عدم صلاحيتها إلا للزراعة مثل القول إن مصر مخلوقة للزراعة. وظل العمل في الزراعة حتى منتصف القرن التاسع عشر لا يجد تشريعا واحدا ينظمه.

(3) كانت الخطة منذ ظهور محمد علي أن يسلب الشعب إرادته وأن يخفت صوته وأن يحال بينه وبين أي دور يقوم به في المنطقة. وهذا ما دفع أحد كبار كتاب الإنجليز إلى أن يكتب في عام 1881:

- وفى أي اتفاق بيننا وبين الخديوي. أو أي اتفاق بين الخديوي وبين أي قوة أخرى. فإن المصريين أنفسهم لا يمكن أن يكون لهم أي صوت أو أي دور. فإذا كان من البلاهة أن يتطلب مشتري قطيع الأغنام من البائع أن يبرز له موافقة مكتوبة من القطيع – على عملية البيع – فإننا سنتهم بالبلاهة إذا ما طلبنا موافقة الفلاحين المصريين على انتقال بلدهم من مالك إلى آخر.

وطويت صفحة عائلة محمد علي. وفتحت صفحة يوليو. وما أكثر الإنجازات التي يقدمها قرقوط. بل إنه يصل إلى محاولة الرئيس السادات الانقلاب على عبد الناصر. ويصف مشهد نقله عن أحمد بهاء الدين عندما تقدم أحد كبار القوم في الكويت. يعترض على وصف عبد الناصر. في مصر – أنه اختلس أحد عشر مليونا من الجنيهات – ويقول المواطن الكويتي للسادات: إن هذا الكلام عار على مصر. بل عار على الأمة العربية كلها. لقد كانت خزائن العرب ملك يدى عبد الناصر. وكان عبد الناصر رمزا لكل عربي.

إن أكبر شهادة تقدم عن عبد الناصر – وهو ليس في حاجة إليها – ما كتبه يوجين جوستين. مدير المخابرات الأمريكية الأسبق. كتب يقول:

- مشكلتنا الحقيقية مع جمال عبد الناصر أنه بلا رذيلة. مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح. فلا نساء ولا خمور ولا مخدرات. كما لا يمكن شراؤه أو تهويشه. نحن نكرهه ككل ولكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا إنه فعلا بلا رذيلة وغير قابل للفساد.

تبقى لي شهادتي. ورغم كل ما يمكن أن يقال عن محمد علي. في ميدان الدراسة التاريخية والتحليل السياسي. فقد أسس البنية التحتية – وهو تعبير حديث – لإنشاء مصر الحديثة. الكلام عن مشروعه الشخصي. والتجاوزات التي وقعت لا يقلل من أنه كانت هناك محاولة لبناء دولة إقليمية عظمى في المنطقة. حتى لو كان ذلك من أجل حاكم فرد. أراد توريثها لأسرته. أما تجربة عبد الناصر فقد رصدها الكاتب من خلال المقارنات التي لم تكن مقصودة بين محمد علي وعبد الناصر.

وبالتالي فإن الكلام عن الدور الذي لعبه الرئيس السادات في الهجوم على عبد الناصر. والعودة إلى العلاقة بينهما والفرص التي منحها عبد الناصر للسادات تأكيدا لأهمية مشروع عبد الناصر. إن هذا الكاتب «المخلص» في كتابه الوثيقة يريد القول: إن محمد علي أسطورة صنعها الخيال المصري. ولكن جمال عبد الناصر كان يشكل بسلوكه ورؤاه وتصوراته وما قام به في أرض الواقع حقيقة المصريين. الحقيقة المؤكدة لكل مصري فرد، وبالتالي قد أصبح حقيقة كل المصريين جميعا.