الملف السياسي

استعادة حلب .. علامة مهمة في مستقبل سوريا!!

19 ديسمبر 2016
19 ديسمبر 2016

د. عبدالحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول إن استعادة الجيش العربي السوري - القوات الحكومية - السيطرة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وبالتالي إخراج عناصر الميليشيات الإرهابية والمعتدلة منها، مع أسرهم ومؤيديهم، تشكل علامة مهمة، الآن ولفترة قادمة على الأقل، بالنسبة لمستقبل سوريا.

وبعيدا عن ميل البعض إلى الحديث بلغة المنتصر أو المهزوم، وهي لغة لا يحتملها الموقف المأساوي في حلب الشهباء، على الأقل على الصعيد الإنساني، وبعيدا أيضا عن الحديث عن إعادة كتابة التاريخ، خاصة أن الجميع يدرك انه إذا كانت معركة حلب العسكرية قد انتهت، إلا أن الحرب المأساوية في سوريا الشقيقة لم تنته بعد، فإنه يمكن القول إن ما حدث في الأيام الأخيرة يضع الموقف في سوريا، أو يقترب به على الأقل، من وضع جديد، لا يمكن تجاهله، حتى من جانب الرافضين له، أو غير المستوعبين لمعانيه، وللآثار المترتبة علية بالنسبة للأوضاع في سوريا الشقيقة، الآن وفي المستقبل أيضا. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إن مدينة حلب الشهباء، التي تبعد نحو خمسين كيلومترا عن الحدود السورية - التركية، والتي تعد ثاني اكبر المدن السورية، والمركز التجاري النشط للاقتصاد السوري، والتي تحيط بها تجمعات سورية تعكس الفسيفساء السورية بتنوعها وثرائها وتفاعلها أيضا، تعد رمزا بالغ الأهمية على المستويين السياسي والعسكري في الحرب الأهلية والإقليمية والدولية البشعة التي تطحن سوريا دون هوادة، ولعل هذا هو ما يفسر، في جانب منه على الأقل، الاستماتة في الدفاع عن الأحياء الشرقية من جانب الفصائل والميليشيات الإرهابية، وكذلك مجموعات المعارضة السورية على تنوعها من ناحية، والإصرار التام من جانب القوات الحكومية على استعادة السيطرة على حلب من ناحية ثانية. وفي الحروب تكون النتائج ذات دلالة دوما. على أي حال فإن أحداث حلب ومعاركها الشرسة، هي ككل المواجهات المسلحة وحروب المدن، التي يصاحبها في العادة الكثير من الخسائر المدنية، سواء في الأرواح أو في إعداد الجرحى والمصابين، أو في البنية الأساسية، وهو ما يترتب عليه عمليات تدمير واسعة، خاصة إذا لجأت الميليشيات الإرهابية وغيرها إلى الاحتماء بالتجمعات المدنية، ومحاولة الذوبان فيها، حماية لنفسها ضد الغارات الجوية، أو إذا استخدمت المستشفيات والمدارس والمساجد لتخزين الأسلحة والذخائر او كنقاط اشتباك، أملا في تفادي قصفها، أو لتأليب العالم على القوات النظامية، إذا تعرضت تلك المرافق للقصف. ومع الوضع في الاعتبار أن منظمات الإغاثة الدولية أدانت مرات عدة، كلا من القوات الحكومية والميليشيات بسبب العمليات التي تقوم بها، فإن الأيام الماضية، ومع تقدم القوات الحكومية للسيطرة على أحياء شرق حلب وتطهيرها من العناصر الإرهابية والميليشيات الأخرى، أصيب الكثيرون في المنطقة والعالم بالعوار فجأة، ثم النظر بعين واحدة أو في اتجاه واحد فقط وتناسي الجوانب الأخرى، وحتى في مجلس الأمن الدولي ومناقشاته، التي تحولت في معزوفة امتدت على كل المستويات الإقليمية والدولية، إلى الحديث عن المأساة الإنسانية في حلب وعن الوحشية والجحيم والكارثة، وغيرها من المسميات التي ظهرت فقط بعد تقدم القوات السورية، وكأن الميليشيات الإرهابية كانت حملا وديعا، ولم ترتكب جرائم حرب وتستخدم غازات كيماوية ولم تقصف أحياء حلب الغربية، ولم تستخدم أطفالا وبنات صغار كقنبلة يتم تفجير حزامها الناسف عن بعد بعد دخولها لمناطق أو مواقع تابعة للقوات السورية. المؤكد انه ليس دفاعا عن القوات السورية، ولكن الانقلاب المفاجئ والتباكي على الإنسانية في حلب، تناسى أن كل المتباكين، ودون استثناء، كانوا ضالعين، ولا يزالون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تغذية الحرب في حلب بوجه خاص وفي سوريا بوجه عام، ومنذ سنوات، ولم يهتز لهم رمش أمام خسائر المواجهات، أو دماء السوريين في حلب وإدلب وغيرها، أو أمام حالات التشرد واللجوء لشعب عاش كريما في وطنه، حتى تكالبت عليه قوى إقليمية ودولية تريد نهشه واستباحة ارضه وموارده ومصادرة حاضره ومستقبله أيضا. وبالتالي فإن التباكي لم يكن من اجل الشعب السوري والإنسانية، ولكنه كان من اجل وقف تقدم القوات السورية ومحاولة إنقاذ الميليشيات الإرهابية، التي استباحت الشام بأفكار تكفيرية وبقناعات مدفوعة الثمن أيضا لصالح هذا الطرف أو ذاك. وإذا كانت الحروب لها أثمانها الفادحة، في الحاضر والمستقبل، وهو ما دفعه ويدفعه الشعب السوري الشقيق، فإنه من المؤكد أن استعادة جلب تحت سيطرة القوات الحكومية هو تطور على جانب كبير من الأهمية، سوريا وإقليميا ودوليا أيضا، لأنه يحدد ملمحا حيويا لاتجاه التطورات في سوريا خلال الفترة القادمة، بما في ذلك إمكانية الحل السلمي للمأساة السورية.

* ثانيا: انه من المؤكد أن سوريا من اكثر الدول العربية أهمية وتأثيرا في محيطها العربي، وعلى الصعيد الإقليمي كذلك، ولاعتبارات عديدة ومعروفة كانت، ومنذ عدة عقود، محور صراع وتنافس عربي وإقليمي ودولي أيضا، فكل طرف يبحث فيها عن مصالحه الخاصة، والتي تسبق عادة ودوما بالطبع المصالح الوطنية السورية، وعندما تنكفئ العراق على ذاتها، بسبب ما تعرضت وتتعرض له منذ الاجتياح الأمريكي لها، وتنشغل مصر بأوضاعها بسبب التكالب عليها، فإنه من الطبيعي أن تشتد حدة التنافس حول سوريا وعليها، وذلك يفسر جانبا مما حدث ويحدث حتى الآن، إذ أن هناك عدة أطراف إقليمية تريد جذب سوريا نحوها، أو الفوز بموقع التأثير الأكبر فيها، أو على الأقل ضمان مصالحها الخاصة فيها، ولو بإنشاء مناطق آمنة بحجة أو أخرى، أو حماية مراقد أو مزارات خاصة، أو بتبني هذا الفصيل المعارض أو ذاك حتى ولو كان تكفيريا إرهابيا. وعلى المستوى الدولي وجدت روسيا الوضع مهيأ لتزيد وجودها المباشر في سوريا، وهو وجود يعود إلى أوائل سبعينات القرن الماضي، فالروس لم يدخلوا سوريا عام 2015 ولكنهم موجودون فيها منذ عام 1972 وبشكل مستمر بعدها، وما تغير هو درجة التواجد وحجم التورط العسكري الروسي في سوريا، ولذلك أسبابه المعروفة في إطار محاولة بوتين استعادة الدور الروسي في الشرق الأوسط وعلى المستوى الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. ونظرا لضغوط الميليشيات الإرهابية وغيرها تجاوب الحكم السوري مع مختلف الأطراف التي وجد عندها استعدادا لدعمه في مواجهة من يحاولون تغيير الهوية السورية، ولو بالقتل والتدمير. ومع إدراك حسابات مختلف الأطراف الإقليمية والدولية في سوريا، وتطلعات وربما أطماع بعضها في الشام، فإنه من المؤكد أن الحفاظ على سوريا الدولة الوطنية، والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، بما فيها الجيش العربي السوري، هو المدخل الطبيعي، بل والضروري أيضا من اجل احتواء محاولات التأثير الإقليمية والدولية في سوريا، أو الحد منها على الأقل. صحيح ستكون هناك تبعات بشكل أو بآخر، بعد سنوات الحرب، ولكن مصلحة كل الأطراف الإقليمية والدولية هي في الحفاظ على استقرار واستقلال وسيادة سوريا، لأن جذبها نحو هذا الطرف أو ذاك لن يكون سوى أداة أو وصفة لمزيد من التعثر والاضطراب في سوريا، ولذا فإنه من المهم والضروري أن تكون لدمشق كلمتها في تحديد حاضرها ومستقبلها، بعد التخلص من الإرهابيين عابري الحدود وعبر حوار ومفاوضات بين السوريين وبعضهم البعض دون ضغوط أو وصاية أو محاولة لاستثمار طرف أو آخر لتحقيق مصالح خاصة. ولعل المؤتمر المقرر عقده اليوم في موسكو بين وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا يكون خطوة في هذا الاتجاه، خاصة بعد أن تقرر تقديم موعد المؤتمر من الثلاثاء القادم إلى اليوم.

* ثالثا: انه مع الوضع في الاعتبار أن معركة حلب ليست نهاية الحرب المأساوية في سوريا، خاصة أن الرئيس السوري يسعى إلى استعادة السيطرة على اكبر مساحة ممكنة من سوريا وطرد تنظيم داعش والميليشيات الإرهابية والتكفيرية من بلاده، إلا أن ما تحقق في حلب يعطي دفعة كبيرة من الآمل لدى الجيش العربي السوري لمواصلة زحفة لتطهير سوريا واستعادة السيطرة على اكبر عدد من المدن والقرى.

وإذا كان من المتوقع أن تعمد بعض الأطراف الإقليمية إلى تسليح المعارضة السورية بشكل اكبر، في محاولة لتعديل ميزان القوى على الأرض، إلا أن ما حدث في حلب، وتركز الجماعات الإرهابية في محافظة إدلب، وتولي دونالد ترامب منصبه رئيسا للولايات المتحدة في العشرين من يناير القادم، وما أعلنه بوضوح من إمكانية التنسيق والتعاون مع بوتين لحل الأزمة في سوريا، كل ذلك يدفع بالقوى الداعمة للمعارضة السورية إلى إعادة حساباتها، وربما التريث انتظارا لوضوح طبيعة وأبعاد موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، التي قد توقف المساعدة لميليشيات المعارضة التي كانت تساعدها واشنطن بزعم أنها معارضة معتدلة في الأعوام الأخيرة. وإذا كان ذلك سيضع الميليشيات في سوريا في وضع اكثر صعوبة، فإن تحسن العلاقات الروسية - التركية، وازدياد درجة التنسيق بين موسكو وأنقرة حول سوريا، وبمشاركة طهران بالطبع، يمكن أن يدفع نحو إنعاش فرص المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة، وهو ما بدأت مؤشراته في الظهور عبر دعوة بوتين لمفاوضات يمكن أن تعقد في الاستانة عاصمة كازاخستان، وقد وافقت المعارضة السورية والحكم في سوريا على إجراء المفاوضات دون شروط مسبقة.

وإذا حدثت تلك المفاوضات بالفعل، فإنها قد تتمخض عن نتائج مفيدة، خاصة إذا نجحت موسكو في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في سوريا كلها وهو ما تعمل من اجله الآن. غير أن ذلك سيتوقف أيضا - على الأقل جزئيا - على مدى قدرة فرنسا على التدخل، سواء لإثبات قدرتها على التأثير في سوريا، أو للحفاظ على مصالحها التقليدية فيها، ولم تكن المحاولات المضنية لها في الأيام الأخيرة، داخل مجلس الأمن وخارجه، سوى مؤشر على ذلك، ومن المنتظر أن تقوم موسكو بدور ما لاجتذاب باريس إلى صف التسوية السلمية، خاصة بعد العشرين من يناير القادم، وهو ما سيتوقف على العلاقة بين بوتين وترامب ودرجة التفاهم بينهما حول حاضر سوريا ومستقبلها.

فهل ستكون سوريا الدولة الوطنية المتماسكة دولة عازلة بين تركيا وإيران؟ أم سوريا الجديدة ستعمل على تأمين مصالح تركيا وإيران بضمانة روسيا، أو على الأقل عدم الإضرار بها على أي نحو؟ المؤكد انه فرص الحل السياسي في سوريا تزداد بعد هزيمة الميليشيات في حلب، حتى ولو تجددت المعارك بشكل أو بآخر، ولكن سوريا ستحتاج لسنوات عديدة حتى تتمكن من استعادة نفسها مرة أخرى، وهي خسارة عربية بالتأكيد اليوم وغدا شارك العرب فيها بالتأكيد!!