أفكار وآراء

الانتخابات الفرنسية والمصير الأوروبي

21 فبراير 2017
21 فبراير 2017

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

هل تكون الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة نقطة مفصلية في مسيرة أوروبا الديمقراطية والموحدة، أم أنها ستكون حجر عثرة يؤدي لاحقا الى تفكك العقد الأوروبي المتمثل في الاتحاد ؟ علامة استفهام تتصاعد مؤخرا، لاسيما في ظل الخطاب الأخير لقائدة الجبهة الوطنية «ماريان لوبان» التي تمثل أقصى اليمين القومي والشعبوي والمعروفة بمواقفها العدائية تجاه الأجانب والمهاجرين عامة، ومن الإسلام والمسلمين بنوع خاص، عطفا على رفضها للبقاء ضمن دائرة الاتحاد الأوروبي حتى الساعة.  

السؤال الأول الذي يتبادر إلى الأذهان:«هل سيؤدي وصول لوبان إلى الحكم وتسيدها قصر الإليزية إلى وقوع «الفريكست»، أي خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، ليكون المكافئ الموضوعي للـ «بريكست» أي خروج بريطانيا من دائرة الاتحاد عينه، المتابع لتصريحات «لوبان» وحتى قبل خطابها الأخير يعرف تعهدها بالخروج من الاتحاد الأوروبي وتأكيدها على أن الفريكست جزء من سياستها، بل أنها لا تتوقف عند ذلك، إذ تلعب دور المبشر والراعي لدول أوروبية أخرى مثل البرتغال وأسبانيا، إيطاليا واليونان، ودفعهم دفعا للخروج من دائرة الاتحاد.

تقول «لوبان» إن على سكان أوروبا التحرر من العبودية وابتزازات المسؤولين في بروكسل، والاهتمام قبل كل شيء بالسيادة الوطنية، حسب قولها هل من تجارب حديثة تدفع لوبان في هذا السياق؟

حكما نحن أمام تجربتين مؤكدتين، الأولى تتصل بأوروبا، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتفضيلها المسار القومي ، على الوحدة مع بقية الشعوب الأوربية، ولذلك رأينا لوبان تشير إلى أن «البريطانيين» أدركوا هذا، ولذلك صوتوا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كما أشارت إلى أن البريطانيين ما كانوا ليوافقوا على إحلال اليورو محل الجنية الاسترليني لأنه أينما استخدم اليورو لوحظ ارتفاع الأسعار والضرائب والبطالة، وانخفاض المرتبات والمعاشات القاعدية، وبالتالي زاد الفقر بين الناس.

التجربة الثانية التي باتت تشجع ماريان لوبان تلك المتصلة بفوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمنصب الرئاسة الأمريكية، لاسيما وأن ميوله، ومواقفه تجاه اللاجئين والمسلمين تقترب كثيرا جدا من مواقفها بل أنها تكاد تتطابق لا أن تتماهى فقط، ورغم عدم حدوث لقاء شخصي بين ماريان وترامب، إلا أن الأفكار عادة ما تتلاقى في سماوات رحبة واسعة وأن أتسمت بضيق واضح في الإيديولوجيات كما يقال.

والشاهد أن فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية طرح علامة استفهام جذرية... هل تتكرر ظاهرة ترامب في فرنسا؟

تقول النيويورك تايمز الأمريكية أن فوز ترامب قد زاد من شعبية الأحزاب اليمينية في القارة الأوروبية وكانت لوبان قد صرحت عقب فوز ترامب بأن ما جرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية دليل على أنه إذا أراد الشعب شيئا سيحققه، وأنه قادر على استعادة حقه في تقرير مصيره رغم حملة التشويه مهما استمرت.

هل بين الفرنسيين من يرجح احتمالات فوز «لوبان»؟

هناك من يقول بذلك بالفعل، من عينة رئيس الوزراء الفرنسي السابق «جان ببيار رافاران»، الذي يرجح فوز لوبان إذا ما خاضت انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة، واعتبرت «أهمية تكهنات» رافاران، أن حظوظ لوبان لن تكون وفيرة بالفوز برئاسة بلادها، إذا جرت العادة في فرنسا على اتحاد أحزاب اليمين والوسط ضد مرشح حزب اليمين المتطرف، ناهيك عن افتقاد لوبان لموارد كبرى كتلك التي ساعدت على فوز ترامب.

أحد أفضل أعمق الأصوات التي تعبر عن حال الناخبين الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية القادمة، رغم اتجاهه إلى ناحية اليمين، هو رئيس بلدية «هينان بومونت»، والذي أشار إلى أن الكثير من الفرنسيين وقعوا ضحية للعولمة والهجرة، وهذا ما يحتم علينا تغيير سياستنا، ولا يوجد سوى لوبان أهل لذلك».

هل يوجه الناخبون الفرنسيون بعد أقل من مائة يوم ضربة قاضية للاتحاد الأوروبي وللديمقراطيات الغربية العتيدة معا؟

يستلفت النظر مؤخرا الاهتمام الإعلامي الأمريكي بما يجري في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، فعلى سبيل المثال تشير صحيفة الواشنطن بوست في تقرير أخير لها إلى أن الفوضي الكبرى، والتحول الأكبر الذي سيعم أوروبا العام المقبل نابعة من فرنسا وتحديدا في شهر مايو القادم، فالتوقعات تشير إلى أن لوبان يمكن أن تصل إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، ولعلها تفعلها وتحرز نصرا مفاجئا. وأصحاب توقعات فوز لوبان يستندون إلى مقاربة مع المشهد الأمريكي، فقد كان الجميع يرشح هيلاري كلينتون للوصول إلى البيت الأبيض، ويرجحون كفتها وهي القادمة من عمق المؤسسة الحكومية الأمريكية، في حين أن دونالد ترامب اعتبر الحديث عن فوزه ضربا من ضروب الكوميدياء السوداء، لكن غير المتوقع يحدث دائما كما يقول أديب فرنسا الكبير أندرية مالرو.

عطفا على ذلك فقد أثبتت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة فشلها في تحديد الفائز بدقة، الأمر الذي ينعكس لا محالة على استطلاعات الرأي عينها في أوروبا.

والشاهد أنه إذا نجحت لوبان القوية، فسيشكل ذلك تحولا تاريخيا لتلك الدولة التي أرست مع ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية قواعد وأسس ما بات يعرف بالاتحاد الأوروبي، فقد كتبت «لوبان» على موقعها على الإنترنت أن الـ «لا» التي قالتها إيطاليا، بعد «لا» الاستفتاء اليوناني ضد خطة الانقاذ، وبعد استفتاء البريكست قد أدرجت انضمام شعب جديد إلى قائمة من يريدون إدارة ظهورهم للسياسات الأوروبية الخرقاء، التي أدخلت القارة في دوامة التعاسة حسب تعبيرها.

وفي حال انتخابها، تعهدت لوبان بعقد استفتاء حول عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، فإن انسحبت فرنسا عندئذ يرى الكثير من مناصري الاتحاد الأوروبي أن المشروع كله سيتهاوي أرضا. ولهذا يقول «سايمون تليفورد» نائب مدير مركز الإصلاح الأوروبي الذي مقره لندن « إن فازت ماريان لوبان فسيشكل هذا صعقة وجودية للاتحاد الأوروبي وكيانه ولكل استقرار أوروبا.. هل يعني ما تقدم أن فوز لوبان باتت مسألة منتهية أم أن هناك سيناريوهات مختلفة للانتخابات القادمة؟

المؤكد أن انسحاب الرئيس الفرنسي اليساري الحالي فرانسوا هولاند من السباق الرئاسي، وإتاحته الفرصة لرئيس آخر من اليسار، يفقد المنافسة الانتخابية مذاقا خاصا، ويفقد المتسابقين لوحة ضرب نار تاريخية، يصوبون فيها أسهم حملاتهم تجاه أخفاقات الرئيس الساعي لولاية ثانية.

المشهد الثاني يتصل بحال اليسار في فرنسا اليوم، فهو ليس يسار فرانسوا ميتران القوي القادر والراغب في قيادة فرنسا إلى آفاق بعيدة من النجاحات الأوروبية والعالمية، فما يميز الاقتراع الرئاسي الفرنسي في مايو القادم التشرذم الذي يعاني منه اليسار، وتقدمه لهذه الانتخابات في هيئة جسم متعدد الرؤوس ومهدد بالتحلل السريع.

فيما البعد الثالث في هذه الانتخابات يتصل بماريان لوبان ذاتها، ذلك أنها لن تخوض الانتخابات من أجل القيام بدور الحكم بين اليمين واليسار، وعرقلة المنافسة بينهما، بل لانتزاع ورقة الرئاسة وهذا ما خططت له رئيسة الحزب منذ الاقتراع الرئاسي السابق وعززته بالنتائج الانتخابية الجيدة في الاستحقاقات البلدية والنيابية والإقليمية السابقة.

في الأدبيات الكلاسيكية يقال إن من يوسوس في إذن الملك عادة ما يكون أخطر من الملك، وعليه، فعلامة الاستفهام من الذي يوسوس في أذن «ماريان لوبان» ويدفعها في طريق الإليزيه لتكون أول سيدة أولي تحكم فيه، وتدفع كذلك بلادها إلى خارج حدود الاتحاد الأوربي؟

الجواب عنوانه «فلوريون فيليبو» المخطط الاستراتيجي، وأقرب مستشاريها إليها، وقد غرد بعد ساعات من إعلان فوز دونالد ترامب قائلا: بدأ عالمهم بالانهيار، وجار بناء عالمنا، معتبرا أن فوز ترامب علامة بروز نظام عالمي جديد، وأن الناس بدأوا يتخلصون من قيودهم، مضيفا أنه جاء دور فرنسا، ووعد أن ماريان لوبان ستفوز بانتخابات فرنسا الرئاسية في مايو المقبل، وأن كل شيء قيل عنه بالأمس أنه مستحيل أو بعيد الاحتمال، أصبح اليوم ممكنا جدا ومحتملا جدا. المثير جدا في نبرة «فلوريون فيليبو» أنها تماثل صيحات دونالد ترامب ذاتها، فالشاب الفرنسي عقل لوبان المفكر، (35 سنه)، وعد بأن لوبان «ستجعل فرنسا عظيمة مرة أخرى، وهو ما يعادل «أمريكا عظيمة» الشعار الأكبر والأقرب لدونالد ترامب.

وإذا كانت لوبان في الوقت الراهن أقرب ما تكون لكرسي الرئاسة الفرنسي أكثر من أي وقت مضى، فإن ذلك بفضل تعاونها مع «فيليو» بشكل كبير، والتي تثق في أحكامه تماما لدرجة أنه من النادر أن تتخذ قرارا دون استشارته، إذ يقول «برتراند دوتيل ديلاروشيه» مستشار لوبان والمقرب أيضا من فيليبو «لديهم ترابط فكري،، فهم في أتفاق تام على المبادئ الأساسية».

هل استطاع عقل لوبان النابض أن يكسبها أرضا جديدة في الداخل الفرنسي، وربما في بقية عموم أوروبا؟

يبدو أن ذلك كذلك قولا وفعلا، إذ يرجع الفضل لفيليبو في تنفيذ خطة لوبان لتصحيح صورة حزب الجبهة الوطنية، من تهدئة لهجة الخطاب، وتوسيع الدعم الانتخابي، وحظر بعض الآراء، مثل معاداة السامية والعنصرية ومعاداة الأجانب، حتي وأن كانت هذه الهواجس القديمة لا تزال قابعة تحت السطح.

لقد أدت مهمة فيليبو الأساسية في المحافظة على عدم الخروج من خط الحزب واستئصال المخالفين، إلى تشبيه منافسيه له داخل الحزب بروبسيير الزعيم الفرنسي الشرس.

كانت الحماسة هي الدافع وراء تغيير فيليبو لصورة الحزب، وهو ما شجع لوبان أن تفصل والدها جان ماري لوبان من الحزب الذي شارك في تأسيسه عام 1972، وإذا ما اعتبرنا أن والد لوبان البالغ من العمر83 عاما، والذي أنكر حدوث الهولوكوست، كان بمثابة نقطة ضارة بالفرص الانتخابية لحزب الجبهة الوطنية، فقد قدم فيليبو نفسه على أنه منقذ الحزب، غير أنه في الوقت الذي يحاول فيه حزب الجبهة الوطنية الوصول إلى الرئاسة، فتح التملق والخوف والنزاعات التي يثيرها فيليبو الخلافات من جديد داخل الحزب... إلى أين تمضي فرنسا ومن ورائها أوروبا؟ إن غدا لناظره قريب.