أفكار وآراء

الكسندر دوغين ..كيف تفكر روسيا ؟

03 يناير 2017
03 يناير 2017

إميل أمين -كاتب مصري -

[email protected] -

هل لابد لكل زعيم سياسي من منظّر ومفكر،عقل ورؤية، يكون أداته للتواصل مع الناس، يرسم له خرائط توجهاته الاستراتيجية لاسيما في أزمنة التغيرات المصيرية، وعند منعطفات الأحداث الكونية؟  

اغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل، وحال توجيه النظر إلى روسيا، والتي باتت مثل طائر الفينق الذي يقوم من رماده، وبخاصة مع قيادة فلاديمير بوتين للبلاد منذ العام 200 يضحى التساؤل واجب الوجود كما تقول جماعه الفلاسفة ... «من هذا المفكر الذي يرسم خطوط الطول والعرض لبوتين، ويحل لنا - في الشرق الأوسط بنوع خاص - شفرات وأسرار التدخل الروسي في سوريا منذ أكثر من عام؟

حكما نحن نتكلم عن «الكسندر دوغين، الذى أطلق عليه البعض» عقل بوتين «فيما آخرون رأوا فيه منظّر الامبراطورية الروسية الحديثة، ومنظر « اوراسيا»، ذلك الحلم الذى رآه من قبل «شارل ديجول» عن أوربا الواحدة من شواطئ الاطلنطي إلى جبال الاورال.

يصعب أن تحيط هذا الرجل الذى يشبه فى ملامحه فلاسفة الإغريق بتعريف واحد، فهو سياسي ومفكر، ومنظر واستراتيجي، روسي وارثوذكسي سلافي، انه اقرب إلى رهبان المعابد القديمة والنساك حال الاقتراب منه، وقامته الفكرية تجعل من ينافسه من الأوروبيين أو الامريكيين على نحو خاص يشعر بالندم.

في قلب الدائرة السياسية الحاكمة ولد « الكسندر دوغين»، عام 1962، الوالد جنرال في دائرة الاستخبارات العسكرية في هيئه الأركان العامة الروسية.

البداية كانت مع دراسة الطيران في معهد موسكو، لكن الكاتب الروسي «يفغيني دياكونوف» كاتب سيرته يخبرنا انه لم يكمل هذا المسار لأسباب سياسية لا يذكرها، لينتقل من بعد إلى دراسة الفلسفة ليحوز درجة الدكتوراة فيها، ولاحقا يعد اطروحة أخرى عن العلوم السياسية ليضحى حاصلا على درجتي دكتوراة

يعد «دوغين» من أوائل المفكرين الناقدين لفكرة القطبية الأحادية، ويرى أنها شر مستطير، انه يرى هذا النوع من أحادية القطب بمثابة امبريالية جديدة، ومحاولة للهيمنة الجغرافية والسياسية والاستراتيجية من قبل القوة العظمى التي هي أمريكا ، ويرى أن جهود واشنطن المدعاة لتنظيم توازن القوى على وجه الأرض، ليست إلا تمثيلية بلهاء من اجل أن تقوم على حكم العالم كله وفقا لمصالحها الخاصة، وبالتالي حرمان بقيه الأمم من السيادة الحقيقية.

يرى دوغين أننا ما زلنا في لحظات القطبية الواحدة التي هي في مراحلها الاخيرة، وعمليه زوالها قد تكون طويلة، وقد بدأت بالفعل، على الرغم من امكانية عدم حدوثها، لذلك فإنه من غير المناسب القيام باستنتاجات متسرعة تؤكد أن نظام القطبية الواحد والهيمنة الامريكية قد أصبح من الماضي، وإننا نعيش في مرحلة ما بعد القطبية الأحادية. الأمر ليس كذلك لأننا ما زلنا نعيش في عالم القطب الواحد، وهو الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي السائد.

فهم دوغين الواضح للحقائق يعطي أفكاره مصداقية كبرى، فالرجل يرى أن الهيمنة الامريكية لا تزال قائمة في مجال التقنية العسكرية، وهذه حقيقة لا يمكن الجدال فيها، ويؤكد أن الليبرالية والديمقراطية الليبرالية هي الايديولوجيا السائدة على نطاق عالمي واسع، وان الغرب مازال هو الذي يضع المعايير للاقتصاد والسياسة، الثقافة والتكنولوجيا، مما يضطر منافسه ولاسيما الصين وروسيا بالتعامل مع معاييره.

لكن رغم ذلك يؤكد دوغين أن القطبية الأحادية يجب فهمها اليوم بشكل أوسع مما هو متعارف عليه، إن هذه القطبية الأحادية الاصطناعية بدأت في التآكل بشكل فعال، وخلقت بيئة نستطيع أن نطلق عليها» شفق القطبية الأحادية»، وعليه فإن القطبية الأحادية تنطفئ وتحل مكانها الآن أشياء غير معروفة بعد.....هل دخل العالم مرحلة الأقطاب المتعددة إذن؟

يؤكد العالم والمفكر الجيوسياسي «الكسندر دوغين» أننا لم نصبح تماما في عالم متعدد الأقطاب، ولكننا في المرحلة الانتقالية لهذا العالم، وهذه مرحلة في غاية الخطورة، لان أحادية القطب للولايات المتحدة لم تنته بعد، بل يحاولون الإبقاء على هيمنتهم.

المرحلة الكونية الحالية إذن في تقديرات دوغين هي مرحلة انتقال من أحادية القطب للولايات المتحدة الامريكية الى عالم متعدد الأقطاب، غير انه يرى أن روسيا فيه ستكون الامبراطورية التي تمثل السلام العالمي.

كيف يمكن لروسيا أن تضحى ممثلا للسلام العالمي؟

الجواب حكما نجده فى «النظرية السياسية الرابعة» التي يقدمها دوغين في واحد من أهم كتبه الاخيرة، وفيه يقدم نقدا للإيديولوجيات الثلاث التي عرفها القرن العشرين: «الليبرالية، الفاشية، الشيوعية» يرى دوغين انه منذ هزيمته الفاشية والشيوعية وذهابهما في التاريخ، فإن الليبرالية تصول وتجول في الساحة دون منازع، بل حتى تتظاهر بأنها ليست ايديولوجية إلى جانب الإيديولوجيات الأخرى، بل هي واحدة من مكونات الحياة الانسانية الطبيعية.

الفكرة الاساسية للنظرية السياسية الرابعة، هي تقديم نموذج جديد خارج عن الشيوعية والليبرالية والفاشية، وهو اقتراح خالص تماما لبناء نظرية سياسية بديلة، وليس على مبادئ الليبرالية، نظريه تقول بحق الجميع في الحياة والشراكة، فرد كان أو طبقة، عرق أو دين، هي نظرية تسعى لحماية الوجود، من التصرفات المؤدلجة التي نعيشها في المجتمعات التي تشبه المسرحيات، والتي تتكشف من حولنا، بعد أن فقدت مقدرتها على الخداع مجددا، إنها نظريه تدافع عن الصالح العام، ذلك الذي ينضوي على ثقافات الأمم والشعوب، دون عزل أو إبعاد أو إقصاء، وبغير فوقية تشابهت كثيرا حدودها وخطوطها في الإيديولوجيات الثلاث المتقدمة: الليبرالية، الشيوعية، الفاشية. الغوص في النظرية السياسية الرابعة لـ «دوغين» يكشف لنا رؤيته لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تبين أن مصير الإنسان «ونهاية التاريخ» ليس بالطريقة الماركسية بل كان يبدو انه بالشكل الليبرالي نفسه الذي كان الفليسوف الأمريكي الجنسية، الياباني الأصيل «فرانسيس فوكاياما» قد سارع إلى توعية الإنسان منه، عبر الإعلان عن «نهاية التاريخ»، والنصر المؤكد، والدائم للسوق الحرة، الليبرالية، أمريكا والديمقراطية البرجوازية.

النظرية السياسية الرابعة عند «دوغين» تبرر الحاجة إلى العالم متعدد الأقطاب، فيه الحضارات تتحاور وتتجاور، لا تتصارع كما تنبأ هنجتون من قبل، حيث كل عنصر من عناصر الفرقة الكونية، يمثل جزءا في لوحه فسيفسائية حول العالم يمكن أن تتطور بشكل مستقل وبناء، على أسس من القيم السياسية والاجتماعية الخلاقة، وانطلاقا من نظام فلسفي في الجغرافيا عبر تقييم المناطق، بشكل مستقل، وعلى اتصال دائم، مع حتمية الاتفاق مع هذا الكيان الوجودي ....

هل النظرية السياسية الرابعة لـ «دوغين» هي المنطلق الاول لطرح اوراسيا المنبثق عن رؤيته لروسيا الجديدة؟

سواء إن اتفقنا أو افترقنا مع قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، فإن الروس وفي مقدمتهم «دوغين» يعتبرون أن الأمر بداية جديدة لإعاده الحلم الروسي الذي كاد أن يتبخر، لقد كانت الأحداث في أوكرانيا عام 2014 بحسب «دوغين» نقطة تحول لتاريخ روسيا الجديدة والتحدي القوي لموسكو، الذي يتطلب الوضوح إما بنعم أو لا، ولكن موسكو لم تقل لا ولم تقل نعم ، ولكنها قامت باتخاذ تدابير كافية ردا على الميدان الأوروبي نتج عنها ضم شبه جزيرة القرم ضمن أراضي روسيا.

يقر «دوغين» بأنه بعد أحداث الميدان الاوروبي في «كييف» انتقلت أوكرانيا إلى الصف المعادي لروسيا، وعرقلت امكانية إنشاء الامبراطورية، فقررت روسيا ضم نصف أوكرانيا إلى هذه الامبراطورية بما انه لا يمكن دمجها بالكامل وهذا أمر سيئ ولكنه مضمون أكثر، ولذلك تم ضم شبه جزيرة القرم.

يواجه دوغين روسيا شعبا وحكومة بانتقادات حادة، ربما تصل في قسوتها إلى الدرجة التي هي عليها حال أعداء روسيا في الغرب، وعنده انه من الناحية السياسية فعلت روسيا الصواب في شبه جزيرة القرم، كما يتصرف الأقوياء، لكن الروس لم يقوموا بالخطوة الثانية، وبالتالي فإنهم لم يجيبوا على السؤال التالي ....»هل يملكون الحق أم أنهم يرتجفون؟

والجواب ان كل شيء سوف يحال أو بالأحرى يتم تأجيله، لذلك فإن روسيا الجديدة تعيش حالة من عدم اليقين الدموي، أو قبل كل شيء عدم يقين الوضع الجيوسياسي لروسيا.

الأسئلة التي يطرحها «دوغين» عميقة للغاية، إنه يطلب من الروس جوابا عمن هم؟ قوة عالمية، أم قوة إقليمية؟ أو قوة دون إقليمية.

والشاهد أن أحداث روسيا الجديدة أصبحت أيضا اختبارا لهوية المتحكم في موسكو، الداعين لمصالحها الوطنية أم الطابور السادس (وهو مصطلح استخدمه دوغين في أدبياته دلالة على فئة تتجاوز الطابور الخامس في خدمتها لأعداء الوطن عن سوء ظن وقصد، لا عن نية وتقصد)، شبكة النفوذ الأطلنطي، وكانت النسبة متساوية وبنجاح كانت النتيجة ضم شبه جزيرة القرم، القوة الروسية، واتفاقية منيسك.

وبذلك روسيا الجديدة وضعت عنوانا صريحا لعدم اليقين الجيوسياسي لروسيا المعاصرة ، نصف دولة ذات سيادة، ونصف آخر لمستعمرة اجتماعية سياسية واقتصادية غربية، لذلك فإن روسيا الجديدة هي اكتشاف الحقيقة غير السارة لكلا الطرفين في المجتمع الروسي الذين يعتنقون فكرة روسيا الجديدة ويعتبرونها كل شئ بالنسبة لهم... والذين يرغبون في فتح أبوابهم للأعداء... هل كانت روسيا على موعد آخر مع حدث مغاير تظهر من خلاله رؤاها الموحدة خلف روسيا الجديدة، دون خجل أو وجل؟

لماذا تدخلت روسيا - بوتين في الصراع السوري بهذه القوة غير المسبوقة منذ زمن أفغانستان وحتى الساعة؟

هذا التساؤل طرح كثيرا جدا على موائد النقاش حول العالم، وقد قدم «دوغين» رؤيته عبر مقال نشره باللغة الألمانية (يجيد ثمانية لغات إجادة مطلقة قراءة وكتابه) وقد لخص الأمر بأنه مواجهة بين جبهتين «الأوراسيين» من جهة، ومن أطلق عليهم الأطلسيين من ناحية ثانية.

يرى دوغين أن الحرب بين الطرفين، تعيش معركتها الثالثة، كانت الأولى في حرب الشيشان، والثانية حرب جورجيا، والآن الحرب السورية.

تدخل روسيا العسكري في سوريا، أو كما يسميه «دوغين» تقديم دعم عسكري روسي إلى سوريا، هو فعل جيوسياسي لأوراسيا ، فـ« الدولة الإسلامية» هي «منتج أمريكي» بحسب تقديره، وهي خطر مباشر على روسيا، وإذا «لم نحتو ما خلقته الولايات المتحدة ودعمته من إرهاب في سوريا فعلينا قريبا أن نقاتله على حدودنا، وحتى ضمن أراضينا»...حسبما يقول دوغين.

يؤمن «دوغين» بأن انهيار سوريا سيولد انهيارا متتابعا «نظرية أحجار الدومنيو»، على الدول الإسلامية في المنطقة، وملايين اللاجئين سيغزون أوروبا لأنهم لن يعودوا قادرين على العيش في الفوضى.

تلك الفوضى المخلوقة أمريكيا، هي موجهة ضد أوروبا مباشرة، كي يحدث اللاجئون عدم استقرار في البنية التحتية الاجتماعية لأوروبا، وبالتالي العمل على شد القارة العجوز سياسيا.

يربط «دوغين» بين أوروبا وبين روسيا وسوريا، فهو يستدعي صورا من مواجهات الماضي، فروسيا في الماضي نظرت إلى أوروبا كدرع ضد التمدد العثماني التركي، واليوم روسيا - بحسب تقديره - وهي تقاتل ضد طموحات الهيمنة الأمريكية في سوريا، هي الدرع للقارة الأوروبية.