شرفات

طه حسين .. المعلم الكبير

20 فبراير 2017
20 فبراير 2017

فاطمة الشيدي -

يشعر المرء أنه لن يمسك بتلابيب المعرفة ما لم يحط ببعض الكتّاب إحاطة تامة، ويطّلع على كل ما تركوا اطلاعا جادا، وهذا ما شعرت به طويلا، ومضيت في تحقيقه أخيرا، سيما اليوم والمعرفة تسّهل طرقها لكل طالب علم، وراغب في المعرفة الشاملة، حتى لتصبح متاحة ووافرة، مجانية في كثير من الأحايين كالماء والهواء - كما أراد طه حسين للعلم يوما أن يكون- بل وتتخذ لنفسها طرقا وأشكالا أكثر إغراء وجاذبية وسهولة مما كنا ننتظر، حتى ليشعر المرء بحتمية أن يذهب مع هذه الفرصة العظيمة كل مذهب، ويستغل كل ما هو متاح، فيقرأ ويستمع ويشاهد كل ما يمكنه من معرفة، و يتحصّل على كل ما يرغب به من علم وجمال وفن خاصة لأهم أستاذة الشغف والعلم والمعرفة.

ومن هؤلاء الكبار طه حسين، المبدع والناقد الذي مهما قرأنا له لن نحيط بكل ما ترك من نتاجات فكرية مائزة، ولن نستوعب تماما كل ما اجترح فكره التقدمي، ووعيه المشاكس من إبداعات نقدية وسردية فريدة، عبر خروجه المبكر على مؤسسة الدين ونقده الصارم والصادم لكل ما قرأ من تاريخ وفكر وأدب ونقد.

فلقد مضيت معه في رحلة طويلة امتدت لأشهر، كنت فيها أمضي برفقة هذا المبصر الضرير محاولة أن استوعب كل آثاره استيعابا تاما مشوبا بالإعجاب كما يستحق ويجدر به. وأن أهتدي إلى بعض حكمته عبر تأمل بصيرته المتوقدة ولغته المتجذرة في الثابت من القديم، والذاهبة في المحدث من كل جديد.

هذا المفكر الناقد الذي لا يأتي على نص حتى يشبعه بحثا ونقدا، ولا يكتب عن موقف أو شخصية حتى يصوّرها أبدع تصوير؛ لأنه ذلك المتمكّن من الأدوات والتأسيس اللغوي والفكري الراسخ بدءا، والمنطلق في التأمل والبحث عبر الجديد المستمر لاحقا، المثقف الذي يمضي منتضيا قوة الحقيقة ونزاهة الحكم وعمق الوعي التي تتجلى لك ما أن تهرع لكتبه، وتمثل بين يدي روائعه الخالدة، بدءا من عمله الإشكالي الذي أثار الكثير من المعارك، وحرّك ضده المؤسسة الدينية والاجتماعية والسياسية، وعلى أثرها تحرك ضده الشارع ممن قرأ له أو لم يقرأ، ألا وهو كتابه النقدي الجدلي في (الشعر الجاهلي) أو (في الأدب الجاهلي) كما سمي لاحقا بعد أن أضاف إليه وغير فيه، والذي اتّبع فيه الشك الديكارتي منهجا، وأسبغ على بحثه من المعرفة بالتاريخ والأنساب والقبائل واللغات والاجتماع الكثير مما يثير الإعجاب ويوجب الإيمان بثقافته وسعة اطلاعه، وطبعا وقبل كل شيء معرفته الدقيقة باللغات العربية والشعر، الأصيل منه والمنتحل أو المكتوب في أزمنة لاحقة لأغراض العصبية القبلية أو السياسة أو الدين أو الشعوبية أو غيرها من الأسباب الوجيهة التي يسوقها ويفنّد عبرها وجهة نظره تفنيدا علميا دقيقا. ولذا فلا عجب أن تقتنع - كثيرا أو قليلا - بما كتب فيه، وتمضي مشدوها بسحر حججه، وعمق تفنيداته واتساع معرفته وقوة ثقافته.

كما تجد النقد في كتابه (حديث الأربعاء) حيث يستل سيف قلمه ويجرده لمعارك حقيقية أسبوعية يقرأ فيها قراءة ناقد واع، ويقدّم فيها تقديم مثقف خبير ومطلع على كل جديد في الثقافة المصرية، وهي مقالات نقدية سبق ونشرها في الصحف وأثارت ما أثارت من جدل وخصومات لم يأبه بها يوما، فقد كان فيها يكتب مبتعدا كل البعد عن المجاملة والرياء وعن النفاق والشللية، فيضفي صفة الجمال بتجرد وموضوعية على كل جميل ويذكر محاسنه مهما تضاءل حجم كاتبه وقلّ ذكره وخفي حضوره، ويعدد مثالب العمل مهما عظمت مكانة صاحبه وارتفع شأنه، وكثر ذكره بين الناس.

ومنها أيضا (جنة الشوك) وهي محاورة جادة وعميقة في الفكر والفلسفة والثقافة والحياة بين طالب نجيب ومعلم أريب، يتبادلان المعرفة عبر صيغة السؤال والجواب، و(حديث الشعر والنثر) بين من يطلق عليه صفة المثقف ولكنه يعمّد لتفنيد تلك الصفة، وتجريده منها عبر زعزعة ثقته بثوابته التراثية الهشة، وثقافته الضحلة وهو المأخوذ بنفسه، فيقرأ عليه نصوصا شعرية عميقة من الشعر القديم موصلا بينها وبين الجديد العالمي، و(مستقبل الثقافة في مصر)، و(في مرآة الصحفي)، وهي تسير في ذات المنهج الفكري النقدي التحليلي للظواهر الثقافية والأدبية في المجتمع المصري في ذلك الوقت.

إضافة لدراسته الشعرية والفكرية العميقة والممتدة في الزمن طويلا وعميقا لزميل الوعي والبصيرة وفقدان البصر (أبو العلاء المعري) عبر مؤلفيه (مع أبي العلاء في سجنه)، و(في تجديد ذكرى أبي العلاء). حيث تناول فيهما حياة وفكر أبي العلاء بوعي مشوب بالإعجاب الضمني والاقتداء الجاد لهذا المبصر العظيم، والعالم الجليل، والشاعر الفذ والفيلسوف المفكر، والناقد الحانق على الوجود والإنسان معا، وإن كان يختلف معه في تلك النظرة التشاؤمية للحياة والبشر الذي صبغت حياة وفكر أبي العلاء، وقلّت وربما انعدمت عند طه حسين المتفائل المقبل على الحياة، التي وهبته أكثر مما وهبت صاحبه من الفرص، وأهدته من الحب والهدوء والسفر أكثر مما أعطت حكيم المعرة.

وهناك سردياته العظيمة والكثيرة وأوّلها سيرته الرائعة (الأيام) التي سرد فيها حياته الشخصية كطفل أصيب بالعمى نتيجة للجهل والمرض، وحمل على عاتقه لاحقا نشر العلم وجعل التعليم كالماء والهواء، وكل ما يتعالق مع تلك السيرة من سيرة المكان كالقرى التي عاشت فيها أسرته، والقاهرة حيث تعلم في الأزهر، وسيرة أسرته وقريته وإخوته وأصدقائه، محررا كل موقف وشارحا كل شخصية حتى لكأنك تراها رأي العين، بل ويمتد لداخلها حيث يعمد لمحاولة تحليل نفسية عبر الزمان والمكان والعادات. و(المعذبون في الأرض) وهي بورتريهات قصصية يسرد فيها حكايات شخصيات من الريف المصري أرهقهم الفقر وأتعبهم العوز والحاجة حتى لأن بعضهم يفقد حياته لهذا الفقر، وللعادات والتقاليد التي تقيّد الفقير غالبا، وكلها حكايات حقيقية استقاها من ذاكرة المكان والإنسان الذي يسقي الأرض بدمعه ودمعه ككل البسطاء على هذه الأرض.

وهناك السرديات الطويلة الأقرب للرواية أو الحكاية أو السيرة الغيرية مثل (شجرة البؤس) التي تحكي قصة صديقين تاجرين قررا تزويج ولد الأول الجميل، من بنت الثاني القبيحة حفظا للمال والعلاقات والأواصر الاجتماعية وبدافع من الشيخ الذي أشار عليهما بذلك، فكان أن ذاقت كلا العائلتين ثمرة تلك الشجرة حتى آخرها، وهي رواية ممتدة في الزمن والأجيال ذهب فيها طه حسين في سرد قيمة الدين في حياة إنسان القرية المصرية مهما عظم شأنه ومكانته وماله، وأثر شيخ الدين (سيدنا) في توجيه مصائر البشر وربما رسمها، كل هذا بمحبة وتقبل وامتنان من الإنسان البسيط الذي يعتمد على بركة هذا الشيخ في كل شيء في حياته من تزويجه وحتى تسمية أبنائه ورزقه وعمله ومرضه وشفائه. ومن تلك السرديات الحكائية أيضا (دعاء الكروان)، و(الحب الضائع).

وهناك السيرة الغيرية مثل قصة (أديب) التي تحكي قصة كاتب مصري صقل وعيه بالقراءة والفكر وبات مختلفا عن جيله وصحبه، متمردا على المجتمع وعاداته وأفكاره، وكان يرغب بقوة في السفر لباريس حتى أنه طلق زوجته ليحصل على شروط البعثة. وذهب هناك كل مذهب في المتعة واللذة والابتذال الأخلاقي حتى انتهى به الحال للجنون.

إنها تلك السرديات العظيمة التي نقلت لنا بإسهاب وعمق ودقة واقع الحياة المصرية بين الريف والمدينة في صورة دقيقة للمجتمع المصري في بدايات ومنتصف القرن العشرين، فشكّلت بذلك مادة سردية خصبة نهلت منها السينما المصرية كثيرا وتجسدت منها الكثير من الأعمال السينمائية الجميلة التي رسخت في الذاكرة الشعبية المصرية والعربية على حد سواء.

طبعا هذا إضافة لإسلامياته الشهيرة والمعروفة والتي تناول فيها بالتحليل والتعليل والتفنيد الكثير من الشخصيات الإسلامية والتاريخ الإسلامي والتي يقع كل كتاب منها في عدة أجزاء غالبا، وهي (الفتنة الكبرى عثمان، والفتنة الكبرى علي وبنوه، وعلى هامش السيرة، ومرآة الإسلام، والشيخان، والوعد الحق).

وهكذا وما أن تعود من رحلتك الطويلة مع هذا المعلم الكبير حتى تشعر بالامتلاء به وبأعماله وأفكاره ونتاجاته المتنوعة والثرية والكثيرة، فتتحقق لديك حالة من الاستناد لذاكرة ووعي أستاذ كبير، أستاذ للشغف بالعلم والمعرفة والحقيقة والحياة، أستاذ لا يمكن ولا ينبغي لك ولأي كاتب أو باحث أو قارئ يرى في نفسه شغف المعرفة والرغبة في المضي على طريقها تخطي آثاره الراسخة، أو تجاهلها، بل عليه أن يمكث طويلا في خيمته الكونية وبين يديه في حلقة الدرس الأبدي التي لا تنتهي بل تستمر ما استمرت الحياة والعلم والمعرفة، وما استمر القارئ باحثا عن الحقيقية مولعا بها. فتحية تقدير وامتنان لهذه القامة الكبيرة ولهذا الأستاذ العظيم لأنه عبر هذه الأرض وترك لنا من دمه وفكره ووعيه ومكابداته الإنسانية والمعرفية بعض ما يشفي غليل المعرفة ويمنح لنا أسباب الحياة للسير على خطاه.