946882
946882
شرفات

الوجه والقناع

06 مارس 2017
06 مارس 2017

آمنة الربيع -

يؤكد الدكتور فؤاد أبو منصور في كتابه المهم (النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوروبا: نصوص- جماليات- تطلعات) على أن اللقاءات الشخصيّة مع الأدباء والباحثين والفلاسفة المعاصرين هي جزء لا يتجزأ لإنارة بعض الجوانب المعتمة في حياة هؤلاء. وتنبع الدلالة المعاصرة لتلك اللقاءات والأحاديث المباشرة مع الأديب، من كونها تشكل مرحلة أو انعطافة معرفية متحولة لاتصالها بتتابع المنجز الفكري والنقدي والإبداعي. وعليه فهذا الربط بين الفكر والاشتغال المعرفي للناقد، ولقاءاته الشخصيّة العميقة أقرب ما يكون إلى علاقة الوجه بالقناع في مسرح النو الياباني.

ومثلما تطور استخدام القناع عبر العصور، فاللقاءات الشخصية أيضا تتطور، شأنها شأن الكتابة والنقد والفنون والإنسان. وإذا كان الممثل (ثيسبس) الإغريقي أول من وضع قناعا على وجهه، بل عدة أقنعة، ليخدم الشخصية الدرامية التي سيؤديها في حضرة المعبد والمسرح؛ فاللقاءات الشخصية العميقة مع المفكرين والنقاد، لا يراد منها التمثيل الدرامي بالطبع؛ إنّما كما أسلفنا القول، إنارة أو إضاءة الجانب المعتم الذي لا نراه غالبًا في أبحاث الناقد أو مقولات الفيلسوف. ومن هذا المنظور الوظيفي يمكننا كذلك النظر إلى الجانب المعتم في حياة الشخصية النقدية كأحد أشكال الشعائر والطقوس الدينية التي وُظَّف فيها القناع. كأنّ اللقاءات الشخصية العميقة التي تكشف حياة الناقد متجذرة في اللاوعي، وهذا لا يسحب عن الناقد صفات التفكّر والتدبَّر والتعقّل في الكلام والمقولات. فكل ما يقوله الناقد من ألفاظ وتراكيب وتضادات بلاغية إنّما تصب في صُلب أطروحاته الفكرية واشتغالاته النقدية، وهي في نهاية الأمر مسألة واعية جدا، وإنّ تجذرت كما أسلفنا، في اللاوعي.

من بين اللقاءات المهمة التي أجراها الناقد أبو منصور ونشرها في هذا الكتاب، اللقاء مع رولان بارت. ماذا يعني لنا رولان بارت في مؤلفاته (درجة الصفر في الكتابة؟ وأساطير؟ ولذة النص؟ وأمبراطورية العلامات؟ مقاطع من خطاب عاشق؟) وغيرها الكثير. هل هذه الكتب هي وجوه أم أقنعة؟ أين الجزئي منها وأين الكلي؟ أين المبنى فيها وأين المتن؟

محاولة للعثور على أجوبة تفصل وجه رولان بارت عن قناعه تعّد محاولة فاشلة لكنها ليست يائسة. ربما هناك بعض المداخل المتيسرة، فعلى سبيل المثال المرحلة الفكرية التي حضرّ فيها رولان بارت كتابته عن راسين 1963م والجدل الذي أثاره حين صدوره لدرجة دعت الناقد الجامعي بيكار يقول عن الكتاب متسائلا: هل هذا نقد جديد أم دجل جديد؟ مرحلة مختلفة عما قدمه بارت في كتابه (أجزاء من مقال عاشق 1977م) وفيها على ما يبدو إعلان الخروج من الشكلية والبنيوية. يلخص أبو منصور بعض مؤلفات بارت التي تُرجمت إلى العربية توزع نتاجه على ثلاثة مراحل رئيسة:

الأولى سماها مرحلة البحث الاجتماعي وتبدت في كتابه (أساطير 1957)، والثانية مرحلة البنيوية وعلم العلامات. وأما الثالثة فمرحلة النقد الشعري. والناظر في هذه المراحل المتصلة يستنتج أن بارت قد نظر إلى الكتابة كشكل من أشكال الالتزام تجاه الفرد والكون والمجتمع. يقول: «إن الكتابة لا يمكن أن تكون ساذجة، إنّها ذات بعد سياسي - تاريخي- لغوي» والكتابة بهذا المعنى البارتي هي نوع من أنواع النضال الحرّ لإقامة حوار بين الإنسان والتابوهات التي تتحكم في توجيه مصيره. الكتابة ليست ترفا، إنّها شغل.

شغل بارت الذي مات في عصر زاهي بالحداثة في الفكر والنقد والإبداع (12 نوفمبر 1915- 26 مارس 1980) مكانة أدبية مرموقة. لقد اقترن اسمه بآخر إنجازات أوروبا النقدية والفكرية، ومن هنا، جاءت كلمات سائق الشاحنة التي صدمت بارت بعد رؤيته الدم، جاءت معبرة ومليئة بالتقدير والأسف الشديدين. قال: «لو عرفت أنني سوف ألحق الأذى برجل يتمتع بهذه الأهمية، لترددت في الخروج إلى العمل في ذلك الصباح»!

يكتب أبو منصور أن «أهمية بارت أنه قارئ جيد في زمن الشك والرتابة والسطحية» وهذا الوصف يأتي اليوم لنقرأه قراءة هادفة لزحزحة بعض المفاهيم التجارية لدى بعض النقاد المعاصرين الذين يتاجرون بالتفاهة والمجاملات والأحكام السطحية على حساب النقد والفكر، وليس ذلك حكرًا على الأدب، بل على جميع صنوف المعرفة.

(2)

تبدو العلاقة الجدلية بين الوجه والقناع في حياة الناقد زاوية تدفعنا للتأمل، أو هضبة يُطل منها على وظيفة النقد اليوم. ما الذي يتمخض عن قراءة بارت ودريدا وتودوروف وكرستيفا؟ هؤلاء الذين شكلوا توجهات نقدية ومحطات فكرية ملهمة، بانطلاقتهم من البنيوية وخروجهم عليها؟ ما الدرس الذي نستفيده؟ وهذا السؤال لا يأتي اعتباطيًا، إنما ينشغل بقضية الوجه والقناع معا. من الملاحظ أن النقاد والمفكرين الذي ذكرناهم قد هاجروا من بلدانهم إلى باريس عاصمة النور والجمال. وقد استطاعوا جميعهم بناء أسس فكرية وتشكيل رؤى نقدية معمّقة، ما زلنا نغرف منها إلى يومنا هذا، فنجحوا بتحقيق ذواتهم وفرض موضوعاته في الجامعات الأوروبية، وأستعير هنا تعليق أحد الناشرين على نبأ وفاة رولان بارت التالي، لقد تحولت حياتهم المظلمة إلى منارات مشعّة، على عكس النقاد العرب الذين هاجروا ثم عادوا إلى أوطانهم بخفي حنين! بل لم يستطيعوا أن يتركوا بصمة عميقة في البلاد التي ذهبوا إليها، ويمكن قياس ذلك على اشتغالات عديدة في مجالات الفكر والإبداع والنقد، والاستثناء الوحيد هو للمفكر والأديب الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد.

والعلاقة بين الوجه والقناع هي علاقة انتقال قد يؤدي ذلك إلى حدوث سوء فهم أو إلى تمرد أو تراجع أو نكوص. هذا ما أستنتجه من رأي تزفيتان تودوروف في بارت. فقد شابت علاقتهما حساسية كبيرة بسبب الانتقال من نظرية نقدية لأخرى. يقول تودوروف: «... من الممكن اتهامه بتغيير آرائه على نحو غير مسؤول، موقعا مريديه في حيرة بالغة، خصوصا أنه انتقل في فترة لا تتعدى 20 سنة من الماركسية إلى البنيوية، ثم إلى فريق تل-كيل...».

الناظر إلى رأي تودوروف في بارت يعطينا مساحة للوقوف عند السنوات المفترض أن يقضيها الناقد عاكفا على اختبار النظرية النقدية! لا شك أن العمر الزمني هو نوع من الافتراض المغلوط. أعتقد ذلك. أفهم جيدا أن الإبداع لا ينطبق عليه كلام تودوروف، لكن في النقد القضايا بمحمولاتها إنما تتشكل في فضاءات انفتاح النقد على المعرفة والتجريب والفنون وعلى تطور اللغة وعلومها. وأرى أن حساسية تودوروف من بارت أحد أسبابها الباطنية يتمثل في نتاجات بارت الشعرية وكتاباته الذاتية الخالصة. في سؤال وجهه الدكتور أبو منصور إلى بارت متوقفا معه عند كتابه (مقاطع من خطاب عاشق) يجيب بارت قائلا: «طبعا بارت هو هو، في الأدب والتاريخ وعلم اللغة... والكتاب لا يعود إلى النصوص وحدها. لكنه يرتد إلى تجارب حية من حياة أصدقائي وحياتي الشخصية»

لا مجال الآن لعقد أي حوار مع رولان بارت أو احتساء فنجان قهوة مع تزفيتان تودوروف في الآخرة. لقد رحلا عن الدنيا في زمن يُجسد القيامة في درجة الصفر السالبة. لم يكن بارت لينفصل عن وجهه المنجز في الفكر والمعرفة واللغة، فليس لقناعه وربما أقنعته الإبداعي في لقاءاته الشخصية الشديدة الثراء إلاّ أن تؤكد على قيمة الباطن في الخارج. كتب ميكيافيللي قائلا: «ما تظهر عليه، يراه الجميع، أما ما أنت عليه، فقلة هم من يدركونه»