856908
856908
شرفات

«ما لم يذكره الرسام» لـعزة حسين.. ظِلُّ جنازةٍ على الحائط

05 ديسمبر 2016
05 ديسمبر 2016

(1)

هل تقاوم القصيدة الموت أم تؤكده؟ وأي وجود لذات، أو لمجمل ذوات، تُستحضر على عتبة النص الشعري الذي يُجرِّدها إلى إحالاتها في وعي ذات واحدة هي الذات الشاعرة، التي تفعل ذلك عبر قصيدة النثر بالذات، حيث ليس ثمة من تماسك جاهز تتشبث القصيدة بأهدابه؟ أسئلة عديدة تبذرها المجموعة الشعرية الأحدث لـ«عزة حسين»، «ما لم يذكره الرسام»، (الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة) والتي تنفتح، دون مواربة، على سؤال الموت.

إنه سؤال عزة حسين المُلح والذي احتل فضاء مجموعتها السابقة «على كرسي هزاز» (مطبوعات ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة، 2010) غير أنه هذه المرة يُقلَّب على وجهه الآخر، فموت الأب الذي حلّق في فضاء التجربة السابقة يتسع هذه المرة لموت الذات نفسها. الذات الشاعرة هذه المرة تصير هي موضوع الفرجة بعد أن كانت أداتها، وبدلاً من تلصصها على الأب، تصبح هي موضوع تلصصه. لكن كيف يمكن أن تتحقق لعبة كهذه؟ كيف يمكن للحي أن يصبح موضوعاً للميت؟

تتحول واقعة الغياب من حدث ماضوي تجري مقاربته شعرياً لدورةٍ «يومية»، حيث تشد قصيدة النثر الحكاية الكبرى (الموت) لمنطقها فتصبح جزءاً من «اليومي» و«المعيش»: «الآن/‏‏ لم يعد يفاجئُني/‏‏ سوى قدرتي الدائمة/‏‏ على الموت/‏‏ كل صباح/‏‏ وآخر كل ليلة». الموت باعتباره، هو نفسه، المعيش، أليست مفارقة؟ والذات التي تبدأ يومها وتنهيه بالموت، لتحيا بين موتين، ألا تدحض قانون الزمن نفسه بهذه الطريقة؟ ثم، أليس دحض الزمن هو، بالضبط، العصب العميق لفكرة الخلود؟

نحن إذن أمام ذات شاعرة تمارس موتها وحياتها بالقوة نفسها، وبإرادة استثنائية يجسدها دال «القدرة»، وهو الدال نفسه المرتبط بالأب، وهكذا يتواجدان أخيراً معاً في تلك المساحة المشتركة، المموهة، بين الحياة والموت.

كيف إذن تمضي لعبة تخليق النص الشعري؟ الوجود في هذه المجموعة يبدو أقرب لانعكاس ظلال على حائط غرفة. أجسادٌ توارت وتبقت منها ظلالها، كبديلٍ شعري عن الصورة التي تعلق على جدار. الظلال هنا تُستدعى كبدائل للرفات، والموت يُستبدل بالغياب، لم يعد نقطة نهائية في آخر السطر مثلما حدث في المجموعة السابقة للشاعرة والتي كانت تأكيداً على الموت بالتصالح مع التشيؤ. لم تعد الذات هذه المرة «دمية العشرين» ولا «أرملة الأب» بل «قط أغلق على ذيله الباب وأوهم بالخروج» وهي العبارة الافتتاحية التي يُصدر بها الديوان. الظل لا يساوي الرفات، الظل استعارة الجسد الكبرى، أما الرفات فهو موت الظل نفسه.

(2)

كانت الذات الشاعرة في «على كرسي هزاز» تتوتر بين الحركة والسكون، لكنها توسِّع هذه المرة من توترها ليصبح بين الخارج/‏‏ الداخل. دائماً ثمة الـ»هنا» والـ»هناك»، كعلامتين مكانيتين تحددان موقع الذات. هنا وهناك هما أيضاً الحضور والغياب، الابتعاد والاقتراب، وهما تجسيد الشفرتين الثقافيتين المعقدتين اللتين تقف الذات الشاعرة عالقةً بينهما حتى على مستوى الماضي/‏‏ قبل المديني واللحظة المدينية بمجمل تعقيداتها: «سيمر أكثرهم وسامة/‏‏ على سوق المدينة، الذي يمكن استبداله هنا بـطلعت حرب مول» يتحسس الزجاج المحايد/‏‏ مكان العيون/‏‏ وينادي ريقه فلا يجده». بالتقاطع مع «هنا» و»هناك» هناك «الأنا» و»الأنتم»، الأنا هي الهُنا والأنتم هم الهناك: بينهما تقع مواجهة حاسمة، وقد اختفت الذات التي كانت تجسر الهوة بينهما، أقصد «الأب»: «في البداية/‏‏ كانت الكراهيةُ موتاً/‏‏ يسرق الأب/‏‏ ليلصقه في بروازٍ داكن/‏‏ ثم صارت عيونهم المسنونة/‏‏ وأنا لم أكن أعرف/‏‏ أن لشجرة السنط/‏‏ معنىً/‏‏ سوى أنك لم تعد بجوارها/‏‏ لولا فحيهم الذي/‏‏ شوَّش بصماتك على شقوقها». هذا الثالوث «الذات الشاعرة_ الأب_ الآخرون»، يتم تجريبه على أكثر من مستوى، وأحياناً ما يتم إخراج الأب لتقع المواجهة مباشرة مع أولئك الآخرين بضمير المخاطب في ثنائيةٍ حادة: «سأقضي ليلةً كاملةً/‏‏ في محاولة إقناعكم/‏‏ بأنه كان لديّ/‏‏ شيءٌ خافت». في الحقيقة، يرسم هذا المثلث طبيعة علاقة الذات الشاعرة بالعالم، فالأب كذات شعرية هو فرد لكنه أيضاً يمثل جزءاً من الوعي الجمعي، بالتالي هو ينتمي للذات الشاعرة بقدر ما ينتمي للجماعة التي تنهض الأخيرة لتقاومها. إقناع الآخرين بذلك الشيء الخافت «الشعر» لا ينفصم عن الإهداء «المتشكك» للأب «علّه يعفو عن القصائد».

أحياناً ما يُستعاض عن الأب بثالث آخر، تستحضره الذات أحياناً باسم محدد، فهو «محمد» في قصيدة «قلادة»، وهو «أشرف» في قصيدة بنفس العنوان، وهو في قصائد أخرى عديدة هو «الولد» الذي تقابله الذات الشاعرة بتعريف أوّلي «البنت». الثالث في جميع الحالات هو الغائب، الذي لم يعد له من وجود: «الآن/‏‏ والأوز ينفض/‏‏ لون الترع/‏‏ على بصمات المارة/‏‏ يمكن للعائدين في الغروب/‏‏ أن يروا «أشرف»/‏‏ صار نقاشاً أشطر من أبيه/‏‏ وصار الهدهد صبيه/‏‏ وقيل إنه أنجب من امرأةٍ _لا يحبها_/‏‏ يمامة». هنا، ذات شعرية تتصل بالموجود الطبيعي متخلصةً من بشريتها، كمرادف للغياب يعيد الذات لعالمها الغفل. في جميع الأحوال تتعرض بدائل «الغائب» للمصير نفسه، فلا بقاء لرجل في هذا العالم الأمومي رغم أنفه. الذاكرة هنا تحتل البطولة المطلقة، فنحن أمام نص تذكر، أغلب تفاصيله تعيد الذاكرة إحيائها، أم تؤكد على موتها لتقتلها مرتين؟

حتى انتقاء الدوال، يذهب في كثير من الأحيان لصيغها الأقرب للحس العامي، مؤكداً على عفوية التداعي، مثل «جنب النافذة»، «أشطر من أبيه»، «لو نصبح افتراضيين بصحيح»، والنماذج الدالة على هذا الاشتغال اللغوي عديدة في المجموعة. يقاوم هذا النص الشعري إغواء الغنائية، وهي إمكانية متاحة لذات مطعونة بالعالم، بالاقتصاد الذي يجعلنا أمام قصائد قصيرة، تحفل بقطعات حادة، وتُبتر بسرعة لحظة الاقتراب من فخ الإطناب.

(3)

تمثلات المخيلة الإنسانية في نصها الكبير حاضرة بقوة في هذا النص. ينهض «ما لم يذكره الرسام» على حضور فادح لاستدعاءات نصوص أخرى، تعيد الذاكرة الشعرية تكوينها في سياق النص الشخصي للذات الشاعرة. النص يعج بشفرات ثقافية مثل: نورا بطلة إبسن في «بيت الدمية»، مسخ كافكا، جحيم سارتر، طواحين سانشو، أوديب، هيرا، وغيرها من استدعاءات دالة تجعل من هذه الشفرات الثقافية المفارقة زمنياً وثقافياً موجودات حية وفاعلة داخل نص «عزة حسين».

من القصيدة الأولى، تتشكل ملامح هذا الخليط الكرنفالي لنص الثقافة. نحن أمام «ذاكرة المخيلة» بالقدر نفسه الذي نقارب فيه «ذاكرة الواقع». الذاكرة تستدعي «نصوصها» محاولةً جعلها جزءاً من خبرتها الحسية وإدراكها للعالم. تفعل ذلك كمعيش، وكأنها، ببساطة، تستعيد حياتها: «الرأسُ بل آخر/‏‏ يملؤها ويفرغها/‏‏ شرطٌ وحيدٌ لتكون إلهاً، قالت «هيرا» بعينٍ رائقةٍ كالموت، فاهتدى «سارتر» إلى جنته، وانبنت عروشٌ افتراضية./‏‏...../‏‏ أيهما أكثر وخزاً يا «سانشو»؟/‏‏ الحقيقة أم زبد السخرية؟/‏‏ أنا أعرف أن الطواحين أطيبُ من القتل/‏‏ وأنك أطوعُ من المصارحة/‏‏ لكنه الدوار.../‏‏ الدوار يا سانشو،/‏‏ والرأس للأ»إبليس»/‏‏ يتستر على أنين القنبلة». هذه الطريقة «التكوينية» حاضرة بوضوح في المجموعة، حد أننا نصبح أمام نص «توليف» لا يجتزئ من النصوص تضمينات كما جرت العادة في ألعاب التناص البدائية، بل يشتبك مباشرةً مع عمقها الدلالي ملخصاً كلاً منها في الدلالة الأساس في معجمه. تتقمص الذات، في أعلى درجات تقنعها، أقنعة الذوات الشبيهة، لتأتي بأفعالها التي صارت رمزيتها أكثر جلواً من أن تُؤوّل: « سآخذ جسدي نظيفاً من وخزك/‏‏ وأصفع الباب/‏‏ بنشوة نورا بطلة هنريك إبسن/‏‏ في وجهي». لكن الفعل هنا، يوجه تجاه الذات نفسها، وليس تجاه الآخر. هل تحولت الذات في النهاية، بدورها، لآخر، لـ»هناك»؟؟ إن هذا يعني أنها قطعت المسافة الكافية لتغترب عن نفسها، ولتطالع صورتها، كما تفعل مع صور الآخرين، ظلاً على حائط. وفقط، بهذه الطريقة، يمكن للذات الشاعرة أن تتحد بأشباحها «هناك»، طالما فشلت في استحضارهم كي يشاركوها وجودها «هنا».