أفكار وآراء

الأمين العام للأمم المتحدة وعلاقته بالقوى الكبرى !!

26 مارس 2017
26 مارس 2017

عماد عريان -

ان مفهوم العدالة الدولية لا يزال غائبا في الممارسات الدولية وان ديمقراطية الأمم المتحدة هي ديمقراطية انتقائية تخضع للأهواء السياسية والمصالح الذاتية للقوى الفاعلة على الصعيد الدولي وعلى رأسها بالقطع الولايات المتحدة والقوى الغربية بشكل عام، ولكن الإنصاف«المرير» يقتضي أيضا التأكيد على أن هذه الحقائق «المؤسفة» ليست وليدة اليوم، ولكنها مستمرة منذ عقود عديدة ربما منذ نشأة المنظمة الدولية ذاتها ومعها جذور عدم المساواة وغياب العدالة الدولية.

أحد الملفات السياسية المهمة التي نشرتها صحيفة «عمان» في الأسابيع القليلة الماضية تضمن مجموعة من المقالات تتحدث عن المهام العاجلة أمام الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس من حيث الآمال والطموحات والإمكانات، وخاض بعضها في المساحة المحدودة التي يستطيع الأمين العام التحرك فيها بفاعلية أو بشيء من الاستقلالية في ضوء سطوة القوى الكبرى وغياب الإرادة السياسية الدولية الحقيقية التي تمكن من حل المشاكل والأزمات الدولية الراهنة على اسس عادلة ودائمة، ولعل ما جاء في هذا الملف يمثل تفسيرا مبكرا للمواجهة«المؤلمة» التي تفجرت في الأيام الماضية بين الأمين العام وبين «ريما خلف « الأمين العام التنفيذي للجنة الاجتماعية الاقتصادية لغربي آسيا (الإسكوا) وأدت في نهاية المطاف إلى استقالتها بعدما تجرأت على نشر تقرير واقعي يدمغ الممارسات الإسرائيلية بالعنصرية ويعتبرها شكلا جديدا من سياسة ( الأبارتهيد ) القائمة على الفصل العنصري في دولة جنوب إفريقيا قبل سقوطها في تسعينيات القرن الماضي.

لقد كشفت هذه المواجهة عن عدم قدرة جوتيريس او ربما عدم رغبته في الصمود أمام مواجهة التأثير الأمريكي - الإسرائيلي القوي، وكذلك عدم قدرته على الدفاع عن عمل إحدى المؤسسات المهمة التابعة للمنظمة الدولية ، وبما يعني أن الرجل لن يتجاوز حدود المساحة المحددة له كأمين عام للأمم المتحدة للتحرك في إطار معلوم يحفظ له وظيفته وكأنه يعلن مبكرا مراعاته لحقائق ميدانية تفوق قدراته وإمكاناته على المواجهة، ويفسر ذلك موافقته على استقالة «ريما خلف»، بل وطلبه حذف تقريرها الذي اتهم إسرائيل بالعنصرية ضد الفلسطينيين من الموقع الإلكتروني للجنة الأممية، وبالفعل فان التقرير لم يعد موجودا على الموقع بعد هذا القرار، وعلى الرغم من محاولات تبييض وجه الامين العام من قبل مساعديه بأن موقفه واضح إزاء الملف الفلسطيني الإسرائيلي وتأكيده مرارا مساندته لحل الدولتين باعتبار ذلك الطريق الوحيد للسلام بين الطرفين، إلا أن جوتيريس تبرأ من نتائج التقرير مما أدى إلى جدل كبير في دهاليز المنظمة الدولية.

ولاشك في أن المهنية رفيعة المستوى كانت وراء إصرار « ريما خلف» على التمسك بما توصل إليه التقرير من أن إسرائيل أسست نظام فصل عنصريا يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى بالأدلة القطعية والواجب يفرض تسليط الضوء على الحقيقة لهذه الممارسات التي لا يمكن تبريرها، وأوضحت أنه برغم كل الضغوط أن التقرير يظهر أن إسرائيل قسمت الشعب الفلسطيني إلى أربع فئات تخضع كل منها لترتيبات قانونية مختلفة، تحرم الفلسطينيين من حقوقهم وتجعل مقاومتهم لهذا الظلم شبه مستحيلة، في حين وصف الأمين العام للمبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوثي موقف ريما خلف وفريق البحث الذي كتب التقرير بالإنساني والعلمي الصادق، وإن ما كشفه التقرير هو ما تحدث عنه الفلسطينيون منذ أكثر من أربعة عشر عاما بأن هناك جريمة أبارتهيد عنصري، وأن التقرير قدم وثيقة علمية موضوعية مستندة إلى معلومات ومعطيات وأرقام دقيقة تثبت ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم تطهير عرقي، واعتبر البرغوثي أن التقرير لا بد أن يكون دافعا للسلطة الفلسطينية حتى تحيل فورا ملف إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبتها على الجرائم التي ترتكبها، وأعرب عن أسفه لرضوخ الأمين العام «للإرهاب الفكري» الذي تمارسه إسرائيل والابتزاز والمطالبة بسحب التقرير.

وجاءت استقالة «ريما خلف » من منصبها لتعكس موقفا شجاعا حتى في نص الاستقالة ذاتها التي سيحفظها التاريخ بكل تأكيد للمواقف الإنسانية الخالدة، ما يجعل عرض أجزاء نصية منها أمرا مبررا حيث قالت في خطابها الى الأمين العام للأمم المتحدة : ليس خافيا علي ما تتعرض له الأمم المتحدة، وما تتعرض له أنت شخصيا من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ بسبب إصدار تقرير الإسكوا (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتهيد) وأنا لا أستغرب أن تلجأ هذه الدول التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون، وبديهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه، لكنني أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط، ليس بصفتي موظفة دولية، بل بصفتي إنسانا سويا فحسب أؤمن - شأني في ذلك شأنك- بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي طالما شكلت قوى الخير في التاريخ والتي أسست عليها منظمتنا هذه، وأؤمن مثلك أيضا ، بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول ، ولا يمكن أن يصبح مقبولا بفعل الحسابات السياسية ، أو سلطان القوة ، وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط ليس حقا للناس فحسب،بل هو واجب عليهم» .

وكشفت « أنه في فترة لا تتجاوز الشهرين وجهت إلي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الإسكوا، لا لشوائب تعيب المضمون ، ولا بالضرورة لأنك تختلف مع هذا المضمون، بل بسبب الضغوط السياسية لدول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة ولحقوق الإنسان عموما، ولقد رأيت رؤية العين كيف أن أهل هذه المنطقة يمرون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث وأن طوفان الكوارث الذي يعمهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم تم التغاضي عنها أو التغطية عليها أو المساهمة المعلنة فيها من حكومات ذات هيمنة وتجبر من المنطقة ومن خارجها، إن هذه الحكومات ذاتها هي التي تضغط عليك اليوم لتكتم صوت الحق والدعوة للعدل الماثلة في هذا التقرير. واضعة في الاعتبار كل ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد على إصراري على استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري،أبارتهيد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى، إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أيا ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري«أبارتهيد» ما زال قائما في القرن الحادي والعشرين وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون ولا أن يبرر أخلاقيا بأي شكل من الأشكال وإنني في قولي هذا لا أدعي لنفسي أخلاقا أسمى من أخلاقك أو نظرا أثقب من نظرك،غاية الأمر أن موقفي هذا قد يكون نتيجة لعمر كامل قضيته هنا في هذه المنطقة شاهدة على العواقب الوخيمة لكبت الناس ومنعهم من التعبير عن مظالمهم بالوسائل السلمية»

هذه المواجهة وكلمات «ريما خلف » تعني أن مفهوم العدالة الدولية لا يزال غائبا في الممارسات الدولية وأن ديمقراطية الأمم المتحدة هي ديمقراطية انتقائية تخضع للأهواء السياسية والمصالح الذاتية للقوى الفاعلة على الصعيد الدولي وعلى رأسها بالقطع الولايات المتحدة والقوى الغربية بشكل عام، ولكن الإنصاف«المرير» يقتضي أيضا التأكيد على أن هذه الحقائق «المؤسفة» ليست وليدة اليوم، ولكنها مستمرة منذ عقود عديدة ربما منذ نشأة المنظمة الدولية ذاتها ومعها جذور عدم المساواة وغياب العدالة الدولية. ولكي تكتمل الصورة في السعي لإدراك الأبعاد الحقيقية للمواجهة الراهنة حول تقرير الإسكوا، فقد يكون من المناسب العودة لبعض الوقائع التاريخية ذات الصلة، ليس بينها التجاهل الإسرائيلي - الغربي لمئات القرارات والتقارير والتوصيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وملحقاتها وتطالب جميعها بمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وتجريم الممارسات الإسرائيلية ومن بينها وأحدثها قرار مجلس الأمن الدولي في نهاية العام الماضي بتجريم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، ولكن المقصود هنا بعض الوقائع المحددة في زمانها ومكانها ومن بينها؛

تقرير مذبحة قانا التي ارتكبتها إسرائيل في أبريل عام 1996 ضد المدنيين العزل في جنوب لبنان، وكان نشره وتحميله إسرائيل مسؤولية تلك المجزرة سببا في إطاحة الأمين العام للأمم المتحدة وقتها المصري الراحل د. بطرس بطرس غالي، وهناك أيضا لجنة التحقيق في مجزرة جنين التي ارتكبتها اسرائيل بحق الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية عام 2002 ولكن الأمين العام وقتها كوفي عنان اضطر لإلغائها بضغوط أمريكية - غربية عنيفة مما جنب إسرائيل اتهامات بارتكاب جرائم.

وعودة أخرى إلى نجاح الضغوط الغربية في إلغاء قرار دولي صادر عن الأمم المتحدة يساوي بين الصهيونية والعنصرية في عقود القرن الماضي، إنها حقائق مؤلمة بالفعل ولكنها تؤكد استمرار الظلم الواقع على الفلسطينيين والكيل بأكثر من مكيال في التعامل مع القضايا الدولية، وكذلك استمرار مأزق الأمين العام المطالب بتطبيق سياسات «لا أسمع .. لا أرى .. لا أتكلم» إلا في حدود مساحة معينة إذا ما أراد الاستمرار في منصبه !.