الملف السياسي

الاستدامة المالية وتقليص المخاطر الاحتمالية

09 يناير 2017
09 يناير 2017

د.أحمد سيد أحمد -

,, تعتبر الميزانية العامة لأية دولة الإطار العام والأداة الأساسية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، التي تعبر عن برامج الحكومة لتحقيق أفضل استخدام للموارد العامة وتوجيهها بما يحقق أفضل وأكبر نفع لمختلف فئات المجتمع,,

وقد كشفت ميزانية السلطنة لعام 2017 عن حجم الإنفاق العام فيها الذي بلغ 11.7 مليار ريال عماني، في حين بلغ إجمالي العائدات 8.7 مليار ريال، بما يعني وجود عجز يصل لثلاثة مليارات ريال، وهو أقل من العجز في ميزانية 2016 والذي تجاوز خمسة مليارات ريال عماني تقريبا بعد أن كان متوقعا له 3.3 مليار ريال، حيث بلغت النفقات 11.9 مليار ريال والإيرادات 8.6 مليار ريال.

وتكشف ميزانية 2017 عن عدة أمور مهمة هي:

أولا: ترتكز فلسفة الميزانية على أن تكون القاطرة المحركة للاقتصاد العماني في إطار تحقيق الأهداف الأساسية للدولة وهى إنجاز التنمية الشاملة والمستدامة في إطار من التراكم والتقدم من عام لآخر ودعم خطط التنمية الخماسية ومنها خطة التنمية التاسعة التي بدأت العام الماضي في إطار استراتيجية 2020 واستراتيجية 2040 التي تستهدف تحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفى كل قطاعات ومجالات المجتمع العماني. كما ترتكز فلسفة الميزانية أيضا على تحقيق الاستدامة المالية وتقليص المخاطر الاحتمالية حتى لا تؤدي التصرفات المالية إلى توليد ضغوط على الموارد السيادية، والعمل على تحقيق التوازن بين الإيرادات العامة للدولة وبين النفقات المتزايدة بما يقلل العجز من عام لآخر مع الالتزام بأهداف الدولة في تحقيق الرفاهية للمواطن العماني وتقديم الخدمات الأساسية له في كافة المجالات وعدم المساس بالقطاعات الحيوية المرتبطة بالخدمات الأساسية للمواطن في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، حيث تبلغ الحصة المدرجة في الموازنة لهذه القطاعات نحو (2686) مليون ريال بنسبة 23% من إجمالي الإنفاق العام منها نحو 1586 مليون ريال لقطاع التعليم ومبلغ 613 مليون ريال لقطاع الصحة، ومبلغ 487 مليون ريال لقطاع الرعاية الاجتماعية، وتبلغ قيمة المصروفات الإجمالية المقدرة لقطاع الإسكان 504.13 مليون ريال، وللنقل والتقنية والمواصلات 56 مليون ريال. وهو ما يعنى التزام الدولة بعد المساس بالخدمات الأساسية المقدمة للمواطن العماني بل والعمل على تحسينها وزيادة الاستثمار فيها، باعتبار أن المواطن العماني هو أداة التنمية والغاية الأساسية منها.

ثانيا: التحدي الأساسي أمام الاقتصاد العماني هو تحقيق التنويع الاقتصادي وعدم الاعتماد على النفط والغاز كمصدر أساسي للدخل القومى والإيرادات العامة والذي يصل لحوالي 80%، في ظل التقلبات الحادة لأسعار النفط خلال العامين الماضين وهبوط أسعار بشكل كبير نتيجة لانخفاض أسعاره عالميا بسبب حالة الركود الاقتصادي العالمي وتراجع الطلب عليه، وهو ما انعكس في سعر بيع النفط العماني الذي وصل لأدنى سعر له في عام 2016 وتراجع إلى ما دون 24 دولارا للبرميل احيانا، بينما افترضت الخطط الاقتصادية لعام 2016 سعرا للنفط قدره 45 دولارا للبرميل وهو ما كان سببا في تزايد عجز الميزانية عن المتوقع له. ولذلك فإن ميزانية 2017 تحتاج إلى سعر عادل يتراوح بين 47.7 دولار و92.3 دولار للبرميل وهو ما أظهرته البيانات الأخيرة الصادرة عن صندوق النقد الدولي، حيث تعتبر السلطنة من أكثر دول الخليج التي تحتاج لارتفاع أسعار النفط، حيث تحتاج إلى سعر 79.4 دولار، حتى تحقق ميزانيتها التعادل في 2017، كما أن الاستثمار في مجال البنية الأساسية والمشروعات العملاقة في صلالة والدقم وصحار وغيرها ساهمت في زيادة النفقات العامة، لكن عائد هذه المشروعات سوف يظهر على المديين المتوسط والطويل بما يساهم في خفض العجز في السنوات المقبلة.

ولذلك فإن خيار التنويع الاقتصادي وزيادة المواد غير النفطية يمثل خيارا حتميا أمام السلطنة، وقد نجحت سلطنة عمان بالفعل في تحقيق خطوات مهمة على هذا الطريق بالاتجاه إلى الاستثمار في القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية الواعدة وتوظيف الموارد الطبيعية والبشرية التي تزخر بها، وانتهاج سياسات إيجابية فيما يتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة الاستثمارات المحلية والتوجه نحو الاعتماد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومشروعات ريادة الأعمال والصناعات اليدوية وغيرها من المجالات. وقد ساهمت القوانين المختلفة الخاصة بالسياسات الضريبية والمالية وقوانين الاستثمار الجديدة في تهيئة المناخ وكل عوامل النجاح في تحقيق هدف التنويع الاقتصادي، لكن لا يزال هذا الهدف يحتاج إلى خطوات إضافية ومجهودات أكبر خاصة أن التوسع في العديد من الصناعات ما يزال مرتبطا ومعتمدا على النفط والغاز مثل صناعة البتروكيماويات، كما أنه يحتاج إلى اكتشاف المزيد من الفرص الواعدة والترويج لها محليا وخارجيا وتوظيف مناخ الاستقرار السياسي والأمني في السلطنة وعلاقاتها الطيبة مع كافة أنحاء دول العالم وزيادة الانفتاح والتبادل التجاري والاقتصادي معها.

ثالثا: أحد الأهداف الأساسية للميزانية هو تقليل العجز في الموازنة العامة مع الاستمرار في ترشيد ورفع كفاءة الإنفاق العام وضمان استدامته وأهمية تحقيق سياسة التقشف على كافة الأصعدة لتقليل النفقات من خلال إجراء مراجعة شاملة للمصروفات والنفقات الحكومية ومن الرواتب والمزايا الأخرى التي ترهق كاهل الوزارات الحكومية، حيث تقترح ميزانية 2017 خفضا مقداره 5 % من الإنفاق عبر تخفيض مكافآت القطاع العام، ولكن دون خفض للأجور حتى لا يؤثر على دخول الموظفين ونمط حياتهم اليومي، وإلى جانب ترشيد الإنفاق العام تبرز أهمية ترشيد إنفاق الأفراد ودور المواطن في زيادة معدلات الادخار القومي من أجل زيادة معدلات الاستثمار باعتبارها الخيار الأساسي نحو تحقيق التنويع الاقتصادي وزيادة العملية الإنتاجية، ثم زيادة موارد الدولة من العملات الأجنبية وزيادة معدلات التشغيل وتقليل معدلات البطالة، حيث تبلغ متوسط الاستثمارات السنوية نحو 28% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن تبلغ الاستثمارات المجمعة على مدى الخمس سنوات المقبلة 41 مليار ريال.

وبالتالي تستهدف الميزانية تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع وضبط معدل التضخم على النحو الذي يحافظ على مستوى دخل الفرد وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة للوحدات الحكومية التي تسهم على نحو مباشر وغير مباشر في تحقيق النمو الاقتصادي المخطط لعام 2017، وتقليل العجز حيث سيتم تمويله نسبة 84% أي بمبلغ 2.5 مليار ريال من خلال الاقتراض الخارجي والمحلي. بينما سيتم تمويل باقي العجز والمقدر بنحو 0.5 % أي نصف مليار ريال عماني من خلال السحب من الاحتياطيات، ويشمل الاقتراض الخارجي بالدولار الأمريكي إصدار سندات دولية وصكوك وقروض تجارية مجمعة، ولذا فإن زيادة الإنتاج وتحقيق التنويع الاقتصادي من شأنه تقليل الاعتماد على الاقتراض الخارجي لسد عجز الميزانية.

رابعا: أهمية تفعيل وتطوير دور القطاع الخاص في عملية التنمية وزيادة المشاركة مع الحكومة وقطاع المشروعات الصغيرة من أجل الاستثمار في مجالات جديدة، وبما يسهم في تعجيل تنفيذ عدد أكبر من المشروعات الاستثمارية ومبادرات القطاع الخاص، وهنا تبرز أهمية تحديد الأولويات وأجندة العمل الاقتصادية من أجل توجيه استثمارات الدولة والقطاع الخاص صوب المجالات الإنتاجية واكتشاف فرص جديدة في مجالات السياحة والخدمات والزراعة.

لقد جاءت ميزانية 2017 لتساهم في استمرار الانطلاق الاقتصادي العماني في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها مع انخفاض أسعار النفط وترشيد الإنفاق العام، ومواصلة سلسلة الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها السلطنة في السنوات الأخيرة، ورفع كفاءة المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة والتأكيد على الحوكمة الجيدة وإسهامها في الاقتصاد الوطني. وعكست ملامح الميزانية درجة عالية من التوازن بما يحقق الأهداف الأساسية للدولة وبما لا يؤثر على خطط التنمية الشاملة وعلى احتياجات المواطن العماني ومتطلباته، وبما يدفع في اتجاه جذب المزيد من الاستثمارات والتوسع في خطة التنويع الاقتصادي وهو ما يؤكد أن ميزانية هذا العام تمثل حجر الزاوية في مسيرة النهضة والتقدم العمانية.