yousef
yousef
أعمدة

ليلة رأس السنة زمان

05 يناير 2017
05 يناير 2017

يوسف القعيد -

في جريدة الأخبار المصرية التي يرأس تحريرها الصديق ياسر رزق، ويحاول إعادة بعثها من جديد. وتلك مشكلة أمام رئيس تحرير شاب لجريدة قديمة. أكملت اكثر من نصف قرن من عمرها. وشكلت مدرسة كاملة في الأداء الصحفي، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مشروعها الصحفي. فلا بد من الاعتراف أن المهنية، والمهنية وحدها أصبحت مقياساً أساسياً لأدائها الإعلامي، ودورها الوطني، ومشروعها التنويري من أجل الوطن.

فى جريدة الأخبار صفحتان يوم الأربعاء من كل أسبوع تحت عنوان: كنوز. يحررهما: عاطف النمر. وإن كنت لا أعرفه، فأنا أحرص تماماً على قراءة الصفحتين، بل والاحتفاظ بهما من أسبوع لأسبوع، وأرجو من صديقي ياسر أن يطلب من عاطف النمر تجميع الصفحتين لكى تصدرا في مجلد أو مجلدات فيما بعد، لأن التاريخ بالنسبة للإنسان مسألة شديدة الأهمية.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن أستاذنا ومعلمنا أحمد بهاء الدين، وكان من الذين مروا بمدرسة أخبار اليوم في الصحافة. في مقدمة كتابه المهم: أيام لها تاريخ. حاول أن ينحت تعريفاً جديداً للإنسان. فقال إن الإنسان حيوان له تاريخ. وأن الإيمان بالتاريخ وإدراكه يميز الإنسان عن أى حيوان آخر على ظهر الكرة الأرضية.

العدد الأخير من الأخبار الصادر في الأربعاء 28 من ديسمبر 2016 خصصه المحرر لليلة رأس السنة. وأنا عن نفسى لا أحتفل بمثل هذه الليلة. وأعتبرها تقليعة غربية أطلت علينا عندما أصبحت مصر غربية. في منتصف سبعينات القرن الماضي. لكن ما دامت كل الناس تحتفل بها- مسيحيون ومسلمون- فأنا أهتم بالظاهرة وأتوقف أمامها، خصوصاً أنها تعني أننا نقول وداعاً لعام. ثم نستقبل العام القادم. مع أنه من المفروض أن نبدأ باستقبال الآتي قبل أن نودع الذي كان. فالآتي يحمل مغامرة وحلم ووعد بأن الإنسان يمكن أن يعيش أياماً أفضل من التي عاشها من قبل. ألم يقل الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت إن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد.

الحكمة التي تبدأ بها صفحات الماضي عبارة عن قولين. القول الأول لمصطفى أمين:

- إذا كنتم تصدقون أن المرأة تطلب المساواة مع الرجل لتصبح وزيرة أو عضوة في البرلمان فأنتم تخطئون، إنها تطلب المساواة للتساوي في كل حرياته. ومن بينها حرية الجسد؟.

أما في الناحية الأخرى فقد جاء بكلمة لعمر المختار، المناضل الليبي الشهير والمعروف:

- إياك والمغريات، فلا مساومة على الوطن، كن عزيزاً في كل أوجه حياتك، إياك أن تنحنى مهما كان الأمر، فربما لا تأتيك الفرصة كيى ترفع رأسك مرة أخرى.

أكرر هذا القول الذي يصل لحدود القوانين العامة في الحياة، ليتنا نراعيها في كل لحظة نعيشها:

- إياك أن تنحنىي مهما كان الأمر، فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة أخرى.

عناوين الصفحتين:

- سهرات النجوم في ليلة رأس السنة، مرح وغناء ومقالب ضاحكة.

الحكيم يجري حواراً بين عام يرحل وآخر ينتظر دقات الساعة.

خواطر التابعي ليلة رأس السنة. وسهرة مصطفى والشناوي في كازينو بديعة.

من عندي، مصطفى هو مصطفى أمين، والشناوي هو كامل الشناوي. وهما من نجوم ذلك الزمان الجميل الذي مضى ولن يعود أبداً.

عبد الرحمن الأبنودي يتذكر: كنا نرفع صليباً من الجريد احتفالاً بقدوم ليلة عيد الميلاد.

طقوس رأس السنة في التراث المصري القديم.

ومن الشعراء- في ذلك الزمان- قصيدة لنزار قباني: إلى حبيبتي في ليلة رأس السنة. وفوق القصيدة صورة نزار قباني مع حبيبته وملهمته بلقيس. وقصيدة أخرى لصلاح جاهين تحت عنوان: قصيدة رأس السنة، مأخوذة من ديوان عن القمر والطين الصادر من دار المعرفة سنة 1961.

أما أكثر الأمور طرافة في هذا العالم القديم، فهو خبر عنوانه: السهرة صباحي بـ 5 جنيهات في فندق 5 نجوم:

- تمتعوا بقضاء أجمل سهرات رأس السنة بفندق فلسطين بالإسكندرية، عشاء فاخر على أنغام الأوركسترا «بلاك كوتس» رقص شرقي من هالة، ألعاب أكروبات، سحب تمبولا، جوائز كبرى، هدايا ولعب مقدمة من أشهر محلات الأزياء، مفاجآت سارة، أسعار الدخول 500 قرش خالص الضريبة. والعشاء والهدايا والفطور صباح أول يناير 1968.

الحجز لدى المترودوتيل بالفندق أو الإدارة العامة بالقاهرة.

يتوقف المحرر وأتوقف معه أمام سعر التذكرة: 500 قرش. ومقابلها كل ما سبق أن قرأته. خصوصاً العشاء والفطور في اليوم التالي. وفندق فلسطين لمن لا يعرف كان قد بنى داخل البحر الأبيض المتوسط، أمام المنتزه، أجمل بقعة في الإسكندرية. وفى زمن عبد الناصر العظيم كانت كل اجتماعات جامعة الدول العربية التي تعقد من أجل قضية فلسطين تعقد في فندق فلسطين بالإسكندرية. ولو وصلت إليه ونزلت فيه ووجدت أنك في غرفة تبدو كما لو كانت تعوم فوق البحر، لأدركت أنك قلت وداعاً لهموم الدنيا بكل ما فيها.

يكتب المحرر:

- هكذا تقول سطور الإعلام المنشور بجريدة الأخبار، في الأسبوع الأخير من ديسمبر 1967، خمسة جنيهات فقط تتيح لك سهرة رأس السنة، بفندق خمس نجوم بالهدايا والعشاء، وبرنامج فني حافل مع فريق البلاك كوتس. ومن لم يعش هذه الأيام نقدم له لمحة عن هذا الفريق الذي كونه عازف الجيتار إسماعيل الحكيم. نجل الكاتب الكبير توفيق الحكيم عام 1963.

ضم الفريق: شريف ظاظا، درامز- أشرف سلماوى، جيتار- مدحت حنفى، جيتار باص- مجدى عزيز، أورج- يسري حافظ، جيتار إيقاعي- مجدى الحسيني، أورج- يحيى الشماع، ساكسفون- مجدى بكير، ترومبيت.

فرقة ابن توفيق الحكيم تخصصت في الغناء والموسيقى الغربية. واشتهر بحفلاته في القاهرة والإسكندرية منافساً لفريق باتي شاه. وقد توقف الفريق بعد وفاة مؤسسة إسماعيل الحكيم ابن توفيق الحكيم سنة 1978.

ما لم يقله المحرر وأكتبه أنا الآن: هل لاحظت التواريخ؟ هل توقفت أمام دلالاتها؟ ديسمبر 1967، أي بعد يونيو 1967، كان جرح النكسة ما زال طازجاً، وديدان الجرح الغائر كانت ما تزال تعبث بروح ووجدان الشخصية المصرية. وكل الأشقاء العرب الذين تعاطفوا مع مصر في محنتها.

كان العدو الصهيوني قد وصل لشاطئ قناة السويس. وعسكر عليه. وأصبحنا نعبر القناة بنظرات أعيننا، كنت مجنداً في القوات المسلحة في ذلك الوقت. حيث جندت في ديسمبر 1965، ومكثت في القوات المسلحة حتى أكتوبر 1974، تسع سنوات أسميها: تسع سنوات في الخنادق. ولكنها حكاية أخرى، لا أحب أن تأخذني عما أنا بصدده.

أقول للأجيال الجديدة والطالعة والتي لم تسمع عن هذه البلاد ولا كلمة واحدة: هكذا كانت مصر المحاربة، المقاتلة، المناضلة. لم يمنعها احتلال العدو الصهيوني لجزء من أرضها. خصوصاً سيناء الحبيبة والعزيزة والغالية. لم تمنعها مؤامرة العدو من أن تعيش حياتها وأن تحتفل برأس السنة بهذه الطريقة.

أيامها كان البعض يهاجم هذه الاحتفالات، ويعتبرها ضد المناخ العام الذي لا بد من وجوده بسبب الاحتلال. وأعترف أنني كنت من الذين يهاجمون مثل هذه الحفلات، ويعتبرونها مؤامرة غربية على روح النضال الوطني ضد العدو الصهيوني. لكني الآن بعد كل هذه السنوات – ومرور السنوات يفعل بالنفوس الأعاجيب – أنظر للأمر من زاوية أخرى، أرى فيه عظمة الشعب المصري القادر على أن يرد على أقسى المحن وأشدها قسوة بفن الحياة وصناعة الحياة وحب الحياة.

رحم الله الجميع.