أفكار وآراء

كاسترو متعدد الوجوه .. قراءة سياسية

24 ديسمبر 2016
24 ديسمبر 2016

د.فالح حسن الحمراني  -

كاتب من العراق يقيم في موسكو -

[email protected] -

لم يكن فيدل كاسترو الذي أعلن عن رحيله في أواخر شهر نوفمبر الماضي، زعيما طارئا على التاريخ، انه ممثل حتى النخاع للعصر الذي عاش فيه، وعكسه باقتدار وحنكه. وهو أيضا وجه العصر وأول من أقام دولة اشتراكية في القارة الأمريكية الجنوبية كرد فعل على موقف واشنطن من نظامه. وان تفهم كاسترو يعني انك ستفهم ذلك العصر الذي عاشه بكل تعرجاته وتناقضاته. لقد مثل بشخصه ردة الشعوب على قوى الاستعمار والاستهتار بحق الشعوب ونهب ثروتها وتعويم هويتها. تلك الردة المحفوفة في الواقع بالإشكالية وشابها الكثير من الظلال، لأنها ألغت حرية الفرد واحلت محلها حرية السلطة والحزب الواحد والرأي الواحد، وتعاملت بقسوة مع الرأي الآخر. فهل كان هذا هو الخيار الوحيد؟.

وفيدل كاسترو مثل الكثير من الزعماء الباحثين عن بناء عالم عادل تتوافر فيه القيم الخالدة للإنسان، وتوفير الحياة الكريمة. من تلك الاساطين التي تدرك بأن الأولوية تكمن في ضمان الأولويات للإنسان بحاجاته المادية بالصحة والتعليم والخبز (بمعناه العام) وفرص العمل، ومن ثم انشغاله بقضاياه الملحة الأخرى كالحرية الفردية وحقوقه الإنسانية التقليدية. ولكنها أيضا انزلقت على منحدر عبادة الفرد وفرض نظام شمولي يحتكر الحقيقة، ويرفض الحوار، دعك عن النقد، ولو البناء، لبرامجها وتعاملها مع الإنسان كحرية وصبوات لا نهائية. وتجلت كدين محافظ غير سماوي.

إن كاسترو تحول إلى أسطورة سياسية، لأنه كان صاحب موقف، وجابه من دون تردد ولا خوف، أعتى قوى في العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية. واستطاع ان يكسب شعبه الصغير الى جانبه. فعلا ان شعب كوبا عانى من نقص المواد الغذائية والاستهلاكية، وتكيف لأوضاع الحصار الأمريكي المستديم، وتعلم ان يعيد إنتاج ما هو متوفر، وقبل بالتخلي عن مغريات العصر، والعيش بكفاف، من أجل ان لا يهدر كرامته ولا احترامه لذاته، وصيانة أصوله. وهذه كانت دروس كاسترو، التي كلف تحقيقها شعب كوبا ثمنا باهظا من المعاناة والحرمان. لكن العزاء بها أنها كانت خيارات أمة. في ظل حكم كاسترو حافظت الأمة الكوبية على قدرتها على الإبداع والإنجاز، وعلى الروح المرحة المتفائلة. في ظل حكم كاسترو تحولت كوبا إلى أفضل مصحة في العالم، وتطورت الخدمات الصحية والتعليم المجانيين الى أفق لم يعهدها حتى العالم المتطور. والطبيب الكوبي غدا مطلوبا في كل مكان. وكان كاسترو يستنهض الأمة لكل تحتفظ بعنفوانها، وان لا تخون نفسها وتستسلم وتقدم مقاديرها للأكثر قوة اقتصادية وعسكرية. كانت الرهانات باهظة حقا . ولم يقبل غالبية شعب كوبا ببدائل كاسترو!

وانسحبت صورة كاسترو على كافة بقاع العالم. في العالم الغربي تعرض من قبل المؤسسات الحاكمة للانتقاد والتشهير، بالذريعة أو بالأحرى بالتهمة الجاهزة، وهى انتهاك حقوق الإنسان «المجردة». ولكن خلفيات ذلك التشهير والعدوانية، تكمن في كونه من بين أولئك الزعماء الذين سعوا إلى الخروج من دائرة القطب الغربي، وهيمنته متعددة الأشكال على الأمم والشعوب، وملاحقته «المارقين»، الذين كان كاسترو احدهم.

بيد ان كاسترو وحتى في أوساط الرأي العام في الغرب تحول الى رمز لقيادات الشعوب الساعية لتقرير مصيرها واستثمار ثرواتها والتمسك بهوياتها وموروثها الثقافي، مع إبقاء النافذة مشرعة للتفاهم والتفاعل مع الثقافات الأخرى. وتحول كاسترو إلى أسطورة، حتى أحيانا مبالغا فيها، في البلدان الساعية للعثور على طريق تطور خاص بها. وكانت صوره تلوح في كل مكان، موحية بالبدائل الوطنية للتقدم.

لقد انتهك كاسترو وهو زعيم الأمة التقاليد المرعية بالتعامل مع رئيس دوله. وكان متفتحا للحوار مع سكان بلاده، ومن السهل الوصول له. انه دائما في الشارع. دائما بجانب مواطنيه. وكل منا لديه صور عن كاسترو الذي يحصد قصب السكر. وبشهادة جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الشهير فإن مشاركة الزعيم الكوبي في عمليات الحصاد لم تكن شكليه بقصد التصوير أمام وسائل الإعلام بل كانت حقيقية، من الفجر وحتى الغروب. وكاسترو كان في مؤسسات الإنتاج والرعاية الصحية، ويقف ساعات طويلة، حتى غدت للبعض ممله، أمام الجماهير الغفيرة ليشرح مواقفه.

هل كان كاسترو ديكتاتورا، نعم.

لكنها الديكتاتورية الناعمة، التي لم تلطخ تاريخها بالدماء والسجون المظلمة، ولا بالإبادة للشعوب والتصفيات للمعارضة، مثلما عرفتها شعوب كثير من البلدان النامية ولا سيما بعض الدول العربية، حيث الديكتاتوريات سطرت ومازالت «ممارسات وإبداعات» من صفحات العسف والقتل والملاحقات بحق المعارضة السلمية في أغلبها. كان كاسترو من أولئك الزعماء الذين استهوتهم السلطة واستأثروا بها، وربما خدعوا انفسهم بانهم «القيادات الضرورة والتاريخية» التي تمتلك «صك» الانتقال بالأمة إلى مراحل الازدهار والحياة الكريمة وحمايتها من المعتدي والتعامل لخيرها مع التحديات.

سيحتفظ التاريخ بصور متعددة الوجوه لفيدل كاسترو. فهو وليد الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وظل حتى نهاية حياته مؤمنا بموقفه المناهض لنهج سياسة الغرب، واحيانا كان وحيدا في المواجهة. وكان بهذا المعنى رمزا لحرية الأمم ونيلها حق تقرير المصير وصيانة الهوية. وهو أيضا من أولئك الزعماء الذي رجحوا ان تحقيق تلك الأهداف النبيلة تتم في إطار نظام شمولي وصارم يعدم الحريات الفردية ويرفض النقد والبدائل، ويتعامل بقسوة مع المعارضة بغض النظر عن نواياها. ربما ان رحيل كاسترو سيكون علامة فارقة في تاريخ الحريات والاستقلال، لربط استقلال الدول بحرية الإنسان الشخصية وكرامته، وان تكون الدولة مؤسسة لخدمته وليس بالعكس.