899735
899735
شرفات

راعي البوش / خزان الحُبّ

16 يناير 2017
16 يناير 2017

حمود حمد الشكيلي -

1-من أين سأبدأ يا عمي، أنت الحكاية، بل الحكايات كلها، بملحها وأرضها ونخلها وصبرها، الفرد المتفرّد في الجمع، الحكاية بعدك ناقصة، إذ مباغتة الموت أتت سريعة كالعادة طبعا، الموت لا يستأذن، لا يطرق الأبواب، ولا يقف على النافذة. هكذا تجرأ الموت، وركض بك بعيدا عنا، لكأن رحيلك معافى أتى محققا لك أمنية الحوار مع الموت، أنت الذي كلمته كثيرا، أعرفك جيدا كما لن أعرف بعدك محبا للبشر أنك قلت « إن أردتني يا موت فتعال، لكن يا الله لا أريده وأنا في دشداشة المرض..».

2-رحلت في دشداشة العافية، مت قويا كما لم تضعف في يوم أبدا، رغم أنف الفقر مت غنيا وثريا بالحب.

3-ها هو الموت يؤكد في خلدك أنك راحل بعد قليل، في الواحدة والخمسين دقيقة من ظهر الأربعاء سيأتيك ملك الموت، خفيفا سينتزع الروح؛ ليعلقها على نجمة شاردة، فلملم محبتك الأخيرة، ودعْ الجيران، دعهم يؤكدون حبك الأخير للإنسان والأرض.

4-الشاعر الذي لم يكتب بالقلم قصيدته يرحل، علق في التينة الميتة قبل عقدين آخر قصيدة كتبتها حياته في الأرض بقدمين حافيتين، ليحتفظ تراب الظبي بأثر أصابعه صلبة كصخر أحمر سقط من جبل يواجه «جبهة الشميسا»

5- فعلا لا أدري لماذا أرى أن حياة سيف بن سليمان حياة شعراء، شاعر حقيقي من أولئك المخضرمين الذين عاشوا يكتبون قصيدة لقمة الحياة بعزة نفس وإباء كبيرين.

6-قل شيئا لم تقله عن الكويت، قل لي عن حراستك لمبانيها، حدثني أكثر عنكم كالقلة الباقين الذين يتحدثون عن ماضيهم فيها، كيف كان المسرح الكويتي في الستينيات؟ في حراستك لمبناه هل استمتعت بالمسرحيات ؟

7-عاد بخفي ابتسامات وسعتنا جميعا، كلما جمع قرشا أودعه لله، يطعم به مغتربا وصل قبل قليل إلى كويت الخمسينيات قادما من نابلس أومن تنوف، من غزة أوبسيا، أو من أي قرية في عمان وفلسطين يبحث عن حلم يغير أحلامه.

8-عمي عد مرة واحدة، أرجوك حبيبي تعال يوم وفاتي، « وحّش » على قبري، اضرب التراب ثلاثا «بالمسحاة»، إن قال لك أحد« التوحيش»فعل مكروه، قل لهم إني أوصيتك، هذه وصيتي، ولن يجيد أحد غيرك تقبيل تربة قبري، ارسم حول قبري أثر حيوان أكلته وأبي في جوعكما ميتا، إن جادلك من لم يعش حياته شاعرا؛ قل سأوحش حول قبره كي لا تأتي الكلاب إلى لحمه..»

9-« رحت الظبي وضيفوني بتيس، وهين الظبي تدور عن بسيا» منذ طفولتي حتى شيخوختي القادمة سأردد هذا المثل، فيه أستعيد صوتك، أما حكاية المثل وأنت تتحدث عن الضيف الذي زار القريتين « بسيا والظبي» أبلغ من الوصف والشرح، أليس كذلك يا عمي؟

10- في كل لقاء بيننا أسألك عن الفلج، هيا قم اعطني جوابك الآن كما في كل لقاء وقهوة، إذ في جوابك أستعيد طفولتي، لكأني أذكرك بصباي، وبتشبثي بالأرض، فلأنطلق معك الآن وأقول« هاه عمي أشوف الفلج ما بغي يرجع » من للفلج بعدك؟ لكني أعرف أن لا يعود الماء للأرض؛ كما لن تعود أنت للحياة، إذ من سيتبع رائحته نحو «هجيج » قلاع الظبي، وثقب الماء المفتوحة، تلك التي أتعبتها الريح، ها هو راعي البوش يتحدث ويقول« الفلج مات مع رعاته ..»

11- أنت اليوم آخر من رعى الفلج وأتى ساحبا خلفه الماء نحو النخيل.

12-كم من بئر حفرتها « بالورور» ؟ كم من رجل طمأنته أن ماء «طويه» طلع؟ كم من جدار أوقفت طينه، وكم من «صرمة» قلعتها من ضاحية إلى أخرى، كان هذا عملا شريفا لا يقوى عليه إلا الأشداء ليتلذذون برغيفهم ساخنا في المساء.

13- أنت تبر الأرض، أنت أرض كل الأمكنة، ورجل الأزمنة الصعبة، أنت الإنسان الذي لن تخلّف لنا الحياة رجلا مثل صبره وقوته وعزته وكرم محباته للجميع.

14- عندما كان الآباء علينا قساة، ظل راعي البوش يحجب العصا عن الأجساد الطرية في المعصية، وبها.

15-راعي «البوش» أين هي الجمال والنوق التي ما ملكتها يوما في حياتك؟

16- من الطين أتيت، قضيت جل عمرك في تراب الظبي، تربي ظبيا لن يمر غدا على الظبي.

17- يا خزان الحُبّ، عمي أنت « تانكي» مليئ بالحب، يفيض خزان وجهك ابتسامات كلما زارك أحد، أوصادفك عابر في الطريق.

18- مع صوت أذان المغرب تركناك في القبر، ثم منذ الآن سأسمعك في أفواه الناس.

19- كنتُ آخر من خرج من المقبرة، أسير على دمعي نحو الحزن الأكبر، رأتني امرأة وصلت توا، رمت تعبها على صدري، دلقت على وجهي دموعها البريئة الصادقة، دسّت في أذني جملة قصيرة، قالت « غاب نور الظبي».

20- بعدك بدأت أسير في الظلام، سأختطف لك قمرا؛ لنسير عليه ونحن نعبر اللحود نحو المتاهة الأخرى.

21- راعي البوش، سيف بن سليمان، عمي، ستظل إلينا أقرب من حبل الذكريات، الذين نحبهم سيرافقوننا حتى الرمق الأخير من الحب.

22-شعر رأسك جميل وطويل، أنا منذ صغري أحببته، أنيق في بساطتك، ومحب في بساطك البسيط.

23-الفلج لكلينا فعل حياة ومسير نحو الأمل، سأكرر السؤال العتيق، « عمي ما بغي يجينا الفلج» انطلق في الكلام، اسبح في ماء الحكاية، لا تصمت أبدا حتى نلتقي في الجنة.

24- عمي أنت جامعة حياة، أنا فيها تلميذ، عساني أتعلم حبا ما وجدته في كثير من الكتب، سأتخصص في البساطة، سيتقن التلميذ ما رآه في الأستاذ، أردد ما تركه معلمي:

- الحياة حب وابتسامات، والباقي على الله.

25- غدا الأربعاء، سأتصل بك في 9:23 صباحا، سأخبرك أين أنا في هذه اللحظة، رجاء عمي دع دموعك في قلبي، لا تسحب إلى وجهي شيئا منها، خذ من نشيج محباتك شيئا للحزن القادم، إذ الحياة حزن نكتمه ونلفه في قلوبنا لنتزود به في الصباح ، لولا الحزن لما كتبت لك شيئا من هذا الكلام، أو مما قد أكتب لك أيضا في قادم الزمن، حتى بعد رحيلك لن أتخلى عن حبّك أبدا.