No Image
ثقافة

بورخيس: النّفري قطبُ أقطابِ شعريّة التصوُّف

06 نوفمبر 2021
06 نوفمبر 2021

هذه هي الحلقة العاشرة، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميّ كنتُ أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في باريس في العام 1978 وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصلٍ أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوباً بحماسة مع جدل الأسئلة والأجوبة والمُناقشات المتولّدة، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه "الشاب العربيّ الأكثر قراءة واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحورة فيها"، حسبما أخبرتني بذلك في ما بعد الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر، على الأرجح، هو الذي فتحَ لي باب الصداقة الواثقة معه، والالتقاء به مراراً في ما بعد، تخلَّلتها لقاءات حواريّة إضافيّة معه إنْ في باريس أو في جنيف، المدينة الأحبّ إلى قلبه، والتي مات ودُفن في "مقبرة الملوك" فيها عام 1986.

دار هذا الجانب من لقائي مع بورخيس حول قطبِ أقطاب التصوّف والشعريّة المعبّرة عنه: محمّد بن عبد الجبّار بن الحسن النّفري المولود في بلدة "نفر" في نواحي بابل في العراق، وتاريخ ميلاده مجهول، لكنّه ينتمي زمناً إلى القرن العاشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد عزّ الحقبة الذهبيّة للدولة العبّاسيّة على المستويات العلميّة والعمرانيّة والحضاريّة؛ وجعل النّفري من مصر مَسرح حياته المركزيّة، إلى جانب بلده العراق، ودُفن في أرض الكنانة سنة 965م.

يُعدّ النّفري أحد أكبر أقطاب شيوخ المتصوّفة العرب الذين حفروا لأنفسهم خطّاً غير مسبوق في الفضاء الصوفي الإسلامي، طبعاً بشهادة كِتابه الأثير:"المَواقف والمُخاطبات". وتأكيداً على أهميّته الرفيعة في عِلم المقامات والكشف، كان محي الدّين بن عربي قد أشار إلى اسمه مراراً في "الفتوحات المكيّة" و"رسالة إلى الأعيان"، بخاصّة لجهة اعتباره مُبتكِر "الطريقة الواقفيّة"، نسبةً إلى "مَقام الوقفة" الذي اجترحه النّفري، وتميَّز به عن أقرانه من أهل التصوُّف والعرفان.

وإلى جانب كونه متصوِّفاً استثنائيّاً ورياديّاً في الحكمة المُتعالية، كان النّفري مفكّراً عميقاً، وشاعراً أيضاً، رَسَمَ اتّجاهاتٍ إبداعيّة مُغايرة في الشعريّة العربيّة والتعبير عنها، لدرجة أنّ أحدَ أكبر روّاد الحداثة الشعريّة العربيّة في زمننا: أدونيس اعتبره المرجعيّة الإبداعيّة الأولى لقصيدة النثر العربيّة، وشاطَرَهُ في هذا الرأي الشاعر الكبير أنسي الحاج. كما اعتبره بورخيس نفسه قطبَ أقطابِ شعريّة التصوُّف.

.. وقلتُ لبورخيس: أكثر من مرّة ذكرتَ أمامي أنّكَ من أشدّ المُعجبين بالنّفري ونصوصه الصوفيّة الاستثنائيّة. ما الذي دفعكَ إلى تكوين مثل هذا الاعتقاد أو بلْورة مثل هذا التقييم؟

أجاب بورخيس: مَن يَجترح عبارة على غرار: "أوقفني في ما يبدو، فرأيته لا يبدو فيخفي، ولا يخفي فيبدو، ولا معنى فيكون معنى".. ماذا تسمّيه؟!! وماذا تقول عنه أيّها الصديق العربي الشاب؟!!. وقبل أن أجيبه، تابَع مُستطرِداً.. وأستطيع أن أفرد لك الكثير من العبارات أو الشذرات في "المواقف والمُخاطبات" التي تجعلك، على الفور، في عداد مَن يُصنّفون النّفري على عرش التصوُّف، ليس الإسلامي فقط وإنّما المسيحي واليهودي أيضاً. والتصنيف هنا ينطلق من التجلّيات الروحيّة الذاتيّة، ودمْج الفكر بالرؤيا والخيال بالرمز والإيحاء بإيحاءٍ جديد، ولا علاقة له بالمُفاضَلة بين الديانات السماويّة، أو بالمُقارنات القيميّة الروحيّة في ما بينها.

وأَردف مُحدّثي: وكان النّفري غالباً ما يتوارى عن قوله المُعجز بعد إطلاقه كي يتجنّب الاستعراض الإبداعي فيه، ولذلك قيل إنّه لم يُسجّل ما كان ينطق به، ويترك للآخرين هذه المهمّة الجليلة، حتّى ولو أخفقوا فيها. المهمّ أنّه كان يقف وقفته الكلاميّة وينصرف، ولا بدّ للاستجابات بعدها من أن تتبعه، إمّا في اللّحظات الأولى أو بعد زمنٍ وسطيّ أو طويل، وليس شرطاً أن يسأل النّفري عن مصير"مَواقفه" و"مُخاطباته"؛ وهذا هو، على أيّ حال، دأبُ الصوفيّين الكِبار من أصحاب مَلاحِم القول بأقلّ الكلام: "كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة".

يبدو لي، سيّد بورخيس، أنّك مُترع بالثقافة العربيّة/ الإسلاميّة، ولاسيّما لناحية متونها التراثيّة الروحيّة الأرفع والأعمق.. كيف تأتّى لكَ ذلك؟ ثمّ ماذا عن خلاصات حضوركَ في ثقافات الآخرين التليدة، وإلى أين ستصل خلال تموضعك فيها؟ وأيُّ تكامُلٍ فكريّ أو ثقافيّ تنشده عبرها؟

أَطرق بورخيس بعض الشيء، ثمّ غيَّر من وضعيّة جلسته، وأَحكم إمساكَ عصاه بقبضتَيْه من أعلى، وأَخذ نَفَسَاً عميقاً، ثمّ قال بصوتٍ شبه مُرتفع: أشعر أنّي جزءٌ لا يتجزّأ من الثقافة العربيّة - الإسلاميّة، فأنا، لا تنسى، ابن الأرجنتين التي هي حضاريّاً نِتاج الثقافة العربيّة الأندلسيّة الزاهرة في الكثير من تجلّياتها، وكذلك الأرجنتين هي نِتاج ثقافة أولئك الإيطاليّين المُتحدّرين من أصولٍ عربيّة - إسلاميّة، بخاصّة الصقلّيّين منهم. ثمّ إنّ أيّ ثقافة قويّة كالثقافة العربيّة - الإسلاميّة، على الرّغم من سقوط هياكلها الدولتيّة والسياسيّة منذ قرون، تظلّ هي ثقافة مِلك نفسها ومِلك البشريّة جمعاء.

وأنا أيضاً أنتمي إلى تاريخ هذا الفكر الأوروبي الأنواري المُنطلق أساساً من الفكر العربي العقلاني عبر المتون الفلسفيّة الرشديّة الشارِحة للأنساق الأرسطيّة والأفلاطونيّة، والتي كان لها أثرها التحرّري العظيم في أواخر العصور الوسطى الأوروبيّة وبدايات عصر النهضة الذي جاء بفلاسفة عقلانيّين كِبار.

نعم.. نعم.. واستطراداً أقول، إنّ تلكم الشروحات الفلسفيّة اليونانيّة التي أَبدع في هضْمها وتطعيمها وتقديمها ابن رشد الأندلسي للأجداد الأوروبيّين، كان لها فعلها الفاعِل في العقول الفلسفيّة الأوروبيّة المتفتّحة والخلّاقة التي عكستها الأجيالُ الفكريّة المتلاحقة في القارّة، امتداداً إلى فلاسفة اليوم، وأخصّ بالذكر منهم جماعة "مدرسة فرانكفورت" المعروفة بمنحاها النقدي الصلب لكبرى الإيديولوجيّات والفلسفات الماركسيّة واللّيبراليّة والنيوليبراليّة، والتي يُمثّلها فلاسفةٌ أفذاذ من أمثال ماكس هوركهايمر، وتيودور أدورنو، وإريك فروم، وهربرت ماركوز، ويورغن هابرماس، وأفريد شميدت وغيرهم.. وغيرهم؛ وكلّهم اعترفوا بالجميل العِلمي والفلسفي العقلاني لابن رشد. وكَم أَعجبني اعتراف هربرت ماركوز من بينهم عندما قال إنّ ابن رشد "كان وسيطاً، بل جسراً فلسفيّاً مُبهِراً أَفدنا منه جميعاً عبر تاريخنا الفكري الأوروبي المُعاصِر، ولولا صنيعه الفكري الاستثنائي لما كانت صورتنا الفكريّة هي على ما هي عليه اليوم".

من جانبٍ آخر، وفي ما يتعلّق بالثقافة المسيحيّة في أوروبا، أودّ أن أسجّل ملاحظة أراها مهمّة للغاية في هذا المجال، وهي أنّ اللّاهوت المسيحي المُعاصر (على ركاكة تأثيره لاحقاً في التحوّلات السياسيّة والاستراتيجيّة الغربيّة بشكلٍ عامّ) استفاد هو الآخر من الأطروحات الرشديّة العقلانيّة في دحْضِ السلبيّات التي طاولت اللّاهوت المسيحي القديم، والتي كان تأثيرها مؤذياً، بل خطيراً جدّاً على براءة الخطاب الديني المسيحي في أصوله الأولى.

حاصل القول، عندما تراني أخوض بعيداً في أيّ ضلعٍ من أضلاع الثقافة العربيّة/ الإسلاميّة، فلسفيّاً، أدبيّاً، شعريّاً، نقديّاً... إلخ، فأنا أتعمّق فيه لأفهمه أكثر، ولكي يصير هو من مزاياي الثقافيّة والإضماريّة أكثر وأكثر. ومن هنا، على ما يبدو، أنتَ تقرأ سببَ شَغَفي ووَلَعي (بحسب وصفكَ) في نِتاج متصوّفة إسلاميّين كِبار، هُم في واقع الأمر شعراء عمالقة، ومفكّرون عمالقة، ورموز استثنائيّة على مستوى ثقافة الإنسان في كلّ مكان وزمان: محي الدّين بن عربي، النّفري، الحلّاج، جلال الدّين الرومي، فريد الدّين العطّار، السهروردي، الجُنَيْد، الزركشي وغيرهم.. وغيرهم.

متى قرأتَ نِتاج النّفري سيّد بورخيس؟ ومَن نصحكَ بقراءته؟

قرأتُ كتاب "المَواقف والمُخاطبات" في العام 1941 مُترجَماً من العربيّة إلى الإنكليزيّة على يد المُستعرِب البريطاني آرثر جون آربري (1905 – 1969)، والترجمة بالمناسبة أكثر من رائعة، لأنّ المُترجِم مختصّ بالتصوُّف الإسلامي؛ وله طول باعٍ مَعرفي باللّغة العربيّة على أصولها، وبراعة اشتقاقاتها، حيث تعلَّمها على يدِ كبير المُستعرِبين البريطانيّين رينولد آلين نيكلسون (1868 – 1945) الذي نَصَحَ تلميذه آرثر جون آربري بضرورة تحقيق كِتاب "المَواقف والمُخاطبات" للنّفري ونشْره. وبالفعل تمّ تحقيق الكِتاب ونَشْره في العام 1934.

أمّا الترجمة إلى الإنكليزيّة، فظهرتْ في العام 1935، وكان الأمر بمثابة حدثٍ ثقافيٍّ كبير على مستوى الثقافتَيْن العربيّة والغربيّة، وخصوصاً لجهة الاهتمام المُتزايد للأخيرة بعِلم التصوّف والعرفان و"الغوص في فهْمٍ وجوديّ أبلغ وأعمق لفلسفة الكشف وفتوحاتها السريّة" على حدّ تعبير المُستعرِب آربري نفسه.

وبخصوص مَن نصحني بقراءة "المَواقف والمُخاطبات" للنّفري فإنّهم كانوا أصدقاء من ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا لديهم اهتمامات جدّية وواسعة بالثقافة الصوفيّة الإسلاميّة، وعلى رأسهم كلاوس فرنهايم، وهو فيلسوفٌ روحاني ألماني اختار حياةَ العزلة في الجبال، وعزلته هي من النَّوع المُعادي بشدّة للإعلام والإعلاميّين ويحرص خلالها على ألّا يتّصل بأحد، أو يتّصل به أحد، اللّهم إلّا الذي يُبادر هو إلى التواصل الشخصي معه. والأفراد الذين يتّصل بهم في العادة، وبحالاتٍ نادرة للغاية، هُم من الفلاسفة والمفكّرين والشعراء والروائيّين والمثقّفين الاستثنائيّين... باختصار، اتّصل بي كلاوس فرنهايم هذا عبر صديقٍ مُشترَك ونَصحني بقراءة كِتاب "المَواقف والمُخاطبات" للنفري ومُتابعة سيرة هذا الصوفي العربي - الإسلامي الكبير المُنقطع السيرة أصلاً.

أنتَ هنا، سيّد بورخيس، ومن حيث لا تدري، غيّرتَ الآن مُعطياتٍ معيّنة على المستوى الثقافيّ العربيّ، تتعلّق بمَن هو المسؤول الأساس عن إعادة اكتشاف النّفري ونفْض الغبار عن إبداعه الصوفيّ وتقديمه لنا، وأقصد هنا المُستعرِب الإنكليزيّ رينولد نيكلسون؛ فلولا نصيحة هذا الأخير لتلميذه آرثر جون آربري بالاشتغال على النّفري، لما كنّا شهدنا في المحصّلة كِتاب "المَواقف والمُخاطبات" مُحقَّقاً ومُتداوَلاً في الفضاء الفكريّ والشعريّ العربيّ.

صَمت بورخيس برهة على تعليقي هذا ثمّ قال:

هذا في الحقيقة ما حصل، وعلمتُ به شخصيّاً من أوساط المُستعرِب آربري نفسه، ولكنّ الأمر الأهمّ في رأيي، يعود للطرفَيْن الإنكليزيَّين المعنيَّين. فآرثر آربري التلميذ كان يتمتّع بثقةِ أستاذه الكبير رينولد نيكلسون، الخبير بالتصوّف الإسلامي والمُتضلِّع من لغة العرب. واعتقد بجزم أنّ الأستاذ وَضَعَ ثقته الكاملة بتلميذه لجهة أنّه الأقدر بين سائر طلّابه على إنجاز هذه المهمّة الجليلة، فالتحقيق بكنوز متصوّف من طراز محمد بن عبد الجبار النفري يستوجب، في المقابل، وجود طالب قدير واستثنائي من طراز آرثر جون آربري.

ما دمنا نتكلّم عن صنيع الأستاذ نيكلسون وتلميذه آربري في ما خصّ إعادة الاعتبار للكنوز الصوفيّة النّفريّة التي يتضمّنها كِتاب "المَواقف والمُخاطبات"، أودّ أن أفيدكَ سيّد بورخيس بأنّ هناك أستاذاً عربيّاً كبيراً من العراق، هو الأب المسيحي بولس نويّا (1924 – 1980) قام بالتحقيق في الأعمال الصوفيّة الأخرى المجهولة للنّفري، وأصدرها في مصنّف حمل عنوان "نصوص صوفيّة غير منشورة.. موقف المواقف"، مُكمِّلاً بذلك ما فَعله نيكلسون وآربري. والأب نويّا، في المناسبة، تلميذ لويس ماسينيون، المُستشرِق الفرنسيّ الكبير، وأحد الرموز الخبيرة في التصوُّف الإسلاميّ. وكان لي شرف اللّقاء بألأب نويّا في بيروت أكثر من مرّة، أيّام كان يعمل أستاذاً للإسلاميّات والتصوُّف في جامعة القدّيس يوسف في العاصمة اللّبنانيّة، إلى جانب عمله لاحقاً كأستاذ كرسي التصوّف الإسلاميّ في جامعة السوربون في باريس..

هذا أمرٌ جليلٌ للغاية هو الآخر، وأتمنّى شخصيّاً أن أقرأ هذه النصوص الصوفيّة غير المنشورة للنّفري، مُحقَّقَةً من رجلِ دينٍ مسيحي عربي هو تلميذ ماسينيون بحسب كلامكَ. ومعرفة ماسينيون بالنّفري عميقة للغاية، كونه هو مختصّ عتيد بالتصوّف الإسلامي والحوليّات الإسلاميّة، وقد اشتغل بعُمق على قطبٍ صوفي مركزي آخر طبّقت شهرته الآفاق هو الحسين بن منصور الحلّاج الذي عاش في العصر نفسه الذي عاش فيه النّفري.

وما يزيد الأمر شغفاً على شغفٍ عندي، هو أنّ كلّاً من النّفري والأب نويّا، ينتميان إلى بلدٍ واحدٍ غنيّ بالطّاقات الإبداعيّة، ماضياً وحاضراً، هو العراق.

في أيّة أجواء حلّق بك النّفري سيّد بورخيس؟ كيف تفاعلتَ مع شذريّاته الصوفيّة المُمْعِنة في إزاحة الحجب والأستار وغذّ السير نحو ما لا تُدركه الأبصار وتحوط به العقول؟

النّفري هو ابن البيئة العربيّة - الإسلاميّة، ولكنّها بيئة معطوفة على ما قبلها من بيئاتٍ مُعتقديّة ودينيّة غابرة، فبلدته "نفر" كانت من قبل مدينة تاريخيّة كبيرة تُدعى "نيبور"، شيَّدها السومريّون منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، وكانت مُنطلقاً لعبادة الإله الوثني "إنليل" المكنّى بـ"سيّد الهواء" الذي يَمنح حيويّات الأنفاس للبشر والكائنات الحيّة على اختلافها؛ ومن بين ما يتردّد من أساطير عن هذا الإله، واحدة تفيد بأنّه تحالَفَ مع الماء، كي يُحقِّق التوازن المطلوب مع النار وتستمرّ الحياة آمنةً على أرض الكوكب.

خَلَفَ هذا المعتقدَ الوثني في نيبور الديانةُ المانويّة، وهي ديانة غنوصيّة عرفانيّة هدفها فكّ حُجب الأسرار الإلهيّة. وقد جاء بها الحكيم الفارسي "ماني"، المولود في بابل عام 216م في وسطٍ ديني مسيحي، ما جعلَ ديانته تتداخل بشكلٍ أو بآخر بالمسيحيّة ثمّ بالزرادشتيّة والبوذيّة، بهدف بلْورة ديانة مؤتلفة ذاتَ بُعدٍ عالَميّ مُهَيْمِن، لكنّه رحل عن هذا العالَم في العام 276م من دون أن ينجح في مسعاه المُعتقدي هذا، وسرعان ما طَغت على ديانته لاحقاً (أي المانويّة) البوذيّة والمسيحيّة في القرن السادس الميلادي؛ ثمّ تلاهما الإسلام الذي انتشرَ انتشاراً واسعاً ومؤثِّراً، ما شكَّل من هذا التراكُم المُعتقدي المُشترَك كلّه ميزةً ثقافيّة دينيّة معمّقة، عزَّزت النصّ الصوفي لدى النّفري، وجَعَلَتْه أكثر غنىً تبادُليّاً في الطرح والرؤيا واستنباط المعاني بين العلّة والمعلول. كما أجبرت النّفري على أن يُطوِّعَ لغتَه العربيّة القويّة والمَرِنة باتّجاه التعبير عن الوله، ولهه الكشفيّ، الذي يتشكّل بذاته المنداحة عالياً كمداراتٍ روحيّة شفّافة، ويجعلها باستمرار تخدم انفعاله اللّحظي وهواجسه وأسئلة مواجيده الخلّاقة الآسرة.

وكيف استوعبتَ تحوّلات المعنى أو التجلّي الصوفيّ عند النّفري مُترجَماً إلى الإنكليزيّة، فاللّغة العربيّة لها حساسيّة خاصّة في التقاط المعنى الصوفيّ والاحتشاد لإشراقاته والتعبير عن فيوضاته لا تستطيع أيُّ لغةٍ أخرى أن تحلّ محلّها فيه؟

عندما قلت لكَ قبل قليل إنّ ترجمة المُستعرِب آرثر جون آربري لكِتاب "المَواقف والمُخاطبات" إلى الإنكليزيّة كانت أكثر من رائعة، فإنّما كنتُ أقصد أنّني كقارىء كنتُ استوعب الخلاصات الصوفيّة للنفري برمزيّتها وإيحاءاتها وشعريّتها المتفوّقة على نفسها، بشيء كبير من السلاسة والعُمق وزهوّ الحدس الذاتي.. وكثيراً ما كنتُ أحسّ وأنا أقرأ الشذريّات أيضاً بأنّني استمدّ منها مكانةً ذاتيّة جديدة وسامية تدفع بي في اتّجاه إدراك الكليّات والجزئيّات، ودائماً بنَوعٍ من التوهُّج الفردي الخصوصي. وما ينبغي ألّا نعبر عليه أو نُهمله ونحن نقرأ النّفري، هو أسلوبه المكثَّف المُقتضَب، والقادر خلاله بمهارة فائقة على أداء أكثر القول بأقلّ المنقول.

لندخُل في النصّ الصوفيّ المُباشر للنفري.. كيف كنتَ تفهمه وأنتَ تقرأه؟

نصّ النّفري إجمالاً هو عبارة عن خطابٍ إخباريّ، إسقاطيّ، إضماريّ (قال لي، أوقفني...إلخ) يمنحك خلاله صاحبه هويّة حضوره في مطلق الحقّ والدّين والفكر والحياة؛ ويدفعكَ، على طريقته، إلى التكامُل مع الوجود كلّه. وهي طريقة تضعكَ في الرؤيا مُباشرة، الرؤيا في قلبها وفي جهاتها البؤريّة الواحدة والتي لا يُمكنكَ خلالها أن تحسب أبداً حساب المسافات والأقيسة، العلوّ والدنوّ، الشمال أو الجنوب، الشرق أو الغرب، الماضي والحاضر، الذاكرة من عدمها:

"أوقفني في نورٍ وقال لي: لا أقبضه ولا أبسطه ولا أطويه ولا أنشره ولا أخفيه ولا أظهره".

ويضع النّفري نفسه دوماً في وضعيّة مُستقبِل الدرس الآتي من وراء الحجب، واستيعاب هذا الدرس كذلك، وجعله أسلوباً ومنهجاً وطريقة فهم وتدبّر وإسداء نصح للّذي يريد أن ينتصح:

"وقال لي: العِلم الذي ضدّه الجهل عِلم الحَرف، والجهل الذي ضدّه العِلم جهل الحَرف، فاخرج من الحَرف وتعلَّم علماً لا ضدّ له وهو الربّاني/ وتجهل جهلاً لا ضدّ له، وهو اليقين الحقيقي".

والضدّ عند النّفري هو مَن يوضح الصورة دوماً، ويجليها دوماً، ويصوّبها نحو الأسمى والأرفع الواحد دوماً:

"وقال لي: مَن لم يَرني من وراء الضدَّيْن رؤية واحدة ما رآني".

وأدعوك - والكلام لبورخيس- أن تقرأ هذه العبارة في عُمقها البليغ وتأثيرها الأبلغ:

وقال لي: "وزن معرفتكَ كوزن ندمكَ".

والمعرفة والعارف هُما المعادلة الذهبيّة المتحرّكة لأجل إدراك الحقّ، وهذه المُعادَلة تؤدّي إلى السكينة:

"وقال لي: فتحتَ لكلّ عارِفٍ مُحِقّ باباً إليّ، فلا أغلقه دونه، فمنه يدخل، ومنه يخرج، وهو سكينته التي لا تفارقه".

لكنّ المعرفة التي لها وظائف عديدة، هي أيضاً نار تأكل حتّى المحبّة:

"وقال لي: المعرفة نار تأكل حتّى المحبّة، لأنّها تشهدك حقيقة الغنى عنك".

ويزيد النّفري شذرة على هذه الشذريّة تُفضي بأنّ المعرفة لا تستطيع، وليس لها في نهاية النهايات امتياز حقّ معرفة الحقّ مهما حاولت:

"يا عبد: شيء كان، وشيء يكون، وشيء لا يكون. فشيء كان: حبّي لك، وشيء يكون: تراني، وشيء لا يكون: لا تعرفني أبداً".

ويُذكّر النّفري الإنسان بأنّ الله كرّمه على باقي مخلوقاته، وجَعَلَهُ هو معنى الكون بأكمله:

"وقال لي أنتَ معنى الكون كلّه".

والحقّ يريد أن يدخل السرور والمرح في قلب الإنسان، مهما كانت الأمور ضيّقة عليه وضئيلة:

"وقال لي أقعد في ثقب الإبرة ولا تبرح، وإذا دخلَ الخيطُ في الإبرة، فلا تمسكه، وإذا خرج فلا تمدّه، وامرح فإنّي لا أحبّ إلّا الفرحان".

هذا غَيض من فَيض صوفيّات محمّد بن عبد الجبّار بن الحسن النّفري، وهي إجمالاً تُدلِّل على نفسها بنفسها وأفضل بالتأكيد من أيّ شروحات أو تعليقات حولها.

ألا ترى سيّد بورخيس، أنّ مثل هكذا تفسيرات تقدّمها أنتَ، قد تكون سريعة وإجماليّة، وأنّ الأمر معها يلزم نبضاً آخر من ثراء التفسير والترميز، فالنصّ الصوفيّ العائد للنّفري، يفرض علينا قراءاتٍ ذات طبقاتٍ مُختلفة وأكثر تدويراً وتحليقاً ممّا ينبغي؟

بالتأكيد ثمّة قراءات عقليّة وروحيّة أعمق وأغنى تأويلاً رمزيّاً ومجازيّاً ممّا أقدّمه أنا لنصوصِ هذا القطب الصوفي الذي يستحقّ منّا، ومن غيرنا، الكثير من الدراسات الميثولوجيّة والفلسفيّة والشعريّة المُبهِجة والمفتوحة على إبداعه العشقي والحبّي المستقلّ لله وصنائعه في الأكوان المنظورة وغير المنظورة.

لكنّ أيّ نصّ صوفيّ اعتباريّ يحقّ لك، في المُقابل، أن تقرأه وفق تصوّراتكَ أنت، وتأويلاتكَ أنت، حتّى ولو لم يُثِر ذلك اهتمام الآخرين. فهذا النصّ مُتاحٌ للجميع، وأشعّته تخترق الجميع، وكلٌ يستقبله بحسب مستوى مجسّاته الروحيّة والنفسيّة والسريّة المُتناهية في المكان، وفي الزمان، من أوّله.. وحتّى آخره، ودائماً من منطلق الرّاهن التأويلي الذي يعتريك.