أفكار وآراء

سياسات العالم.. بين الجد والهزل

24 فبراير 2017
24 فبراير 2017

نيك كوهين جارديان -

ترجمة : أحمد شافعي -

ثلاثة أنواع من الناس تسيطر على الحركات المتطرفة: المعتوهون، والهازلون، والمتسللون. المعتوهون دائما في القاع، والهازلون هم المسؤولون عن الدعاية الذين يؤججون نيران غضبهم ولولاها لانهارت الحركة المتطرفة كلها. والمتسللون يصعدون إلى القمة، سواء أكان ذلك في الحركات المتطرفة أم في سواها. وهم أيضا هازلون بالطبع. فهم يعلمون علم اليقين كيف يتلاعبون بقواعدهم، ولكن عليهم أيضا أن يظهروا بعض علامات الجنون الأصيل، وإلا تراخت قبضتهم القيادية وحل آخرون في محلاتهم.

المعتوهون، والهازلون، والمتسللون. الهازلون هم الأسهل بين الثلاثة على الأفهام. فهؤلاء يعيشون في عالم الصحافة التآمري الذي ينتج فيه الدجالون خرافات لمختلف المواقع. ولئن سألتهم إن كانوا يصدقون دعايتهم فكأنك تسأل محامية إن كانت تعتقد في براءة موكِّلها. قد ينفعك السؤال، لكنه لا يصيب الهدف. فالمسألة ليست ما إذا كانوا صادقين أم غير صادقين، إنما هي تتعلق بما إذا كانوا قادرين على اصطناع الصدق شأن مندوب مبيعات مسؤول عن تسويق منتج. الهازلون الآن يتلاعبون بمصير الأمم. لكنهم في يوم من الأيام كانوا مستبعَدين. فمنذ سقوط سور برلين وحتى عام 2016، ظل المجتمع المهذب يعتقد أنه من الأمان أن يسمح للمتطرفين بالذبول حيث هم. فاليسار المتطرف لن يسيطر مطلقا على حزب العمال [في بريطانيا]، واليمين الوطني لن يستولي مطلقا على الجمهوريين في الولايات المتحدة أو المحافظين في بريطانيا، وإن فعلوا فسوف يرفضهم المحافظون العقلاء. فهيلاري كلينتون ستظل تنتصر دائما على دونالد ترامب. وبريطانيا ستظل دائما تؤثر شيطان الاتحاد الأوربي الذي تعرفه على مستقبل لم تتحدد ملامحه وغير متأكد منه.

في هذه البيئة المطمئنّة، كان الساسة والكتّاب في المتن يفترضون أن كل نوع من الهازلين- والمعتوهين والمتسللين- قابل للشراء. فكان ديفيد كاميرون يفترض أنه قادر على إرضاء اليمين بإعطائهم استفتاء كان «الجميع» على يقين أنه سيفوز فيه . ولم يبال يسار الوسط مطلقا بمحاربة اليسار المتطرف لأن «الجميع» على قدر واحد من اليقين بأنه عديم القيمة.

اسمحوا لي أن أدع شخصا بسيطا واحدا يمثل العالم السفلي المهمل. لسنوات ظل كرستوفر بوكر من «صنداي تلجراف» يروج لكل نزعة جاهلة في اليمين. كان ينكر المسؤولية البشرية عن الاحترار العالمي. فقد أعلن في 2007 «أن ثلج القطب لا يتبدد على الإطلاق» (وهو الآن يتبدد بوتيرة شديدة السرعة تتسبب في اضطراب المناخ العالمي كله). وظل يصر على أن نظرية دارون القائلة بالنشوء والارتقاء ليست أفضل من نظرية الخلق الدينية. فكان- لا محالة- يتعامل مع الاتحاد الأوروبي كما لو كان دكتاتورية. كان يبدو وكأنه ما من زيف يتجاوز قدرته على نشره. لدرجة أنه قال مرة لجمهور قرائه الذين يقدّرونه إن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لنا بدفن حيواناتنا الأليفة ما لم نضعها أولا في فرن ضغط ونغليها «عند درجة حرارة 130 لمدة نصف ساعة».

لكن عندما اتبع قراء «تلجراف» نصيحته وصوتوا للخروج من غلايات الاتحاد الأوربي الحيوانية، استولى الخوف على «بوكر». فالخروج من المنطقة الاقتصادية الأوروبية التي يسيطر عليها الاتحاد الأوروبي، بما تنطوي عليه من حرية في الحركة والتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي التي يقول دعاة الخروج إنهم يمقتونها، قد يجعل من بريطانيا الدولة الوحيدة في العالم التي ليست لديها اتفاقات تتيح لها التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي أو غيره.

«لا، لا، لا» هكذا بدا أنه يصرخ. «من المؤكد أنكم لم تصدقونني حينما قلت إن الاتحاد الأوروبي لن يحملكم على سلق حيواناتكم. هل أنتم معتوهون أيها المعتوهون؟»

قد تتصورون أن «بوكر» رجل سخيف لا يستحق أن تضيعوا وقتكم معه. ولقد كان هذا يصح في وقت من الأوقات. لكن «بوكر» الآن لا يختلف عن المسؤولين أنفسهم في كثير أو قليل. لقد كانت أغلبية أعضاء البرلمان تعتقد أن ترك بريطانيا للاتحاد الأوروبي سوف يكون كارثة بغير ضمان البقاء على عضوية السوق الواحدة أو الاتحاد الجمركي.

لكنهم مع ذلك منحوا تيريزا ماي في الأسبوع الماضي سلطة التفاوض على ذلك بالذات. يقول أولئك الصحفيون إنهم كانوا يمنحون القراء ما يريده القراء. وساستنا يقولون إنهم يمنحون الـ52% الذين صوتوا للخروج- والذين بات اسمهم الآن هو «الشعب»- ما يريدون.

والرأي المحترم يثني على ذلك ويصر على أن الانحناء لـ«الشعب» هو الخيار الوحيد المتاح. ولعل القائلين بذلك على حق.

وربما في غضون ثمانية عشر شهرا يتسنى لأعضاء البرلمان الذين أسكتوا رأيهم وكتموا شكوكهم أن يقولوا «هل أنتم معتوهون أيها المعتوهون؟ من المؤكد أنكم لم تصدقوا أننا كنا مخلصين ونحن نصوت لخروج بريطانيا في مجلس العموم. لا، لا، لا، لقد كنا نرى طوال الوقت أن الخروج كارثة. ولكن كان لزاما علينا أن نعطي «الشعب» ما أراد».

وربما يقبل «الشعب» عذرهم ويلوم نفسه على مصيبة بريطانيا. وعلى «القادة» السياسيين الذين لا يمكنهم إلا الاتّباع أن يتمنوا- وإن يكن هذا قانونا حديديا من قوانين الديمقراطيةـ أن لا يلومهم «الشعب».

ولا تنسوا أن خروج بريطانيا لم يحوّل غالبية أعضاء البرلمان عن حزب العمال وبعض من يوصفون بالأعضاء المعتدلين إلى هازلين، بل لقد جعل من تيريزا ماي نفسها كذلك. فهي التي تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في حين أنها شخصيا صوتت ضد الخروج من الاتحاد.

وأنا شخصيا لا أستطيع أن أجد في تاريخ بريطانيا رئيس وزراء تصرف على هذا النحو في موضوع على هذا القدر من الخطورة. ولكن مثالها يبيّن أنه لا يمكن أن يكون القادة هازلين. إذ عليهم أن يفعلوا أكثر من مجرد التلاعب بمعتوهيهم. وهكذا نجد لدينا مشهد تغريدات دونالد ترامب المهتاجة ضد القضاة الذين ألغوا حظره الوهمي على السفر. فمن ناحية، هذه استراتيجية محسوبة على الهزل. إذ سيكون بوسع ترامب أن يلقي اللوم في أي هجمة إرهابية على القضاء الأمريكي، برغم أن كل من يفهم الإرهاب يعتقد أن قراراته ما كانت لتنقذ نفسا واحدة من الموت. ولكن في الوقت نفسه، تتماثل اتهاماته بالخيانة وبالتعصب ضد المسلمين واستخفافه بسيادة القانون مع عته أنصاره. فهو يتلاعب بهم . وبالمثل، على تيريزا ماي أن تشعر بحماسة الاعتناق، وقد تبنت قضية كانت ترفضها، فعليها الآن لا أن تتلاعب باليمن المتطرف بل أن تنتمي إلى اليمين المتطرف وأن تقر وبحماس مبادئ الخروج التي لا هوادة فيها. وعلى من ينظرون في فزع إلى الحركات الكارثية التي تمزق أوصال المجتمعات الغربية أن يعودوا مرة أخرى إلى تعلم درس ما كان ينبغي قط أن يطويه النسيان: عليكم أن تحاربوا الهازلين والمتسللين ابتداء من لحظة ظهورهم. لا تتصوروا قط أن بوسعكم تجاهل المتطرفين، مثلما فعل يسار الوسط، أو أن من الممكن شراءهم مثلما تصور كاميرون.

لأنكم إن فعلتم، فسوف يأتون إليكم ولن تستطيعوا حينئذ أن تحاربوهم. بل ولن تعلموا أن عليكم المقاومة قبل أن يفوت الأوان.