أفكار وآراء

«أمريكا وإسرائيل»: العودة بعملية السلام إلى المربع صفر

25 فبراير 2017
25 فبراير 2017

د. عبد العاطى محمد -

قبل أن يتولى دونالد ترامب مهام منصبه بنحو شهر، قدم دينس روس الدبلوماسي الأمريكي المحنك عدة نصائح للرئيس الأمريكي الجديد حتى يحقق ما فشل فيه أسلافه بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط. وفي المؤتمر الصحفي مع بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل، بدا ترامب وكأنه أخذ بالقليل جدا منها وأهمل الكثير، بما حمل رسالة لكل المعنيين بالقضية عنوانها العودة بعملية السلام إلى المربع صفر، ضاربا بذلك عرض الحائط بكل الجهود السابقة التي امتدت لنحو ربع قرن من الزمان.

كان روس قد أكد أن حلم تحقيق السلام في الشرق الأوسط هو غاية معظم الرؤساء الأمريكيين منذ حرب 1948 باعتباره مجدا شخصيا يتوق إلى تحقيقه كل منهم ولجاذبية المنطقة بكل ما تفرزه من متناقضات وصعاب! ودلل على ذلك بالاهتمام الكبير الذي أولاه للقضية رؤساء مثل كارتر وجورج بوش الأب والابن وبيل كلينتون وأوباما. وقال إن ترامب لن يشذ عنهم في تحقيق هذه الرغبة مستندا في ذلك إلى ما ردده خلال حملته الانتخابية من عزمه على خوض نفس السباق. ولكن لأن من سبقوه فشلوا في المهمة، فإن عليه أن يأخذ ببعض العناصر المستفادة من التجارب السابقة لكى يتجنب الفشل. وأجمل روس هذه العناصر في ضرورة التمسك بالدبلوماسية حتى لو حققت نجاحا جزئيا، وتوخي السرية لعمل ما هو ممكن وتجنب الإقدام على طرح مبادرات علنية قبل التأكد من إمكانية نجاحها، وإزالة الشكوك المتبادلة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وتوفير حوافز مشجعة للجانب الفلسطيني، وتوسيع نطاق المفاوضات لتشمل العرب وليس التركيز على المسار الثنائي، وكسب الثقة والمصداقية في الولايات المتحدة، وطرح مقاربات جديدة للتوفيق بين الأمن الإسرائيلي والسيادة الفلسطينية.

وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب مع نتانياهو التقط الرئيس الأمريكي القليل من هذه النصائح وعلى سبيل العناوين فقط دون تبنى مضمونها، فضلا عن الألغام السياسية التي فجرها وتتعلق بعدم اهتمامه بحل الدولتين وإشارته لإمكانية العمل بمسار الدولة الواحدة. تلك الألغام استقبلها نتانياهو وحكومته بسعادة غامرة، بينما استقبلها كل المعنيين الآخرين بالصدمة والقلق الشديد مما ينتظر السلام المفقود أصلا منذ عام 2014 مع فشل جهود جون كيري وزير الخارجية في إدارة أوباما. ومن العناوين التي التقطها ترامب من نصائح روس إشارته في المؤتمر الصحفي إلى أن إدارته تشجع على إحلال السلام والتوصل إلى اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنه في هذا الإطار يتعين على الطرفين تقديم تنازلات (هكذا يكون جوهر العمل بالدبلوماسية). ومنها أيضا الأخذ بنصيحة إزالة الشكوك بين الجانبين، وفي هذا أشار ترامب إلى أهمية وقف الاستيطان ولو لفترة وجيزة!، ومنها أيضا التحلي بالسرية وعدم الكشف عن مبادرات علنية قبل التأكد من إمكانية نجاحها، وهو ما اتضح من الحوار المفاجئ بين الرجلين أمام الصحفيين، وذلك عندما قال نتانياهو إنها المرة الأولى في حياته التي يشعر فيها أن العرب يتعاملون الآن مع إسرائيل على أنها حليف وليس عدوا!، ورد ترامب بقوله: «لم أكن أعلم أنك ستتحدث عن الاتفاق.. ولكن نعم نسعى إلى مبادرة سلام جديدة وعظيمة ليس فقط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ستتضمن الكثير من الدول العربية.. ستكون عملية سلام كبيرة وتتضمن منطقة أكبر من الأرض!». وواضح أن ترامب عمل بنصيحة روس ولكن نتانياهو أراد كشف الأسرار كعادة الإسرائيليين دائما وفتح بكلامه بابا واسعا للقيل والقال من شأنه أن يعكر الأجواء السياسية في المنطقة ويختبر في نفس الوقت مدى قوة تعهدات الإدارة الجديدة لتعزيز موقف السياسة الإسرائيلية في القضية برمتها.

استعارة ترامب للقليل من نصائح روس تساعد جزئيا في فهم ما تنتويه الإدارة الجديدة في ملف السلام بالشرق الأوسط، ولكن إهماله للكثير منها وإقصاء المغزى الحقيقي فضلا عن التصريح بإيجاد بدائل أخرى لحل الدولتين، يعنى أن ترامب ومستشاريه يريدون العودة كلية بعملية السلام إلى المربع صفر. فبغض النظر عن مدى قبولهم لهذه النصائح أو اختيارهم ما يرونه مناسبا لهم، هناك حقيقة واضحة تتناقض تماما مع نصائح الدبلوماسي المحنك الذي عمل مع إدارات جورج بوش الأب وكلينتون وكان له دور بارز في تحقيق اتفاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي أن روس بنى نصائحه من منطلق الاستمرارية والتواصل في أداء الإدارات الأمريكية برغم تناوبها بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فيما يتعلق بقضية السلام في الشرق الأوسط. وقد طرح نصائحه على أساس أن ترامب سيحافظ على هذا النهج حتى لو كانت لديه مقاربات جديدة فذلك أمر متوقع مع تغير أي إدارة أمريكية. ولكن المفاجأة الصادمة تتمثل في أمرين. الأول هو ذلك القطع من جانب ترامب مع جهود من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين في هذه القضية وهو تصرف غريب غير مسبوق في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أزمة الشرق الأوسط بكل ما يحمله ذلك من عدم الثقة التي تلحق بالدبلوماسية الأمريكية خصوصا في ظل ما أصبح معروفا عن ترامب من تقلب في المواقف. والثاني هو الرؤية الملتبسة للقضية التي لا تكشف سوى عن الارتكان للرؤية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.

ليس سرا أن هناك كراهية شديدة متبادلة بين ترامب وأوباما، وبين أنصار كل منهما، فشواهدها كانت واضحة للغاية خلال الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية، واستمرت بعدها منذ وصول الأول إلى البيت الأبيض. ولكن ما لم يكن في الحسبان على وجه التحديد أن يقدم ترامب على مسح كل سطر في السجل السياسي ليس لأوباما وحده وإنما لكل من سبقوه تقريبا في هذه القضية ويقرر انطلاقا من كراهيته للإدارة السابقة، بل ولما يسمى بالدولة العميقة، إلغاء المسارات السابقة والبدء من جديد تماما في قضية لم تكن هناك خلافات كبيرة في الرؤى بشأنها من جانب الإدارات الأمريكية المختلفة.

وعندما يتحدث ترامب عما يفهم منه أن حل الدولتين ليس بالضرورة هو الحل المناسب لإحلال السلام في الشرق الأوسط أو أنه يدرس هذا الحل مع إمكانية وجود حلول أخرى أو دولة واحدة، فإنه لا يضرب فقط عرض الحائط بكل الجهود الدولية التي مرت بها عملية السلام منذ مؤتمر مدريد 1991، ولا بالجهود الأمريكية ذاتها، وإنما يعلن تبنيه المطلق للموقف الإسرائيلي الذي يتزعمه اليمين المتطرف، وهو ما يتناقض تماما مع يعلنه هو نفسه بأن بلاده تريد تشجيع السلام بين الجانبين ولديها استعداد للتوسط والمبادرة لاستئناف المفاوضات. وما عزز من الاقتناع بأن الرجل يريد أن يطوي صفحة حل الدولتين مطالبته الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل كشرط للتوصل إلى السلام، وكذلك تقليله من خطورة الاستيطان عندما قال إن المستوطنات ليست أساس الصراع ويمكن حلها بالمفاوضات. المشكلة هنا التي ربما يجهلها ترامب، وإن كان مستشاروه لا يجهلونها بالطبع، هي أن الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل يسقط كلية حقهم في أرض فلسطين بكل ما يترتب على ذلك من حدود ودولة وسيادة وعودة للاجئين لأنه مفهوم يعنى أن فلسطين هي أرض الميعاد لليهود وأرضها ملك لهم وحدهم، ثم من حقهم أن يقيموا المستوطنات هنا وهناك وألا يعودوا إلى حدود 4 يونيو 1967 ويتم التعامل معهم كما تقول إسرائيل على أنهم سكان بعض المناطق. وأما الإشارة إلى بدائل لحل الدولتين فهو يعنى العودة للأفكار الإسرائيلية التي تكررت كثيرا تحت عنوان الوطن البديل وأبرزها مشروع غزة الكبرى الذي أسس له جيورا آيلاند الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والجنرال الاحتياط عام 2002 وتجدد عام 2008 ويقضى بتوسيع مساحة غزة بتبادل أراضى بين مصر وإسرائيل وإقامة دولة هناك للفلسطينيين والتخلي عن الضفة الغربية. ومع أن ترامب أشار فعلا إلى مشروع مقترح في هذا السياق دون أن يكشف عن حقيقته وتفاصيله، إلا أن الإعلام الإسرائيلي تكفل بالحديث مجددا عنه بتفاصيل جديدة أيضا. هذا وغيره مما أوقع ترامب نفسه فيه يتطابق كلية مع رؤية حكومة نتانياهو والذي يعني باختصار نسف القضية الفلسطينية من الجذور. والملفت أن مثل هذه المقترحات اعترضت عليها الإدارات الأمريكية السابقة لعلمها بالنتائج الوخيمة التي يمكن أن تترتب عليها.

القمة العربية القادمة مطالبة بتحديد موقف صريح من هذا الموقف الأمريكي الذي يتناقض أساسا مع ما استقر عربيا في مسألة السلام مع إسرائيل والمحددة عناصره في المبادرة العربية للسلام، تلك العناصر التي لا تتفق بأي حال مع هذا الموقف. صحيح أن أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط سارع بالتأكيد على أن السلام لا يتحقق إلا بحل الدولتين، وتزامن معه تأكيد مشابه من أنطونيو جوتيريس امين عام الأمم المتحدة الجديد، ولكن تبقى القمة الجهة المنوط بها وضع النقاط على الحروف وتحديد مستقبل العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة في ظل المتغيرات التي استجدت. المهمة ليست سهلة لأن القمة ذاتها تواجه تبعات الانقسام والتشتت في المشهد العربي المعاصر.