أفكار وآراء

«الأمن الديمقراطي في زمن التطرف»

24 يناير 2017
24 يناير 2017

عمــاد عريــان -

العنوان السابق هو المظلة الكبرى التي عقد تحتها مؤتمر «الأمن الديمقراطي في عصر التطرف والعنف» والذي نظمه مركز دراسات السلام والتحول الديمقراطي التابع لمكتبة الإسكندرية على مدار ثلاثة أيام من الأسبوع الماضي، وبرغم أهمية المؤتمر الذي شاركت فيه شخصيات سياسية وثقافية عالمية وكذلك برغم حساسية الموضوع وحداثته إلا أنه لم ينل حظه من الاهتمام والنشر وسط زحمة الأحداث الجارية على الصعيدين الدولي والإقليمي.

تجدر الإشارة بداية إلى أن ما سمي «سياسة الأمن الديمقراطي» هو مفهوم ظهر خلال فترة حكم الرئيس الكولومبي آلفارو أوريبا بين عامي 2002 و2010، وتم بلورتها والكشف عنها خلال 2003، وترى تقارير عديدة أن هذه السياسة أدت بالفعل إلى تحقيق نتائج مبهرة في دولة كولومبيا حيث تراجعت معدلات الجريمة المرتبطة بالتطرف والممارسات الإرهابية بمعدلات عالية وتم القضاء على العديد من بؤر المخدرات الممولة للمنظمات المتطرفة.

وتقوم فكرة الأمن الديمقراطي بشكل عام على أساس دعم سيطرة الدولة في مواجهة التطرف والإرهاب وضرب مصادر تمويلهما من الممارسات غير المشروعة وعلى رأسها تجارة المخدرات، وتهدف هذه السياسة إلى حماية السكان من خلال تكريس دور الدولة ودعم وجودها كما سبق الذكر بمواجهة الإرهاب والتطرف والممارسات الخارجة عن القانون لتهيئة الظروف الممكنة لتحسين الأداء الحكومي وجهود الدولة في دعم تنمية الموارد وتحسين الخدمات الاجتماعية، وبشكل عام يمكن التأكيد أن هذه السياسة تجعل «الدولة» وليس «الفرد» محور الاهتمام لتحقيق التنمية الاجتماعية حتى لو اصطدمت في بعض مراحلها التنفيذية بحقوق الإنسان، وهو ما أدى إلى جدل شديد حولها فيما يتعلق بحقوق الوطن وحقوق المواطن.

والحقيقة أن هذا الجدل يطرح قضية شديدة الالتباس بين السعي للتغيير والإصلاح من ناحية وحماية الأمن الوطني والاجتماعي من ناحية أخرى، ومن حيث المبدأ فان الرغبة في التغيير ليس كلها شرا، فقد تكون صفة محمودة ومرغوبة في بعض الأحيان، فالعباقرة والعلماء وأصحاب الرسالات الإصلاحية وأصحاب الفتوحات والاكتشافات في كل زمان ومكان هم في الأساس شخصيات راغبة في التغيير والإصلاح لواقع متخلف أو أوضاع مزرية أو لظروف ظالمة وجائرة، وفي هذه الحالات تكون رغبة التغيير المحسوبة والمدروسة تصرفا حميدا لأنها سوف تفضي إلى الأفضل وستقود المجتمعات والبشرية بأكملها إلى أوضاع أكثر تقدما وتحضرا، أما التمرد الأهوج البعيد عن الدراسة والحسابات السليمة فيعد نوعا من المقامرة أو المغامرة نتائجه غير معروفة وقد تؤدي إلى تدمير الذات.

هذا عن سلوك الأفراد الذين يتحملون وحدهم نتيجة تصرفاتهم السلبية على وجه الخصوص، فماذا عن حالات التمرد الجماعي للمجتمعات التي تصل أحيانا إلى حد الثورات، هل ينطبق عليها أيضا صفة التمرد الحميد ؟..أغلب الظن أن الإجابة عن هذا السؤال لن تسير في اتجاه واحد ولا يمكن بلورتها إلا بكثير من البحث والدراسة والتحليل وفي نهاية المطاف قد نجد أنفسنا مضطرين للتعامل مع القضية وليس مع المبدأ، بمعنى أنه من الصعب صياغة نظرية واحدة تحكم كل الحالات ويصبح البديل هو التعامل مع كل حالة وكل تجربة على حدة، وعلى سبيل المثال؛هل يجوز أن نساوي بين ثورة يوليو 1952 وثورة يناير 2011 في مصر ونطبق عليهما نفس قواعد التحليل من حيث المقدمات والظروف والنتائج؟ وهل يجوز على صعيد آخر مساواة أحداث الربيع العربي في مصر وتونس بأحداثه في ليبيا وسوريا واليمن؟

قد تؤدي الأسئلة السابقة إلى طرح مزيد من التساؤلات أكثر مما تقدم من إجابات، هل يمكن للمجتمعات أن تتخذ في لحظة معينة قرارا جماعيا بتدمير الذات والدخول في تمرد شامل بغض النظر عن النتائج النهائية، وهل تكتفي تلك المجتمعات بنشوة الحالة الثورية ثم تروح السكرة وتجيء الفكرة لتندم على ما شاركت في صنعه وتتحسر على ما كانت فيه؟ ثم هل تنتفض الدول ممثلة في حكوماتها ومؤسساتها دفاعا عن وجودها وبقائها في مواجهة مثل هذه الحالات من التمرد الجماعي خاصة إذا ما اتضح مبكرا أنها بالفعل تستهدف كيان الدولة ذاته؟

هذه الإشكالية شديدة الالتباس وبالفعل إجاباتها محيرة إلى أقصى درجة يمكن تصورها لأنها تطرح القضية الشائكة لطبيعة العلاقة بين حقوق الإنسان وضرورات حماية بقاء الأوطان،أين الحدود وأين الأولويات، وعند أي درجة نقدم حقوق المواطن وعند أي مرحلة تكون حقوق الوطن فوق أي اعتبارات أخرى؟

لاشك في أن غالبية دول العالم النامي هي التي تعاني من هذه الإشكالية أكثر من غيرها في الدول التي استقرت بها الديمقراطيات في شكلها النهائي منذ عشرات السنين فاستطاعت أن تحقق التوازن بين قوى المجتمع بقواعد وقوانين وضوابط تلزم الجميع بالعيش تحت مظلة واحدة، ويمكنها ذلك من اللجوء إلى إجراءات استثنائية في مواجهة مواقف طارئة دفاعا عن بقاء الدولة ذاتها على حد قول حكوماتها، حدث ذلك في مناسبات عديدة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة عندما تعرضت لأعمال شغب خطيرة هددت كيان الدولة فلجأت إلى إجراءات تتعارض بشدة مع حقوق الإنسان المتعارف عليها أمميا وفي دولهم بشكل خاص.

ويتذكر العالم جيدا تلك المشاهد المثيرة التي وقعت قبل نحو ثلاثة عقود من الزمان في ميدان السلام السماوي (تيان آن نين) في قلب العاصمة الصينية بكين عندما خرجت أضخم حركة طلابية في تاريخ البلاد للمطالبة بالديمقراطية والحرية،وكانت بالفعل حركة تمرد في منتهى الخطورة لما مثلته من تهديد صريح لبقاء الدولة الصينية خاصة وأنها كانت تحظى بدعم غربي وأمريكي غير مسبوق، ولنتصور للحظة أن الدولة الصينية تهاونت في مواجهة هذه التحركات بزعم الانتصار لحقوق الإنسان،ترى هل كانت الصين ستصل إلى ما وصلت إليه حيث تحتل اليوم المرتبة الاقتصادية الثانية عالميا ومرشحة لتتبوأ المرتبة الأولى خلال سنوات معدودة؟ مجرد سؤال افتراضي يمكن استخلاص إجابته بربطه بأسباب تخلي القوى الديمقراطية الكبرى عن حقوق الإنسان في مواجهة المخاطر الجسيمة التي تهدد بقاء مجتمعاتها، كذلك ما فعله الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين في تسعينات القرن الماضي عندما أخرج الدبابات إلى قلب موسكو لتضرب البرلمان ( برلمان الدولة) الذي تمرد عليه، ولكنه نجح في وأد التمرد بالقوة حماية لبقاء الوطن.

الإجراءات نفسها تمثل مشكلة كبرى إذا ما لجأت إليها الحكومات في دول العالم الثالث، فسرعان ما تطبق عليها القيم والقواعد الكونية لحقوق الإنسان، وبالتأكيد وبالقطع لسنا هنا بصدد الدفاع عن الأنظمة الديكتاتورية أو الحكومات والدول الاستبدادية ولسنا مع مصادرة الحريات العامة والشخصية مادامت تمارس وفق القواعد والضوابط المتعارف عليها. ولكن المراد هو تحديد واضح وصريح لحقوق الإنسان وحقوق الوطن لأنه ببساطة هناك تداخل شديد بينهما بقدر ما يبدو أمام البعض أنهما متعارضان ولا يلتقيان، وهذا تحليل مغلوط لأن الدفاع عن الأوطان وسلامة المجتمعات والحفاظ على كيانها قد تكون أشياء على رأس حقوق الإنسان، والتفريط فيها هو أيضا تفريط وإهدار لحقوق الوطن والمواطن على حد سواء، فأي حقوق تلك التي تبيح قتل الأبرياء وتدمير المنشآت والمؤسسات وتخريب الممتلكات وقتل رجال الشرطة والجيش ورجال الدولة وتعطيل المرور وإغلاق الشوارع ووقف عجلة الإنتاج بمزاعم الدفاع عن الحرية والديمقراطية؟

هنا يكمن لب المشكلة، عندما نعتبر أفكار الفوضى الخلاقة جزءا من منظومة حقوق الإنسان التي ينبغي الدفاع عنها، إن ما نشاهده من فوضى وخراب ودمار وقتل وتشريد وعدم استقرار في سوريا والعراق وليبيا واليمن كلها مشاهد تدفعنا للتفكير ألف مرة في تلك الحقوق المزعومة للإنسان تحت مظلة الفوضى الخلاقة، ومع رفضنا الكامل كما سبق الذكر للنظم الاستبدادية إلا أن المجتمعات في لحظات مفصلية خطيرة عليها الاختيار الرشيد بين الإصلاح التدريجي والمدروس والانتحار الجماعي الهمجي وعليها أيضا أن تعرف جيدا كيف تحمي حقوق الإنسان بدون التضحية بضرورات بقاء الأوطان.

وقد نجد شيئا من هذا في كلمات رئيس مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين عندما قال اننا يجب أن نضع في اعتبارنا فكرة الأمن والسلامة لحقوق المواطنين، وكذلك فكرة تزايد موجة الإرهاب ومواجهته،وكيف يمكن أن نتحرك من جانب لآخر،وكذلك كيف يمكننا تطبيق الحوكمة في ظل العولمة، ولا بد أن نشير لدور الديمقراطية وكذلك الدستور، وينبغي أن نفهم طبيعة الأمور المتعلقة بالحرية، وكذلك ضرورة إحداث توازن بين حرية الأمن من ناحية وحرية الأفراد من ناحية حتى لا تتحول الصراعات لحروب أهلية.