صحافة

الحياة الجديدة: ثنائية «عرفات - درويش» صاغة هويتنا ووعينا الوطني

17 مارس 2017
17 مارس 2017

في زاوية مقالات وآراء كتب باسم برهوم، مقالاً بعنوان: ثنائية عرفات درويش صاغة هويتنا ووعينا الوطني، جاء فيه:

ثنائية القائد السياسي ياسر عرفات والشاعر محمود درويش، هي أقرب الى ثنائيات الأساطير اليونانية، لما فيها من ترابط. وكما هي وبما فيها من اختلاف في آن معاً، ما يجعلها تأخذ طابعاً ملحميا تكاملياً تكتسب حالة الخلود. لا احد يمكنه التشكيك بأنهما رمزان للحُرية والثورة، رمزان وطنيان وقوميان وعالميان، حتى الأعداء الذين عملوا كل ما في وسعهم للنيل من هذه الرمزية، والمس بها هم يُدركون قبل غيرهم عظمة وتاريخية الرجُلين. قال درويش بهذا الشأن، وهو يرثي القائد السياسي الرمز ياسر عرفات، شارون لا يُحارب الشخص، ولا يُحارب نصه الوطني فحسب، بل يُحارب إشعاع الرمز في الزمان، ويحارب أثره في الذاكرة.. عرفات الذي يعي بعُمق ما أعد لنفسه من مكانة في تاريخ العالم المُعاصر، اشرف بنفسه على توفير وجع ضروري للفصل الأخير من أسطورته الحية. أما ياسر عرفات قائد الثورة فكان يُدرك، أن سطوع نجم محمود درويش وسطوع رمزيته الشعرية والثقافية والفكرية، يُضيف للظاهرة الفلسطينية بُعداً هاماً وتأثيراً معنوياً، هو كقائد وكثورة وكشعب باحث عن هويته هم بأمس الحاجة إلى الشاعر صانع الهوية الوطنية الثقافية. هذه الثنائية لم تأت صُدفة، بل نتاج مرحلة تاريخية وأحداث وتطورات أحاطت بالشعب الفلسطيني والعربي والعالم، وهي نتاج عبقرية شخصية الرجلين. ياسر عرفات الذي لم يستسلم لنتائج نكبة فلسطين عام 1948 وتداعياتها من إلغاء وجود وخارطة وهوية، قادته الى تأسيس فتح في نهاية الخمسينيات وفجر الثورة الفلسطينية المُسلحة المُعاصرة عام 1965، وأعاد بذلك الشعب الفلسطيني كرقم صعب في المنطقة وأعاد صياغة هويته الوطنية، بعد أن جرى طمسها وإذابتها كما استطاع عرفات اعادة توحيد الشعب الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وانتزاع إرادة هذه المنظمة وقرارها السياسي الوطني من براثن الأنظمة العربية. كما وضع القضية الفلسطينية من جديد كقضية شعب، وكقضية حُرية وتقرير مصير على جدول الأعمال الدولي. مرة أخرى نلاحظ كيف رأى درويش ياسر عرفات، بقوله، إن معجزة عرفات في انه اشعل النار في الجليد، قاد ثورة مُعاكسة لأي حساب، لأنها ربما جاءت قبل أوانها، أو بعد أوانها ربما، أو ربما لأن موازين القوى الإقليمية لا تأذن لأحد بإشعال عود كبريت قُرب حقول النفط، او على مقربة من الأمن الإسرائيلي، لم ينتصر عرفات في المعارك العسكرية لا في الوطن ولا في الشتات، لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني الفلسطيني. أما درويش، الذي ولد في قرية البَروة شمال فلسطين عام 1941، وهاجر مع أسرته الى لبنان، ومن ثم عادوا الى فلسطين فوجد البروة قد مُسحت عن بكرة أبيها، كما مُسحت خمسمائة قرية فلسطينية أخرى. درويش هذا الذي عاش لاجئا على ارض وطنه، لمس مُبكراً المحاولات الصهيونية والإسرائيلية لإلغاء الوجود الفلسطيني، وطمس هويته السياسية والثقافية، وأكثر من ذلك تفكيك ذاكرة الشعب الجماعية ليسهل الانقضاض عليه. درويش الذي رأى ولمس كل ذلك، أدرك أهمية إعادة صياغة الهوية الثقافية الوطنية للشعب الفلسطيني من أجل الحفاظ على وجوده، وعلى استمراريته كشعب بكفاح من أجل حريته واستقلاله. هُنا يكمن سر هذه الثنائية التكاملية، عرفات أعاد صياغة الهوية الوطنية السياسية، ودرويش أعاد صياغة هويته الوطنية الثقافية على أساس مبادئ الحُرية والتمسك بالأرض وذاكرة الشعب الجماعية. والسر الآخر لهذه الثنائية، هو إدراك كل من عرفات ودرويش حاجة كل منهما للآخر للقيام بمهمته التاريخية، لذلك عندما استشهد الرمز ابو عمار، قال درويش، هنا تواصل العرفاتية معها، وهناك لا يكون عرفات فرداً بل تعبيراً عن روح شعب حيّ، في كل واحد منا فكرة شخصية منه، وفي كل واحد منا وعي وهوية لا تعاني من قلق، لن نكون فلسطينيين إلا إذا كنا عرباً ولن نكون عرباً إلا اذا كنا فلسطينيين. وبالرغم من هذه الثنائية التي أملنها المرحلة والواقع والحاجة، فإن بقدر ما كان فيها من علاقة صداقة شخصية، فإنها لم تخل من النقد والاختلاف، فقد ظهر الاختلاف في احد ابرز تجلياته، بعد توقيع عرفات على اتفاقيات اسلو، هنا برز الفارق بين السياسي والشاعر بين البراغماتي المناور وبين الضمير، لذلك لم يتردد درويش في الاستقالة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعندما استقال طلب من عرفات، أن يتفرغ لكتابة الشعر لأنه كان يدرك الآثار السلبية للاشتباك السياسي العلني بين قطبي الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. لم يُدرك أحد المعنى الأعمق لياسر عرفات ودوره التاريخي، مثل ما أدركه درويش، لذلك كان حريصاً على الحفاظ على الرمز في ذاكرة الشعب، واستمرار هذه الرمزية عبر الأجيال، لذلك قال: إن ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة الى جمرة المقاومة الى فكرة الدولة. ويقول عرفات الواقعي الى أقصى الحدود كان بحاجة الى تطعيم خطابه بقليل من البعد الغيبي، لأن الآخرين (ويقصد الحركة الإسرائيلية) أضافوا الى الصراع الحاضر صراعاً على الماضي، لمحو الحدود بين ما هو تاريخي وما هو خرافي، وذلك بهدف تجريد الفلسطيني من شرعيته ووجوده الوطني على هذه الأرض. بالمقابل لم يُدرك أحد المعنى الأعمق للشاعر درويش، ولدوره التاريخي في صياغة الهوية الوطنية الثقافية للشعب الفلسطيني، كما أدرك قائد الثورة، لذلك جعل منه صديقا ورفيق درب، وحافظ على وجوده كحالة ثقافية وابداعية في مقدمة صفوف الثورة، وكان بالنسبة له بمثابة الابن والصديق والناصح. اليوم خلد الشعب الفلسطيني الرمزين، بأن أُقيم لكل منهما مُتحف يُعبر عن عظمة القائد السياسي التاريخي، والشاعر التاريخي، ولكن الأهم أن يبقى من صاغا الوعي الوطني بأبعاده السياسية والثقافية، بأبعاده التحريرية النهضوية، أن يبقيا و تبقى هذه الثنائية مترابطة في وعي أجيالنا، جيلاً بعد جيل.