أعمدة

هوامش ومتون .. تجلّيات «بيتهوفن»، وحيرة «شوبرت»!

10 ديسمبر 2016
10 ديسمبر 2016

عبدالرزّاق الربيعي -

[email protected] -

لم يكن من المفاجئ لي، عندما وصلت مقر «دار الأوبرا السلطانية مسقط،» مساء الخميس الماضي، لحضور حفل «السيمفونية التاسعة» لبيتهوفن، حين رأيت طابورا يقف عند بوابتها الخارجية لاستكمال إجراءات الدخول التي اعتدنا عليها، رغم الحجز المسبق، فالعرض كان لليلة واحدة، لن تتكرّر، لذلك كانت الحركة نشيطة في مواقف السيّارات، وساحة الدار الخارجيّة، وصولا إلى البوّابة، وقد قدم عدد من الأجانب المقيمين في دول مجاورة، إلى «مسقط»، كما اعتادوا في بعض الحفلات، ممنّين النفس بقضاء وقت للاستمتاع بالعرض الذي قدمته الأوكسترا الإيطالية راي ناشيونال سيمفوني، وكورال الإذاعة السويدية بقيادة المايسترو جيمس كونلون الموسيقار الذي قاد فرقا موسيقيّة عدّة في أكثر من 280 عرضا في دار أوبرا «متروبوليتان» في نيويورك منذ بداية مسيرته عام 1976م، كما تشير سيرته، ويرافق العازفين كورال الإذاعة السويديّة الذي قدّم عرضه الأوّل عام 1925م ليعدّ اليوم أهمّ كورال في العالم كونه يضمّ نخبة من أبرز الأصوات التي تشكّل فسيفساء صوتيّة، ومع العزفين، والكورال، جاءت السوبرانو آيا ميكولاي، وإيلينا مانيستينا، والتينور براندن يوفوفيتش، وبول جاي، وهم أصوات لها سجلّ حافل في العروض الأوبراليّة، كلّ هؤلاء اجتمعوا في «مسقط» ليقدّموا السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، تلك المعزوفة التي تسمى أيضا «السيمفونية الكورالية»، كون مؤلّفها أدخل فيها «الكورال»، فامتزجت بها موسيقى الآلات بالصوت البشري، وهذا أمر غير معتاد في السيمفونيّات، ولم يفعلها «بيتهوفن» (المولود عام 1770 م والمتوفى عام 1824، وهو العام نفسه الذي عزفت فيه سيمفونيّته)، في سيمفونياته السابقة، ربما يعود ذلك إلى أن بيتهوفن ألّف هذه السيمفونيّة بعد أن فقد سمعه تماما، فأحسّ أنّ للصوت البشري موسيقى ترتبط بالروح، فعزفت عبقريّته على أوتارها، لذا حملت سيمفونيّته تجلياته الصوفية، لتكون نشيدا للروح، باثّا من خلال ذلك رسائل أخلاقية، ضمن سعيه في أعماله الموسيقيّة الرامية إلى تعزيز قيم الجمال، والتآخي، والحب، وقوة الإرادة، والفضيلة التي شكّلت الثيمة الأساسية ليس في السيمفونيّة التاسعة، فحسب، بل في معظم الأعمال التي جادت بها عبقريّته، وقد أصغى الجمهور الذي امتلأت به القاعة الرئيسة على مدى ثمانين دقيقة، بدون استراحة، باهتمام، وكان يهيمن عليه صمت مهيب لا يكسره سوى التصفيق المتواصل، عقب نهاية كلّ حركة، ومقطع، وسوى ذلك تابع الجمهور، باستمتاع، السيمفونيّة التي تألفت من أربع حركات بدأت بمقدمة بطيئة، وانتهت بكورال نص «أنشودة الفرح» للشاعر الألماني الكبير شيللر الذي كتبه عام 1785، وكان نشيدا روحانيا، مفعما بالحب، والإيمان، وتضمّن دعوة إلى الحب، والسلام، لذا اختير ليكون النشيد الوطني الرسمي للاتحاد الأوروبي، وجاء في أحد مقاطعه:

أيّها الأخوة فوق قمة النجوم

هناك لا ريب مقام رب حبيب رؤوم

مثل الشموس التي تطير

عبر فلك السموات البديع

سيروا أيها الإخوة بالفرحة في طريقكم

بفرحة البطل يسير إلى الانتصار

ليأتي الفقر والحزن

وليفرحا مع الفرحين

ولننس الغيظ والثأر

ولنغفر لألدّ أعدائنا

ولنرفع عنه ضغط الدموع

ولنبعد عنه حر الندم»

ويخاطب الناس في كلّ مكان، باعثا رسائل الحبّ للجميع، هاتفا:

«أيّها الملايين أعانقكم

هذه القبلة للعالم أجمع»

لقد صدحت الحناجر بهذه الكلمات العميقة، وترجمت الآلات الموسيقية هذه المعاني، بفيض من الجمال، والهمس الروحي، في السيمفونية التي تربّعت على عرش مؤلّفات «بيتهوفن» بلا منازع، كما يقول الدكتور ناصر الطائي، مستشار مجلس إدارة الدار، كونها تمزج بين المادّة، والروح، المقدّس، والدنيوي، فهي برأيه «لا تستحضر خلاصة إبداعاته على مدى مشواره الفني الطويل، وتلخص حكاية كفاحه، ومعاناته، وانتصاره الملحمي فحسب، بل إنها توثّق أيضا تصالحه مع خالقه، وتترجم جلّ معتقداته الفلسفية»، ورغم إنّ بيتهوفن قدّمها عام 1824، ليختتم بها حياته الفنية، لكنّها وضعت الموسيقيين الذين جاءوا بعده في حيرة من أمرهم، حتّى أنّ «شوبرت» تساءل «ما الذي يمكننا أن نفعله بعد السيمفونية التاسعة؟»