إشراقات

العوذ بالله لا بد من تجديده

29 ديسمبر 2016
29 ديسمبر 2016

هدايات الرحمن.. وقفات مع آيات القرآن -

العوفي: المستحقون للوجود في دائرة الحماية من آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم -

متابعة: سيف بن سالم الفضيلي -

أوضح فضيلة الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في حلقة دروس «هدايات الرحمن.. وقفات مع آيات القرآن» التي يقدمها كل أربعاء بجامع الإمام السالمي بالخوير أن العوذ بالله لا بد من تجديده وإحداثه مرات ومرات ليكون دائم الوجود في دائرة الحماية الربانية.

وأشار الى أن المستحقين للوجود في دائرة الحماية؛ من آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.. وإلى ما جاء في الدرس.

«أَعُوْذُ» معناها: ألجأ إلى الله وأدخل في حمايته، وقد وقع التعبير بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث؛ للدلالة على أن العوذ بالله لا بد من تجديده وإحداثه مرات ومرات، ولا يكفي أن يحصل ذلك من الإنسان مرة واحدة، والمعنى أن الإنسان لابد أن يكون دائم الوجود في دائرة الحماية الربانية؛ وهذا يدل على أن المستعاذ منه وهو الشيطان الذي عبر عنه في سورة الناس بـ(الوَسْوَاسِ) دائم التربص بالإنسان، يبحث له عن غرة أو ثغرة يأتيه من قبلها، وهذا واضح فيما حكاه الله عن إبليس (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) الأعراف: ١٦ – ١٧؛ ولذلك كان لزاما على الإنسان أن يبقى دائما في حماية الله، ولا يخرج عن دائرة الحماية.

طريقة الدخول في دائرة الحماية الربانية

وقد بين الله في القرآن صفة المستحقين للدخول في حماية الله وجواره الذين حصل لهم الأمن، فقال الله – جل جلاله-: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» الأنعام: ٨٢، فالمستحقون للوجود في دائرة الحماية من آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.

وقد ذكر النبي الكريم علامة يعرف بها الإنسان إيمانه من عدمه، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن الناس قد قالوا: لا إله إلا الله، فخفي بها المؤمن من المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بفصل ما بينهما؟ المؤمن إذا أصبح فهمه الله والجنة والنار، وأما المنافق إذا أصبح فهمه بطنه وفرجه ودنياه»، فمن أصبح وهمه طاعة الله وقلبه بين رجاء الثواب الذي يدفعه إلى المسارعة في الخيرات وخوف العقاب الذي يدفعه إلى البعد عن المخالفات، رجي له أن يكون من أهل الإيمان، ومن أصبح همه الدنيا والجري وراء شهواته وملذاته لا يعرف حلالا ولا حراما والعياذ بالله كان ذلك علامة على الخسران.

وشرط الحفاظ على الإيمان عدم خلطه بمخالفة الله، وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله « وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» الأنعام: ٨٢، والمعنى أنهم آمنوا إيمانا أبعدهم عن الظلم، وإن وقعوا في الظلم سارعوا إلى الرجوع إلى الله بالتوبة النصوح، والظلم هو مخالفة الله، فالشرك ظلم «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» لقمان: ١٣، والقتل ظلم «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا» الإسراء: ٣٣، فالمقتول بغير حق مظلوم، والقاتل ظالم؛ لأنه وقع منه الظلم، وهو القتل، والذي يبغي على الناس ظالم، وبغيه على الناس ظلم «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» الشورى: ٤١ – ٤٢، وقد أشار القرآن إلى أن ما دون الفاحشة يسمى ظلم «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون» آل عمران: ١٣٥، والقرآن أطلق الفاحشة على مخالفات منها: الزنا ونكاح زوجة الأب والعياذ بالله، وهذا يدل على أن غير تلك الفواحش يكون ظلما للنفوس، كأكل الربا والسرقة والغيبة والنميمة والقذف وغيرها، والفاحشة ظلم فوق ظلم، فكل ذلك ظلم، فمن آمن ولم يشب إيمانه بشائبة المخالفة لله كان مستوجبا للأمن من الله؛ وبذلك يكون في دائرة حماية الله، والدخول في حماية الله له علامة.

علامة الدخول في حماية الله وجواره

فالدخول في حماية الله لا يكون بإجراء الاستعاذة على اللسان فحسب، بل (إن حمى الله محارمه)، ومحارم الله: لزوم طاعته والبعد عن مخالفته، وهذه علامة الدخول في حماية الله، ووقوع العوذ بالله للإنسان، وهذا الأمر تكفل ببيانه من دخل فيه، وحصل له، وهو النبي الكريم، فقد قال: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالنبي الكريم يبين أن السبيل إلى تجنب كيد الشيطان وضرر وسوسته هو صلاح القلب؛ فالقلب الصالح ليس للشيطان عليه سلطان، وصلاح القلب لا يتحقق إلا بتحري الحلال واتقاء الحرام؛ فإن ذلك علامة الأيمان الصادق واليقين الراسخ، وعلامة للإنسان على أنه داخل دائرة الحماية لا خارجها؛ فالمسلم من كان مسلما عند الشهوات بأنواعها من علم ومال وجاه وغير ذلك، والمسلم من كان مسلما عند الدرهم والدينار.

من المسلم؟

وقد بين النبي الكريم أن الإسلام منهاج كامل وبناء شامخ، ذلك البناء يقوم على خمس قواعد متينة، يقول النبي الكريم ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا))، فأركان الإسلام الخمسة قواعد يبنى عليها الإسلام العظيم الذي يدخل في حركات الإنسان كلها وسكناته كلها، وتمام بناء الإسلام على القواعد الخمس يظهر في تعاملاته مع الله، وتعاملاته مع نفسه، وتعاملاته مع والديه وأهله وجيرانه، وتعاملاته في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه، وهذا الأمر هو الذي عبر عنه القرآن بالتقوى عند ذكر القواعد، فقال الله – جل جلاله- عند ذكر الصيام «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة: ١٨٣، وقال الله – جل جلاله- عند ذكر الحج: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» البقرة: ١٩٧، وقال – جل جلاله- عند ذكر الصلاة: «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» العنكبوت: ٤٥، وقد اختصر النبي الكريم معنى الإسلام في كلمات قليلة الألفاظ عظيمة المعنى، من جعلها من مكنونات قلبه عرف اتصال نفسه بالإسلام من عدمه؛ فقال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقد يكون هناك من نطق الشهادتين ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ولكنه يقع في المخالفات ويعمل المنكرات، والناس ليسوا في سلامة من لسانه ويده، ولا تحدثه نفسه بالرجوع إلى الله، فمثل هذا قد عمل القواعد، ولكن تركها من غير أن يبني عليها البناء، وليست للقواعد قيمة إذا لم يرفع عليها البناء، بل وجود قواعد من غير بناء تشويه للمنظر، فالدين المعاملة، نعم، الدين المعاملة في كل شيء.

الدخول في حماية الله

ووجوده في حمى الله لا يعني سلامته من وسوسة الشيطان، فوسوسة الشيطان مستمرة، ولكن تلك الوسوسة لا يكون لها أثر على المستعيذ بالله الداخل في حماية الله، نعم، الموسوس عنده وسائل وطرق في غاية التخطيط والإتقان، وحسبنا أنه استطاع أن يوسوس لآدم عليه السلام، والشيطان خارج الجنة، وآدم عليه السلام داخلها «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا» طه: ١١٥، ولكن أعطى الله المـوسوس له سلاحا، والشيطان لا يقوى على الوقوف في وجه ذلك السلاح، والسلاح متاح لكل أحد، فكل أحد يمكن أن يحصل عليه.

شرطان

ولكن لا بد من اليقين ولزوم دائرة الحماية، نعم، لابد من يقين بأن من عاذ بالله صادقا مستكملا لشرط الدخول في دائرة العوذ حصلت له الحماية من الله وحده، وإن حصل اعتداد بالنفس أن لها أثرا في حصول الحماية، وأن شيئا حصل من الحماية بقوة المخلوق أو عدده أو غير ذلك كان ذلك مخرجا من دائرة الحماية موقعا للمخلوق فيما كان لا يحسب له حسابا، وقد وقع ذلك للصحابة في حنين وفيهم النبي الكريم، فأعجبتهم كثرتهم، «فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» التوبة: ٢٥، لأن دخول مثل هذه النوايا في القلوب تقدح في عقدة التوحيد وتطعن فيها، ولذلك لابد من رد الواقع منه ذلك إلى صوابه؛ لينتبه لنفسه «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا» النحل: ٩٤، والتنبيه يكون من خالق المخلوق.

ولابد من لزوم دائرة الحماية؛ لأن الخروج منها خروج من عوذ الله، وقد يصير الإنسان بعد ذلك إلى مآلات لا يستطيع تحملها والنجاة منها إلا بالعودة مرة أخرى إلى دائرة الحماية، وفي قصة يونس عليه السلام درس عظيم، فالآية تشير إلى أن يونس عليه السلام خرج من غير أخذ إذن من الله؛ فقد استعمل القرآن كلمة (أبق) التي تدل على هذا المعنى، فركب سفينة، وعندما ثقلت السفينة، واقترعوا على رمي أحدهم تخفيفا عليها وحفظا لها من الغرق؛ فوقعت القرعة على يونس «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» الصافات: ١٤١ – ١٤٢، فتنبه لنفسه، ورجع إلى ربه فنجاه الله، وأعطاه منزلة فوق منزلته التي كان فيها على خلاف الحال عند المخلوقين غالبا، فإنهم لا يقبلون الراجع إليهم، وإن قبلوه لم يردوه إلى مكانته التي كان فيها، فسبحان الله العظيم «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» الصافات: ١٣٩ - ١٤٨.

وقد وقع مثل ذلك للصحابة الكرام في أحد وفيهم الرسول الكريم الذي أمر الرماة بلزوم أماكنهم وإن تحقق النصر، فخالفوا، فوقع ما لم يكن محسوبا له وفاتهم النصر الذي كان قد تحقق لهم أول اللقاء، وقتل منهم سبعون. فلا بد من لزوم دائرة الحماية، وتعهد العوذ بالله في كل وقت وحين خوف الخروج منها ولو من غير شعور على ما يقع في حال النسيان؛ ولذلك أمر الإنسان أن يلزم أهل الإيمان الصادقين؛ ليذكروه عند وقوعه في النسيان «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» التوبة: ١١٩، والحاجة إلى مصاحبة أهل الإيمان يفتقر إليها كل أحد ولو كان نبيا؛ فالله خاطب بذلك نبيه، فقال له: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» الكهف: ٢٨.