أفكار وآراء

أبناؤنا والقدوة .. وخطورة دور الأسرة !!

01 يناير 2017
01 يناير 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يقال اليوم إن هذا الجيل هو «جيل النرجسية يحصل على كل ما يريده فيزداد اغترابا» ومع اقتراب هذه المقولة من الواقع، فإن المسألة شديدة الخطورة، لأن حالة الرفاه هذه التي يتحدث عنها ليست بعيدا أن تبدأ في لملمة أشلائها، فليس هناك مخلد وسرمدي في الحياة يأتي الترف كأحد معاول الهدم في أي مجتمع يرتقي فيه أفراده من حالة الكفاف الى حالة الرغبة والزيادة، حيث تتبدل على أثر ذلك الكثير من القيم الاجتماعية، ويعوض عنها قيما أخرى ضاغطة بقوة التغير والتبدل الناتجة عن وجود مفاهيم جديدة يستسيغها الناس انعكاسا لمجمل اشتغالاتهم في الحياة التي يعيشونها، ويمارسون من خلالها أنشطتهم المعبرة عن عصرهم، وحالهم، وعن توظيف مجموعة الأدوات البديلة والمعبرة عن عصرنة هذا الحاضر، يحدث هذا عندما يتضاءل دور احد محاضن التربية، ولعل في مقدمتها الأسرة، حيث هي المحضن المهم؛ والمهم جدا، وبقدر التسليم لهذا الواقع المؤلم، إن يجوز التقييم، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقا التسليم المطلق، فديدن الحياة هكذا تعيش بين مد وجزر، تتقدم بمنجزها خطوة، وتتقهقر في تراجعها خطوة، وهنا تكمن قدرة الإنسان المميز بالعقل الراشد، في الاستفادة من حالتي التقدم والتقهقر؛ حيث يستصوب الأخطاء التي يقع فيها، ويسخر الإنجاز في تدارك أخطاء أخرى قد تحدث مستقبلا لتبقى عنده مساحة «خط رجعة» ليقوم ما أعوج من سلوك.

ولعل الامر الاكثر سلبية الذي يقع فيه أفراد المجتمع، هو تراجع القيم، فالقيم هي العنوان الرئيسي لقدرة المجتمع على الإنجاز النوعي في كل ما يعنيه، وما يعضد من لحمته، وتكاتف أفراده، وتعزيز هويته، حيث تظل القيم العنوان الرئيسي الذي ينظر الى المجتمع من خلاله، والمؤمل دائما أن الممارسة الحياتية والخبرة والتجارب التي تمر بها المجتمعات يعطيها عمرا آخر يمثل قيما مضافة لكل ما من شأنه أن يعزز مكانة المجتمع ويفضي به الى مراحل أخرى متقدمة لتعزيز مكانته، وتأثيره على واقعه، وإضافة لبنات جديدة في صرحه الممتد، لأن رياح التغيير هي أيضا ضاغطة بقوة، تعززها عوامل عديدة، مقدور على بعضها، وبعضها الآخر غير مقدور عليه بحكم التأثير والتأثر من ناحية، وبحكم تقبل الأجيال الجديدة لكل ما هو حديث، ولكل ما يدعو الى الخروج عن المألوف والمعتاد، لأنه وبحكم خلخلة القيم المعروفة، أن الأجيال تسعى هي الأخرى الى ميلاد قيم جديدة معبرة عن عصرها، وعن قناعاتها، وعن مخاطبة غرائزها، وعن المشكًلة لهويتها في العصر الذي تعيشه، ولذلك تكتسب الحياة دوما مظاهر أخرى معبرة عن عصورها المتتالية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتكرر الصور والأدوات، والممارسات، ومن هنا يأتي مفهوم الصراع بين الأجيال، فكل جيل ينتصر لإنجازاته، وكل جيل يرى في نفسه الأجدر بإثبات الذات .

يتم الحديث اليوم عن مجتمع الرفاه، وخاصة في بعض دول الخليج، وهذا المجتمع له مزالق كثيرة، وله انكسارات اكثر خطورة، وخاصة المتعلقة منها بالبنى الأساسية لقيم المجتمع، والتي يأتي في مقدمتها مجموعة القيم الحاكمة والضابطة لحركة أفراده، طبعا هذه المزالق او التراجعات، او الانكسارات؛ سمها ما شئت، لا يعيها جيل اليوم، لأنه تربى على مستوى معين من هذا الرفاه «المصطنع»، حيث تربت أجيال هذا المجتمع على شيء اسمه «خدم» المنزل وبالتالي فهذا الولد او البنت، يصبح آمرا ناهيا مع صغر سنه، لا يحرك أي شيء يريده الا بصيغة الأمر والنهي، حتى أثر ذلك على سلوكه خارج المنزل، وما نراه من سلوكيات وممارسات غير صحيحة في أحضان المجتمع ما هو إلا انعكاسا لتداعيات هذه التربية «المرفهة»، ولذلك هناك حالات كثيرة وتنمو بكثرة - على سبيل المثال - لأزواج يشتكون من أن زوجاتهم لا يعرفن الطبخ، وليست لهن القدرة على إدارة المنزل ونظافته، وحتى لا يعين ما هو مفهوم الأسرة، كل ما يعرفه الذهاب الى المكتب والعودة منه لمواصلة النوم، ثم التسكع في المجمعات التجارية، من غير هدف في بعض الأحيان، حيث الجلوس في مقاهي المجمعات ومراقبة الذاهب والعائد، وما ينطبق على الفتاة الزوجة، ينطبق على الفتى الزوج؛ الذي لا يضع معايير معينة لحياته الزوجية، حيث يسهر مع أصدقائه الى الوقت الذي يريده، ويسافر في رحلات خلوية مع أصدقائه والمبيت ليلة وليلتين، والزوجة تنتظر في منزلها وحيدة، وهكذا يبدأ الخلل والوهن يتوغل بين معززات الأسرة المفترضة، وعندما تبدأ مرحلة تربية الأطفال لدى هذه الأسرة أو تلك تحل على هذين الزوجين، تبدأ قصة أخرى، حيث يودع هؤلاء الأطفال في بيت العائلة الأول، وتبدأ معاناة أخرى (للجدة) وهي تربية الأحفاد، في الوقت الذي يفترض لها أن تستريح من هذه القصة، بعد أن أفنت عمرها في تربية أولادها الأول.

يقال اليوم إن هذا الجيل هو «جيل النرجسية يحصل على كل ما يريده فيزداد اغترابا» ومع اقتراب هذه المقولة من الواقع، فإن المسألة شديدة الخطورة، لأن حالة الرفاه هذه التي يتحدث عنها ليست بعيدا أن تبدأ في لملمة أشلائها، فليس هناك مخلد وسرمدي في الحياة، حيث تمر المجتمعات بمنعطفات بعضها خطيرة، وبعضها مسالمة الى حد ما، وحالة التسالم هذه ليست مضمونة، وبالتالي العيش على حالة عدم الاسراف - حتى لا نقول الكفاف - هي الحالة التي يجب أن تسود «كمفهوم» في تربية الأطفال، وليس العكس، مهما كانت قدرة الأسرة المادية، فالمكون القيمي لدى أفراد المجتمع يجب أن يبقى على مستواه الأفقي والعمودي على حد سواء، فالأجيال هي التي سوف تدفع الثمن، إن لم تترب على هذا النوع من التربية الصلبة في بعض جوانبها، الوطن لن يفتخر بأبناء خاملين عجزة في أعمارهم المبكرة جدا، فاستحقاقاته كثيرة، وباهظة الثمن، ويحتاج الى تضحيات جليلة، والتربية «المرفهة» عمرها قصير مهما امتدت، ونتائجها خطيرة مهما كانت ضئيلة، فهل يعي المربون ذلك؟.

يرى كثير من المراقبين للشأن الاجتماعي أن «الاستقلالية المبكرة» للأبناء فيها خطورة، وتكثر هذه الاستقلالية في مجتمع «الرفاه» لأنها تخرج أفرادا لا يتحملون مسؤولية و لا يعيرون القيم الضابطة أية اهتمام، وهوى النفس كبير وعميق، وعندما يجد الأرضية خصبة للجنوح لن يتوانى عن ذلك ، فالأب الذي يخصب أبناءه بمصروف - تعويضا عن غيابه عن الأسرة - اكثر عن حاجياتهم الأساسية، فإن الزائد من المصروف سوف يذهب الى شراء أشياء من غير ذات فائدة، ويوجد في المجتمع شابا مغرورا، وقد يقوده هذا الغرور الى سلوك وممارسات ضررها أكثر من نفعها، وقد يجني وبالا على أسرته ككل، ومتى عاش الشاب على هذه الصورة من الاستقلالية المبكرة، فإن عند وصوله المرحلة الاستقلالية الحقيقية المطلوبة منه، فإنه سيكون أكثر معاناة، لأنه لن يجد المادة التي اعتادها أيام ما كان في حاضنة الأسرة، وقد يؤدي به للتعويض وللبقاء في حياة «الرفاه» أن يسلك مسالك غير صحيحة ، وقد يرتكب جرائم مختلفة ليستمر على مستوى الحياة التي يريد، وهذا منزلق خطير جدا . وبالتالي على الآباء أن يكونوا اكثر حرصا على أبنائهم قبل أن يصلوا الى هذه المرحلة من التردي، فالقانون عندها «لن يحمي المغفلين» فهل عند هذا الحد يمكن القول إن «الآباء أكثر خطرا على أبنائهم وبناتهم»؟ أوقن أن الإجابة هي نعم، وهناك أسر كثيرة ضيعت أبناءها بسبب هذا النوع من التربية، أرادوا لهم العيش الرغيد، فإذا النتيجة تأتي صادمة ومؤلمة، وهذا ما يؤسف له حقا.

في كثير من ممارسات التربية التي يقوم به الآباء ربما عن غير قصد فيها فقدان لـ «القدوة الأبوية» بعد أن كانت القدوة اهم عامل بناء تعتمد عليه الأسرة لصلاح أبنائها، وإحكام تربيتهم الخلقية والنفسية، هناك من يعيد السبب أكثر الى شيوع الأسرة «النووية» بعد أن انفصلت عن الاسرة «الابوية»، وهو انعكاس لتطور الحياة الحديثة، حيث لم يعد الأبناء يقيمون مع آبائهم وأمهاتهم في نفس المنزل «العائلي» الكبير، كما يسمى، وهذا الانفصال أثر كثيرا في مسائل تربية الأبناء، وجوانبها الدقيقة المختلفة، فالأب والأم كلاهما في الوظيفة حتى منتصف الجزء الثاني من النهار، وعند العودة يغطان في نوم عميق حتى حلول الليل، حيث يأوي الأطفال الى فراشهم، ولذلك يظل التقارب متباعدا، والاقتداء نادرا، وكل العبء على عاملة المنزل، الفاقدة أصلا لكثير من قيم التربية، وقيم المجتمع، فجل هؤلاء العاملات أميات، وجاهلات، ومن بيئات فقيرة في كل شيء، فماذا عساها أن تعطي لهؤلاء الأطفال التواقين الى الحياة، سوى جهل أكثر، وأمية أعمق، حتى تنقذهم المدرسة عندما يبدؤون فيها بعد ست سنوات من هذه التربية الهلامية الشائعة اليوم.