أفكار وآراء

اقتصاديات وهيكلة المؤسسات الثقافية

29 مارس 2017
29 مارس 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

واحدة من أكثر الكلمات التي تتردد في المجالات الاقتصادية والسياسية والتشريعية والثقافية الخ هي كلمة الهيكلة وهي ترد عادة مسبوقة بمفردة إعادة ولأن مفهوم إعادة الهيكلة يتسع لتفسيرات متناقضة للغاية فان ظهور هذه العبارة في أي مؤسسة عامة او خاصة عادة ما يثير الفزع بين العاملين لأنهم يعتقدون أنها ستكون مصحوبة بكل تأكيد بعاملين أساسيين أولهما هو ما يعني ان جانبا من القوى العاملة ستفقد وظيفتها بغض النظر عما اذا كان ما سيحصل عليه المسرح من تسوية مرض ام لا كما ان عبء العمل على من تبقى سيزيد بكل تأكيد حيث سيؤدي نفس العمل وربما اكثر عدد اقل من العاملين والعنصر الثاني الذي يصاحب إعادة الهيكلة من وجهة نظر المنتسبين هو حدوث مزيد من التفاوت في الأجور بدعوى تقدير الكفاءات والغريب ان خطط الهيكلة عادة ايضا ما يكون من اهدافها خفض الانفاق والتكاليف، غير انه كثيرا ما يحدث ان يتم اللجوء الى طلب خدمات استشارية من شركات (ماركيتنج ) وإعادة هيكلة واستشارات وميديا بمبالغ تظل طوال الوقت غير مبررة في نظر الكثير من العاملين في المقابل تنظر الادارة التي تلجأ الى اعادة الهيكلة اليها باعتبارها ضرورة حتمية و إلا فان الوضع الراهن قد يفضي الى إفلاس المؤسسة وفي هذه الحالة سيخسر الجميع ، ثم فإن التضحية بجزء من الأيدي العاملة هو امر يجب ان يكون مقبولا ومبرر الادارة الدائم هو ان المنافسة حادة وان اسعار المدخلات (أي مدخلات ) زادت او تزيد وان الإنتاجية في الكيان اقل من الانتاجية المعيارية او تلك التي لدى الآخرين ومن واقع الخبرات التي عاينتها في الحياة فان القليل من تجارب اعادة الهيكلة هو الذي يحدث في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة ويلقي الاستجابات الجيدة من الاغلبية وسبب ذلك ان الكثيرين من اصحاب الشركات او المؤسسات يلجأون الى اعادة الهيكلة في مرات غير قليلة كموضة او تشبها بأقرانهم وهؤلاء ايضا عادة ما يقومون بإعادة الهيكلة طبقا لنموذج استاتيكي جامد ولا يلقون السمع الى مقترحات وآراء الآخرين بمن فيهم العاملون انفسهم باستثناء ما يسمعونه من طبقة المديرين في اعلى الهرم وهؤلاء يرددون ما يود المالك ان يسمعه اضافة الى ما تقدم فان من النادر ان نجد في بلد عربي نموذجا وطنيا للإدارة بما فيها ما تتطلبه احيانا من عمليات اعادة هيكلة ولذلك فليس امام من يريد القيام بهذه العملية سوى اللجوء الى الحلول المعلبة المستوردة مهما كانت جديتهم وحسن نواياهم .

كل ما مضى ربما يتعلق بالشركات الخاصة اكثر حيث اعادة الهيكلة في المؤسسات الحكومية هو عمل اشق واعقد بكثير وهذا ينقلني مباشرة الى الزاوية التي اخترت ان اتناول الموضوع من خلالها وهي المؤسسات الثقافية .

لقد قال الدكتور عماد ابوغازي وزير الثقافة المصري الاسبق والذي تولى الحقيبة بعد ثورة يناير 2011 ان احدى المؤسسات المسرحية التابعة للدولة يعمل بها نحو 500 فنان بين ممثل وممثلة بكل الدرجات الوظيفية وهم بين ممثل وماكيير ومصمم ديكور وازياء والمخرجين ومساعدين لهم الخ بينما يبلغ عدد الاداريين 750 فردا والمضحك المبكي على حد تعبير الوزير ان بعض الاداريين طالبوا في احدى المرات بزيادات غير منطقية في مرتباتهم فلما قيل لهم لماذا وانتم تعلمون ان الايرادات لا تغطي الا جانبا صغيرا من التكاليف والاجور اجابوا بأن الفنان من هؤلاء لا يعمل سوى ساعتين في الليل (مدة العرض ) ثم يمضي لكننا نحن الذين نحمل عبء العمل لساعات .

انتهى كلام الوزير لكن السؤال ظل يلاحقني كيف يمكن عمل اعادة هيكلة ناجحة وديمقراطية وعادلة في مواجهة منطق كالذي تقدم؟ تبين ايضا في حوار مع الوزير الاسبق بحضور مجموعة من المثقفين ان المتاحف الحكومية تغلق عادة ايام الاجازات اي الجمعة والسبت وهي الايام الوحيدة تقريبا التي يمكن للمواطنين ان يترددوا فيها على المتاحف والطريف أن مسؤولا متحفيا رد على ذلك بالقول ان فتح المتاحف ايام الجمعة هو تكلفة بلا أي عائد لأنه كثيرا ما يحدث ان يزور المتحف شخص واحد في اليوم فإذا ما عرفنا تكاليف حضور الموظفين والكهرباء والتأمين الخ لعرفنا انه امر غير مقبول، وجاء رد على الرد يوضح انعدام عمليات التسويق للمتاحف او التعريف بها والترويج لها وفي كل الحالات فان اعدادا هائلة من الموظفين يعملون في متاحف الدولة وهي في هذه الحالة في حاجة ماسة الى اعادة هيكلة بالمعنى الآمن تماما للموظفين أي الخالي من اي عمليات تسريح (وتسريح موظف الحكومة او العامل في شركات القطاع الاعمال العام شبه مستحيل ) كما انها لن تنطوي ايضا على أي خفض في المرتبات كل ما في الامر انها ستتطلب إعادة توزيع الادوار والقيام بوظائف جديدة حيث اصبحت المتاحف وفقا للمتعارف عليه عالميا ليست مؤسسات للفرجة فقط ولكن ايضا للثقافة والمعرفة والمتعة بل ان كاتب هذه السطور حضر عشاء نظمته شركة وساطة مالية لمستثمرين مصريين واجانب بمتحف التاريخ الطبيعى بلندن وتبين لي وقتها ان المتحف يزيد من ايراداته بهذه الطريقة حيث يخصص بهو المدخل الخالي من المعروضات تقريبا او قاعة مناسبة لهذا الامر فضلا عن انه يروج لنفسه بين من يحضرون هذه الحفلات كما تبيع المتاحف مستنسخات مطبوعة جيدا من اهم الاعمال وكتبا ذات صلة وتفتح ورشا فنية بأجر معقول لتدريب الطلاب على النحت والرسم بل والموسيقى الخ، مع كل ذلك لا اتصور ان الحكومة يمكن ان تقوم بإعادة الهيكلة التي وصفناها سابقا كما لا يمكن للموظفين ان يقبلوها فقد استمرأ الجميع الوضع الراهن او اصبحوا يشعرون انه كالقدر الذي لا فكاك منه لكن الملاحظ من تحليل شخصي لنفسية الموظفين في مصر ان الوعد بزيادات في الدخل مقابل اعمال محددة يفعل مفعول السحر وهم غالبا ما يخترعون اعمالا شكلية اصافية تقتضي منهم السفر او السهر ليلا من اجل الحصول على دخل أعلى وكل ما في الأمر ان المطلوب هذه المرة سيقترن بأعمال فيها قدر من الابتكار وتتطلب نوعا من التدريب وبإمكان قيادة قوية وحاسمة وعادلة ان تحقق فارقا في هذا المجال لكن في كل الحالات اذا كانت اعادة الهيكلة الحكومية في الدواوين العامة او في الهيئات الاقتصادية او الشركات المملوكة للدولة صعبة للغاية بسبب القيود القانونية والإجرائية وتعقد اللوائح فان الأمر اكثر صعوبة في المؤسسات الثقافية العامة وسأعطي مثلا آخر فالفرق القومية للرقص مثلا يتم تعيين الراقصين فيها والراقصات كموظفين على درجات والمعروف ان لياقة كل منهم تنحسر تماما عند عمر الاربعين وبعدها يظل يترقى كموظف دون ان يفعل شيئا له قيمة الى ان يبلغ ستين عاما. من اجل كل ما تقدم هناك دعوة اطلقها الدكتور عماد ابو غازي نفسه وآخرون بإعادة تعريف دور الدولة في المجال الثقافي بحيث تقوم الحكومة بالإنتاج في حدود ضيقة وبمعايير متعارف عليها كتمويل انتاج اعمال الاوبرا او المسرح القومي وفيما عدا ذلك تقوم بدعم القطاع الخاص والاهلي و تيسير الابداع وصيانة التراث وتنمية الحرف الشعبية ورعاية الموهوبين وحفظ حقوق الملكية الفكرية وتوزيع الخدمات الثقافية بشكل عادل .

منطق مقبول تماما لكن متى سيحدث ذلك بعد كل هذا التدخل المركزي الزائد للدولة في النشاط الثقافي والمعرفي؟ الله اعلم .