إشراقات

العوفي: أهل الإيمان الذين بلغوا درجات عالية من اليقين دفعهم إيمانهم إلى عدم الأمن من عقوبة الله

01 ديسمبر 2016
01 ديسمبر 2016

هدايات الرحمن .. وقفات مع آيات القرآن -

لأنه يجر النفس إلى التهاون في أداء اللوازم والجرأة على المحارم -

متابعة: سيف بن سالم الفضيلي -

أوضح الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في دروس «هدايات الرحمن .. وقفات مع آيات القرآن» أن (الضَّالِّينَ) في الآية (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، هم الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم، و(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم، ودعوا غيرهم إلى الانحراف، وجادلوا أهل الحق بالباطل جاحدين الحق، فهم منحَرِفونَ يدعونَ إلى انحرافِهِمْ، وفي القرآنِ إشاراتٌ إلى هذا المعنى؛ فاللهُ يقولُ في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذينَ انحرفُوا عنِ الصِّرَاطِ المستقِيمِ، وَدَعَوا غَيْرَهُمْ إلى الانحِرافِ: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) النحل: ١٠٦، وقالَ في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذينَ انحرفُوا عنِ الصِّرَاطِ المستقِيمِ، ولمْ يكتَفُوا بذلكَ، بلْ جَحَدُوا الحقَّ: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فقدِ استوجَبَتِ الغضبَ لانحرافِهَا وجَحْدِهَا الحقَّ.

وَنَجِدُ في القرآنِ إرْدَافَ (الضَّالِّينَ) بصفةٍ أخرى إذا تجاوزوا حدَّ الضَّلالِ إلى الجحودِ، وهناكَ دِلالةٌ على هذَا المعنَى في قَولِهِ تعَالَى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الواقعة: ٥١، وفي قولِهِ:( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ) الواقعة: ٩٢؛ فعندَما ذكرَ اللهُ (الضالين) الذينَ تجاوَزُوا حدَّ الانحرافِ بالضلالِ إلى الدَّعْوَةِ إلى الضَّلالِ بيَّنَ أنَّهم أضَّلُّوا غيرَهم، فقالَ: وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة: ٧٧.

الغرض من التقديم

و(المغضوبُ عليهم) و(الضالونُ) واقعونَ في المعصيةِ، ولكنَّ المغضوبَ عليهِمْ أعظُمُ جُرُمًا وأكبَرُ معصيةً منَ الضَّالِّينَ الذينَ انحرفُوا، وبَقِيَ انحرافُهُم مقصورًا على أنْفُسِهِمْ؛ ولذلكَ قَدَّمَ (المغضوبَ عليهِمْ) على (الضَّالِّينَ) في الآيةِ الكريمةِ؛ لأنَّ الخوفَ منَ المصيرِ إلى حالِهِمْ أَشَدُّ منَ الخوفِ إلى المصِيرِ إلى حالِ الضَّالِّينَ، وفي كُلٍّ شَرٌّ، ولكنَّ بعضَ الشَّرِّ أَشَدُّ منْ بَعْضٍ.

لِمَ دَعَوا أنْ يكُونُوا من ..

وقد يقول قائل: من المعلوم أن الذين وقعت لهم الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهِمْ لا يمكنُ أنْ يكونُوا مِنَ المغْضُوبِ عليهِمْ ولا مِنَ الضَّالِّينَ، فمَا الغَرَضُ مِنْ رجائِهِمْ في دُعائِهِمْ أنْ يكونوا من (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

والجوابُ على ذلكَ: أنَّ أهلَ الإيمانِ الذينَ بلغُوا درجاتٍ عاليةً مِنَ اليَقِينِ دفعَهُمْ إيمانُهُمْ إلى عَدَمِ الأمْنِ منْ عقُوبَةِ اللهِ؛ لأنَّ الأمْنَ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ يَجُرُّ النَّفْسَ إلى التَّهاوُنِ في أداءِ اللوازمِ والجُرأَةِ على المحارمِ؛ فيصيرُ فاعلُ ذلكَ إلى الخُسرانِ (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) لأعراف: ٩٩، وقدْ أخبَرَ اللهُ عنْ نبِيِّهِ زكريَا وأَهْلِهِ أنهمْ كانُوا يدعُونَهُ رغَبًا ورَهَبًا (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا )الأنبياء: ٩٠، وقالَ عنْ الذينَ عمِلُوا الواجِبَاتِ، واجتنبُوا المحرَّمَاتِ وقَضَوا أوقاتًا من ليْلِهِمْ بين قيامٍ وسجودٍ: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) الزمر: ٩، فقدْ قَدَّمُوا الحَذَرَ مِنَ الآخرَةِ على رجاءِ رحمةِ اللهِ، وقالَ فِيْمَنْ ابْتَعَدَتْ أجسَادَهُم عنْ مَضَاجِعَهُمْ، وتركُوا النَّومَ رغبةً فيما عندَ اللهِ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) السجدة: ١٦، فقدْ قدَّمُوا الخَوفَ على الطَّمَعِ، فقدْ أدْرَكَ أهلُ الهِدَايةِ أنَّ مسيرَهُمْ في طريقِ الهِدَايةِ لا يجعلُهُمْ آمنِيْنَ مِنْ تَغَيُّرِ حالِهِمْ وانتقالِهِم إلى حالةِ المستَوجبِينَ للعذابِ، والعياذُ باللهِ، وقدْ كانَ النبيُّ الكريمُ يدعُو رَبَّهُ: «اللهمَّ يا مُقِلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبِي على دينِكْ، ويا مُصَرِّفَ القلوبِ صرِّفْ قلبِي على طاعَتِكْ».

مناسبة تأكيد النافي

وقدْ أُكِّدَ النَّافِي وهوَ (غَيْرُ) بـ(لا) فقيلَ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) معَ أنَّ (الضَّالِّينَ) داخلةٌ في النَّفْيِ بـ(غيرِ)، فلوْ قِيلَ: (غيرِ المغْضُوبِ والضَّالِّينَ) لكانَ النَّفْيُ حاصلًا لكلمةِ (الضَّالِّينَ)، ولكنْ أُتِيَ بـ(لا) المؤكِّدَةِ للنَّافي (غيرِ) للدِّلالةِ على أَنَّ الضَّالينَ ليسُوا في هدايةٍ إلى الصِّراطِ المستقيمَ ولوْ كانُوا لا يدعونَ إلى ضلالتِهِمْ، أوْ لا يُعْلِنُونَ جُحودَ الحقِّ، فالمتَلَبِّسُ بصفةِ (الضَّالِّينَ) وحدَها ليسَ في هدايةٍ، والعياذُ باللهِ.