No Image
ثقافة

مرفأ قراءة... رجاء النقّاش الناقد الجماهيري!

13 نوفمبر 2021
13 نوفمبر 2021

- 1 -

كنت وأنا في المرحلة الإعدادية والثانوية من المغرمين بمتابعة مقالات الناقد الجماهيري الراحل الكبير رجاء النقّاش (1934-2008) في جريدة (الأهرام) اليومية، ومجلة (المصور) الأسبوعية.

ورجاء النقّاش حالة خاصة واستثنائية في نقدنا العربي المعاصر؛ فقد كان أحد نجوم النقد والصحافة المصرية والعربية في القرن العشرين؛ كان نجمًا بكل ما تعنيه الكلمة، نشطًا غزير الإنتاج متابعًا دؤوبًا لكل قضايا وهموم الإبداع والفكر والثقافة في مصر وعالمنا العربي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، تفرد وتميز بفتوحاتٍ نقدية واكتشافات إبداعية، ومراجعات ثرية وقراءات رائقة، لم يطاوله فيها أحد ولا ينازعه فيها أحد!

يعتبر كثيرٌ من مؤرخي النقد والحركة الأدبية والنقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، رجاء النقّاش من الرموز التي أسهمت في إرساء حركة النقد العربي الحديث في تياره الاجتماعي العريض المؤثر، من خلال تناوله للأعمال الإبداعية العربية بالدراسة والتحليل عبر كتاباته في الصحف والمجلات المصرية والعربية، وعبر عديد من الكتب النقدية التي أسست لأجيالٍ من الكتاب، فضلًا عن تجربته الصحفية الثقافية العريضة؛ حيث ترأس تحرير عددٍ من المجلات المصرية (المصور، الهلال) كما ترأس تحرير مجلة (الدوحة) في إصدارها الأول، ونجح في أن يجعل منها منبرًا ثقافيًّا مؤثرًا وفعالًا، وصارت تحت إدارته منافسًا قويًّا لأشهر المجلات الثقافية العربية في ذلك الوقت. وبسبب جرأتها وحريتها انتهى الأمر بإغلاقها على يد المحكمة الشرعية، إثر نشرها مقالًا كتبه حسين أحمد أمين، حسبما يروي الكاتب الراحل سعد هجرس في ذكرياته عنه.

- 2 -

كان رجاء النقّاش الذي تخرج سنة 1956 على وجه التحديد، في ذات الكلية (الآداب) والقسم (اللغة العربية وآدابها) والجامعة (القاهرة) التي تشرفت مثله بالانتساب إليها والتخرج فيها، كان "جواهرجيًّا" بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو الذي اكتشف الطيب صالح ونشر رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» للمرة الأولى في سلسلة روايات (الهلال) الشهيرة، وكتب لها مقدمة نقدية رائعة.

وهو الذي أخرج كتابًا كاملًا عن صوت شعر المقاومة الفلسطينية؛ «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، وهو الذي كتب دراسة تأسيسية بالغة الأهمية عن أحمد عبد المعطي حجازي وديوانه الأول «مدينة بلا قلب» الذي صدر عام 1959 وكانت دراسته هذه خير مقدمة لشعر أحمد عبد المعطي حجازي، وخير مدخل إلى الشعر الحر عمومًا، كما كتب عن شاعره المفضل والأثير صلاح عبد الصبور، وكتب عن الشعر والمسرح في الخمسينيات والستينيات، وظل متابعا دؤوبا لكل مظاهر الإبداع الثقافي في مصر والعالم العربي طوال ما يقرب من نصف القرن.

وكان صديقا شخصيا ومقربا لكبار المبدعين في مصر والعالم العربي وعلى رأسهم نجيب محفوظ الذي ائتمنه على سيرته الذاتية وسجل له خمسين ساعة متصلة كان حصادها كتابه الأشهر «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» الذي صدر في طبعات عدة.

وأصدر عنه أيضا كتابه الآخر «في حب نجيب محفوظ»، وكتابه السجالي «أولاد حارتنا بين العلم والدين»، وغيرها من الكتب المهمة التي حظيت بانتشار واسع وقبول كبير حتى وقتنا هذا.

- 3 -

وكل من تعرض لدراسة تيارات واتجاهات النقد في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين لا يمكن أن يغفل أو يتغافل عن نقد رجاء النقّاش، وجماهيريته، ومقروءيته العالية التي ربما لم تتسن لناقدٍ آخر غيره؛ وذلك ربما لجمعه بين الصحافة والنقد معًا ما أتاح له مساحة انتشار كبيرة عبر الصحف والمجلات التي كان من أبرز نجومها وكتابها. ونقد رجاء النقاش كما يرصده غير ناقد ومؤرخ للنقد يتميز بحزمة من المميزات والخصائص التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

أولا: وكما يرصد جابر عصفور محقا، أنه نقد متطور، يفيد من التطورات الأخيرة لنظرية التعبير الرومانسية (في تجلياتها الاجتماعية) في نقده المبكر الاستهلالي، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التي يتأثر فيها وجدانه بالعمل المقروء، فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه، وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولًا بجمع القرائن الدالة التي يجدها في العمل، ويصل بينها لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى إلى القارئ في هيئة تفسير للنص، وهي عملية تفضي إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه، وهو في ذلك كله لم يكن يتطلع إلى إجراءاتٍ معقدة مثل "البنيوية" التي نفر منها، وما جاء بعدها، مثل "التفكيك"، وغيره من تيارات النقد الحداثي وما بعده.

وثانيًا: انطلاقه التأسيسي في ممارسته النقدية من خبرة القراءة المباشرة للنصوص وطول الإنصات لها والتعمق فيها، ومن ثم فقد كان يؤمن؛ مثله مثل أستاذه وأستاذ أساتذته الدكتور طه حسين، بأن "الناقد هو مستشار القارئ المخلص الأمين"، وقد انعكس ذلك في الحرارة الصادقة والحماسة الملتهبة التي كان يكتب بها رجاء النقّاش نقده خصوصًا في التجارب الأولى لأصحابها أو النصوص الأولى التي كان يشتم منها موهبة أصيلة وإعلانًا عن ميلاد كاتب أو مبدع أو شاعر كبير. وكان أيضًا يرى أن الكتابة النقدية لا تكون إلا عن النصوص التي نحبها ونتحمس لها ونتفاعل معها، وأنه لا ضرورة أبدًا للتصدي إلى معالجة النصوص الرديئة، فيكفي الإشارة إلى نقيضها للدلالة على القيمة الجمالية العليا.

وثالثًا: وارتباطًا بالإشارة السابقة إلى التحمس الشديد للنصوص الأولى التي كان يتنبأ فيها بموهبة حارقة وكتابة أصيلة، فقد كان رجاء النقاش قولًا وفعلًا، أحد صائدي المواهب القلائل، ومكتشفي نجوم الكتابة المبرزين، والمبشرين بالأصوات الإبداعية المتميزة، في الرواية والقصة والمسرح والشعر، وكل أشكال الكتابة الإبداعية.

وارتبط اسم رجاء النقّاش ناقدًا وكشافًا مستبصرًا للمواهب المبدعة التي ستصير في الصف الأول من نجوم الكتابة العربية طوال نصف القرن التالية، وحتى وقتنا هذا، بأسماء أحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، والطيب صالح، ومعظم كتاب الستينيات في القصة القصيرة والرواية والمسرح.

ورابعًا وأخيرًا: أنه كان نموذجًا ناصعًا على ثقافة الناقد وتكوينه الموسوعي وقدرته على الجمع بين نقد الأنواع الأدبية المختلفة، وإدراك جمالياتها وخصائصها النوعية، وغزارة الاطلاع على النتاج الإبداعي معظمه في القصة القصيرة والرواية والمسرح، وكانت لديه الشجاعة لكي يخوض المعارك والمساجلات النقدية حول قضايا الأدب والقومية العربية، والتيارات المبشرة بالحداثة الأدبية في تجلياتها الأكثر تطرفا وغموضا وإبهاما، ولذلك ظل نافرًا مما رأى فيه تعقيدًا مسرفًا في الرمزية لا السريالية، مؤثرًا الوضوح الأبولوني على الغموض أو الجنون الديونيسي، كما يقول جابر عصفور، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش في مواجهة "أدونيس" وغيره من شعراء الحداثة ذات الجذور الفرنسية التي كانت، ولا تزال، مختلفة كل الاختلاف عن الحداثة التي ترجع إلى جذور أنكلوسكسونية.

- 4 -

ورغم ما حققه نقد رجاء النقّاش من انتشار وجماهيرية واسعة وقبولًا غير مسبوق في الأوساط الأدبية، فإن بعض سهام النقد قد طالته باعتباراتٍ ارتأت أنها تمثل مآخذ؛ منها على سبيل المثال عدم اتصاله القوي بروافد الثقافة الغربية الحديثة، وأنه لم يكن يجيد لغة أجنبية تمكنه من إدراك هذه الثقافة في أبعادها المتعددة.

والحقيقة أن هذا المأخذ من وجهة نظري مردود عليه، وغير ملزم له على الإطلاق، فإذا كان قادرًا بالثقافة التي حصلها بلغته الأم ومتابعته للنتاج الغربي في الترجمات المتاحة وقدرته على إنتاج خطاب نقدي متماسك نال اعترافا وحقق مقروئية وانتشارا غير مسبوق للنقد، فإنه بذلك قد حقق ما عجز عنه أباطرة النقد ممن يجيدون لغة واثنتين دون أن ينجحوا في تحقيق هذا التواصل الحميم مع الجمهور ولا هذه القدرة على الانتشار ولا التحريض على قراءة الأعمال الأدبية والنصوص الإبداعية التي كان يكتب عنها بحب جارف وحماسة طاغية..