أفكار وآراء

مياه كثيرة تحت جسور الأزمة الليبية

04 مارس 2017
04 مارس 2017

عماد عريان -

مياه كثيرة جدا جرت خلال الأيام القليلة الماضية تحت جسور الأزمة الليبية في اتجاهات متعددة ولكنها جميعا تلتقي عند نقطة حاسمة تتعلق بضرورة عبور الجسور وتجاوز العقبات والخروج من هذا المأزق بتسوية سياسية شاملة، بعض التطورات التي جرت بشأن الملف الليبي في الفترة الأخيرة يتسم بالإيجابية الشديدة وبعضها تواكبه سلبيات ظاهرة، ولكنها ليست خطيرة، وبعضها الآخر غامض ومحير ويبعث على القلق لخطورته الشديدة، ويدعو في الوقت ذاته إلى البحث والتنقيب عن الأطراف الداخلية والخارجية التي قد تكون مستفيدة من تخريب أي مفاوضات ونسف العملية السلمية برمتها!

وأغلب الظن أن بعض التطورات الأمنية التي جرت في مدينتي بنغازي والعاصمة طرابلس تندرج في هذه الخانة - خانة التطورات الخطيرة - وأبرز أحداثها محاولات الاغتيال التي وقعت بخصوص عدد من المسؤولين الليبيين في المدينتين وعلى رأسهم فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي الليبي من خلال مهاجمة موكبه ووصفت العملية بأنها محاولة اغتيال، وكذلك محاولة الاغتيال التي تردد أنها استهدفت مسؤولا عسكريا كبيرا في بنغازي، وعلى الفور كانت الاتهامات المتبادلة قد انطلقت من أطراف عديدة إلى شخصيات بعينها في محاولة واضحة لإشعال الموقف أو صب المزيد من الزيت على النيران المتأججة أو الكامنة.

وخطورة تلك التطورات وما صاحبها من تصريحات هو التوقيت، فقد جاءت في الوقت الذي برزت فيه جهود عربية مخلصة وخاصة من دول الجوار الليبي لوضع العملية السياسية على طريقها الصحيح وصولا إلى استقرار الدولة الليبية سياسيا ومجتمعيا وبالتأكيد في مختلف المجالات والميادين، وليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن الجهود التي بذلتها مصر وأطراف عربية أخرى في مقدمتها تونس والجزائر لتسوية الأزمة الليبية، أو على أقل تقدير للحيلولة دون تفاقمها إلى حد المواجهات المسلحة المكشوفة، تستحق الكثير من الإشادة وكذلك الدعم العربي الجماعي الذي يسهل من وضع التصورات العربية موضع التنفيذ على أرض الواقع لإنقاذ الدولة العربية الشقيقة، والمهم في الأمر أنها جاءت من ثلاث دول عربية لها أهميتها وثقلها وتستطيع بالفعل أن تساعد على استقرار الدولة الليبية خاصة بعدما استعادت الدول الثلاث الكثير من عوامل استقرارها وقوتها وتأثيرها، قد لا تبدو الصورة مثالية ولكنها بالتأكيد اختلفت كثيرا عن أعوام مضت في سياق أحداث « الربيع العربي».

والأدلة على ذلك كثيرة من حيث القدرة على التأثير، فلقد انتهت محادثات تونس الثلاثية بين المسؤولين في الدول الثلاث وكذلك مفاوضات القاهرة بين الأطراف الليبية المعنية قبل أيام بالإعلان عما يمكن تسميته بخريطة الطريق للخروج من المأزق الراهن في ليبيا تزامنا مع حلول الذكرى السادسة لثورة الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، وتهدف هذه الخريطة إلى إقرار عملية سياسية تنتهي مطلع العام المقبل بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية استنادا إلى كثير من بنود اتفاق الصخيرات الموقع في المغرب ديسمبر 2015، ويبقى المهم في هذه التحركات العمل بكل جدية لإنهاء الانقسام القائم بين الشرق والغرب في ليبيا ويضع البلاد على شفا حفرة من «الهلاك» غير المرغوب فيه داخليا وإقليميا. إلا أنه يظل خطرا قائما ما لم تتواصل المحادثات والاتصالات بين مختلف الأطراف بنفس الروح المسؤولة التي تعلي شأن الحوار، وبدون أدنى شك يعد هذا الخيار - خيار الحوار والتفاوض - هو النهج الأمثل لتجاوز كل الصعاب مهما طال الزمن.

لأن البديل الأخر المتمثل في الخيار العسكري له تبعات خطيرة خاصة إذا لم يكن موجها ومدروسا بشكل دقيق ليجيء في صورة العمليات الجراحية الدقيقة التي تستأصل الداء دون أن تصيب باقي الجسد بالتهابات خطيرة، وأيضا حتى لا تتحول ليبيا إلى «سوريا» أخرى بمئات آلاف القتلى والجرحى وملايين اللاجئين والمشردين وخراب واسع النطاق في كل ربوع الديار، ويظل هذا الخيار مفضلا نظرا لأن هناك إرادة حقيقية واضحة بين مختلف الأطراف للتفاوض والتوصل إلى تسوية سياسية، خاصة وأن المشكلات القائمة أو ما تبقى من قضايا خلافية بينها لا يرقى على الإطلاق إلى مستوى التعقيدات الموجودة في مناطق نزاع أخرى من أمتنا العربية حيث تتزايد المشكلات الطائفية أو المذهبية أو العرقية التي تحول دون التوصل لتسويات سريعة للازمات الجارية، وأيضا لأنه كما سبق الذكر اكثر من مرة على هذه الصفحات ما يجمع الليبيين أكثر بكثير جدا مما يفرقهم.

ولهذا الحديث أهميته لحفز العزيمة لدى مختلف الأطراف السياسية الليبية بمواصلة التفاوض مهما كانت الصعاب والبعد تماما عن التهديد بأطراف خارجية للحصول منها على دعم عسكري وسياسي لتقوية موقفها في مواجهة الخصوم، ثم فإن مطالبة رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بتدخل حلف الأطلنطي لدعم وتجهيز الأجهزة الأمنية في ليبيا لم تكن في الغالب دعوة موفقة وفي غير موضعها خاصة في الوقت الراهن الذي تتواصل فيه الجهود العربية لنزع فتيل التوتر - على الأقل من وجهة نظر البعض - وحتى إذا كانت هذه المطالبة مجرد ورقة ضغط على المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، بعد تعثر لقائهما المباشر في القاهرة، وبعد الدعم القوي الذي حظي به حفتر من موسكو ونجاحه في فرض هيمنته العسكرية تماما على الشرق الليبي، إلا أن ذلك ليس مبررا على الإطلاق لطلب العون من القوة التي كانت سببا في تدمير ليبيا بعدما قامت قوات الأطلنطي بالتدخل وعزل القذاقي قبل أن تترك البلاد للخراب، وليس خافيا أن التهديد بعسكرة الصراع بأطراف خارجية هو لعب بالنار لأنه ببساطة سيكون بداية لمشاكل ضخمة قد يصعب احتواؤها وسيقود لمزيد من التمزق، وعدم لقاء الرئيس والمشير وجها لوجه ليس مبررا على الإطلاق لصرف النظر عما تم تحقيقه على طاولة المفاوضات، فأمام القضايا الوطنية الحاسمة يجب أن تتوارى الأمور الشخصية.

ولذا يعد الخيار العربي التفاوضي هو الأفضل في مواجهة الخيار الغربي الذي يبدو أنه يفضل الحل العسكري بزعم مواجهة الكثير من التحديات الأمنية على رأسها «داعش» وضرب عصابات تهريب اللاجئين والهجرة غير الشرعية التي باتت تمثل خطرا جسيما على الدول الأوروبية خاصة في ضوء الهجمات الإرهابية في المانيا وبلجيكا ومن قبل في فرنسا، وهو توجه خاطئ لأن المشاكل القائمة في ليبيا جذورها سياسية أكثر منها أمنية، ثم يجب عدم الدفع باتجاه الحلول العسكرية، وقد أثبتت القوات الليبية بالفعل قدرتها على مواجهة التنظيمات الإرهابية وربما تتمكن من تطهير البلاد تماما لو وجدت الدعم الحقيقي والمخلص والمجرد من مصالح ذاتية من مختلف الأطراف داخليا وخارجيا.

تلك الحقائق تجعل من الضروري أن تتحرك جامعة الدول العربية باتجاه النهج السلمي ودعم الأطراف العربية المعنية لتسوية المشاكل الليبية، مرتكزة على جملة من العوامل في مقدمتها انحيازها لخيار التسوية السياسة لهذا الصراع واللجوء إلى الحوار ورفض التدخل الأجنبي والمحافظة على الهوية الوطنية للدولة والحيلولة دون تفكيكها وتقسيمها ودفع البلاد إلى المزيد من الاستقطاب على أسس عرقية وقبلية ودينية، والمؤكد أن للجامعة العربية دورا فاعلا ومؤثرا، إلا أن المعضلة كانت تكمن في حدود وفعالية هذا الدور في ظل ما يشهده النظام الإقليمي العربي من حالة التباس وتعقيد تمتد إلى العديد من وحداته المؤثرة، الأمر الذي أثر سلبا - بالضرورة - على هذه الفعالية، ومع ذلك فإن الجامعة نجحت في بلورة توجهات رئيسية يمكن أن تشكل عنصرا مساعدا للجهود الدولية والإقليمية بدفع مختلف الأطراف لتبني الأسس التي من شأنها إنهاء الأوضاع المتوترة .

فأمام الجامعة الآن دور عربي واضح وخاصة من جانب دول الجوار التي تبدي حرصا واضحا على تقديم كل الدعم والإسناد السياسي للحوار الوطني الليبي وتدعو الأطراف الليبية للتحلي بالمرونة وإعلاء مصلحة ليبيا العليا، ولاشك في أن تأييد الجامعة للتحركات العربية ولخريطة الطريق التي برزت في القاهرة كأساس للتسوية يوفر أرضية جيدة أو بالأحرى غطاء إقليميا وعربيا مناسبا للتسوية المنشودة التي نفضلها «عربية» لما لذلك من تأثير على قضايا عربية أخرى,ومن غير المقبول أن ننتظر تصريحا من المبعوث الدولي كوبلر يكتفي فيه بالإشادة بالجهود العربية وكأنها «جملة عابرة» أو حالة هامشية بجوار مهمته الدولية، وعلى الأطراف العربية الآن ان تثبت قدرتها على فرض تصورات شاملة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في أمتنا العربي.