No Image
منوعات

مرفأ قراءة .. وداعا «صلاح فضل» الناقد الحداثي

10 ديسمبر 2022
10 ديسمبر 2022

-1-

بالتأكيد خسارة فادحة تلك التي مُنيت بها الحركة النقدية والأدبية والثقافية العربية عمومًا برحيل الناقد والأكاديمي والمجمعي القدير الأستاذ الدكتور صلاح فضل (1938-2022) الذي توفي عن 84 عاما بعد رحلة شاقة ومعاناة مع المرض، وبعد مسيرة حافلة بالإنجازات والإسهامات المهمة في تاريخ النقد العربي الحديث والمعاصر.

بغياب الدكتور صلاح فضل، يمكن القول إن جيلا كاملا من كبار الأساتذة والنقاد الموسوعيين المؤثرين في عالمنا العربي، خلال نصف القرن الأخير، قد ودعنا نهائيا، وترك لنا إرثا جليلا ومهما من المؤلفات والترجمات والأفكار والحضور العارم، نقديا وعلميا وأكاديميا، وقد كان الدكتور فضل أحد هؤلاء الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس لما يزيد على الأربعين عاما.

-2-

كان رحمه الله واحدًا من تلك الكوكبة من النقاد المعاصرين الذين أطلق عليهم نقاد الحداثة وما بعدها في نقدنا العربي؛ مع جابر عصفور، وسيزا قاسم، ويُمنى العيد، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وعبد السلام المسدي، ومحمد برادة، وهدى وصفي، ونبيلة إبراهيم، وغيرهم، ممن أخذوا على عاتقهم تجديد الدماء في شرايين النقد العربي، والانفتاح الواسع على تيارات النقد الجديد في الثقافة الغربية، استلهامًا لتيارات النقد الجديد وتيارات الحداثة بدءًا من الشكلية الروسية ومرورا بالبنيوية والتفكيك والسيميوطيقا والهيرمنيوطيقا، وصولًا إلى النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وقد اضطلعوا بنقل هذه التيارات والمناهج وتأصيلها في تربة النقد العربي الحديث.

وانفرد صلاح فضل من بينهم بمحاولاته الباكرة جدا في سبعينيات القرن الماضي بالتعريف بهذه المناهج والتيارات التي أفرد لكل منها مؤلفا مرجعيا في الغالب كان يمثل المؤلف الأول باللغة العربية الذي يتناول عرض ودراسة هذه المذاهب والتيارات (راجع كتبه عن البنيوية والأسلوبية والسيميولوجيا وتحليل الخطاب وعلم النص.. إلخ) فضلًا عن تطبيقاته لهذه المناهج على عشرات النصوص الإبداعية في الشعر والرواية والقصة والمسرحية.

وللأمانة، فقد مثّلت أعمال الدكتور صلاح فضل مكتبة نقدية متكاملة المعارف والأركان، نظريًّا وتطبيقيًّا، راوح فيها بين متابعة أحدث المناهج النقدية ودراستها وعرضها والتأصيل لها في نقدنا العربي، في موازاة الكتابة التطبيقية التي راوح فيها بين فنون السرد (القصة والرواية والمسرحية) وبين الشعر قديمه وحديثه، فصيحه وعاميه.. إلخ.

وكان رحمه الله غزير الإنتاج ترك ما يزيد على الخمسين كتابا ما بين الكتب النظرية والتطبيقية والترجمات والمقالات والإسهامات المختلفة في الدراسات الأدبية والأدب المقارن.. إلخ

-3-

في كل حواراته ولقاءاته وأحاديثه التي تطرق فيها لتكوينه النقدي وتأسيسه العلمي والثقافي كان دائما ما يستهل حديثه بالتأكيد على أنه امتداد لناقدين وأستاذين جليلين يستطرد في سرد ذكرياته عنهما باعتبارهما أهم أستاذين تأثر بهما وكانا هما صاحبي الفضل الأكبر في تكوينه النقدي؛ أولهما الدكتور محمد غنيمي هلال أستاذ النقد الأدبي الحديث والأدب المقارن بكلية دار العلوم، والثاني الناقد الكبير الدكتور محمد مندور.. وكان فضل يرى أن في كل واحد منهما حزمة مميزات اجتهد في استخلاصها وتشربها والتأثر بها.

كان يرى أن غنيمي هلال عالم حقيقي «ذو دراية علمية ومعرفية حقيقية»، مطلّع ومتمكن ومستوعب وهاضم لكل التيارات النقدية الحديثة حتى وقته، لكنه في الوقت ذاته لم يكن يحسن الحديث ولا المحاضرة ولا التواصل المباشر مع الطلبة، كان فاقدًا لملكة المحاضرة والتواصل الحي النابض بالتفاعل والنقاش، فضلًا عن أن إدراكه للواقع الإبداعي «محدود»، وبالتالي فلم يكن يميز أقدار المبدعين، ولا يحسن وزنهم نقديًا أو إبداعيا بعكس محمد مندور الذي كانت لديه قدرة فائقة شديدة الحساسية على وزن أي شيء ونقده وتصنيفه بمعيار من «ذهب».. كان مندور -كما كان يراه فضل- يمتلك ذائقة نقدية رهيبة قادرة على وزن وميزان أي نص إبداعي، مهما كان وإعطاء القول الفصل فيه!

ويحكي فضل عن مندور أن شباب المبدعين كانوا ينتظرونه أمام مبنى التلفزيون «ماسبيرو» ليعطوه ديوانا شعريا أو مسرحية أو رواية أو مجموعة قصصية، وما يكاد مندور يتصفحه ويقرأ منه أسطرا حتى يستطيع بكل سهولة الإفاضة في الحديث عن هذا النص، ويقيم حلقة إذاعية كاملة (من برنامجه مع النقاد مدته حوالي ساعة) حول هذا النص ومحدداته وسماته دون أي سابق معرفة بصاحبه ولا... بل ربما لم يره في حياته كلها إلا مرة واحدة!

هذان النموذجان -وفقًا لفضل- كانا هما الجديرين بالاحتذاء والتمثل، وإن كان أصعبهما في نظر صلاح فضل نموذج غنيمي هلال، الذي سافر إلى الخارج واجتهد في تحصيل المعرفة الواسعة وأسس نفسه تأسيسا ثقافيا ومعرفيا مكينا، ولكنه يستقر في النهاية على التوسط بينهما (أي بين غنيمي هلال ومحمد مندور)، والجمع بين نموذجيهما والاستفادة من مزاياهما معًا، وأظن أن صلاح فضل قد نجح إلى حد بعيد في تمثل مزايا الأستاذين الناقدين وطور هذه المزايا لينتج بدوره خطابا نقديا غزيرا وثريا وجديرا بالقراءة والدرس والتأمل والتعلم منه أيضًا!

-4-

كان صلاح فضل أحد أفراد الكتيبة التي أسست مجلة (فصول النقدية) في عام 1980، وهي المجلة التي لعبت دورًا جذريا في إشاعة مذاهب وتيارات نقد الحداثة وما بعدها، عن تلك التجربة يحكي لي المرحوم صلاح فضل أن مشاركته في تأسيس مجلة «فصول» للنقد الأدبي مطلع الثمانينيات كانت مع المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل، والمرحوم الدكتور جابر عصفور، «لتقدم لي فرصة ذهبية»، أنشأت فيها بابًا بعنوان «تجربة نقدية» خصصته للمطارحات التطبيقية، ونشرت في أول عدد بحثًا بعنوان «إنتاج الدلالة في شعر أمل دنقل»، كان شاعرا محرما ذكره في جميع وسائل الإعلام المصرية حينئذ لقصيدته الصارخة «لا تصالح» لكنني أفسدت المقال بمقدمة نظرية لم يفهمها أمل نفسه فلم يتحمس للدراسة.

ويتابع صلاح فضل قائلا: وظلت هذه عاداتي السيئة في تعويق التفاهم الحر مع القراء في المجالات المتخصصة والعامة، حتى دُعيت في التسعينيات للكتابة في مجلة (المصور) القاهرية، فحلّت عقدة لغتي نسبيا، وأخذت أداعب القراء بمقالات نقدية مفهومة، وإن كان مجال انتشارها محدودا، فلما دعيت للأهرام، تذكرت موقف يحيى حقي الذي رفض الكتابة فيه لأنه «ملقف» ملقى في جميع الطرقات، وهو يبغي «الستر» في صحيفة محدودة الانتشار، لكني لم أجد مناصًا من حسم اختياراتي الأسلوبية، أخذ القراء يتوسطون بيني وبين الكلمات والصياغات، اشتد اهتمامي بآليات التواصل الجمالي وقابلية الفهم، وكنت كلما سألت بعض أقربائي من المتعلمين عما يفهمونه من مقالي يرددون «كلامك حلو لكننا لا نفهمه» فأجتهد في اجتياز الفجوة بين الجمال والبساطة.

وهكذا وكما يقول صلاح فضل أعادته الصحافة إلى لذة القراءة التي كان يمارسها مع شيوخه الأوائل، لكن ظلت المعادلة الصعبة التي تؤرقه هي كيفية الجمع بين روح المنهج العلمي الدقيق، وحرية الممارسة الشيقّة للكتابة الأدبية عن الأدب ذاته، بشعره وسرده وفنونه الجديدة، كتابة تكون الوجه الآخر للقراءة الحرة، تنبثق وتحتكم إليها، ودائما ما كان يختتم حديثه حول هذه المسألة بطرحه السؤال: «ترى هل تنجح هذه المحاولات؟ لكم كامل الحرية في القراءة والحكم».

-5-

كان المرحوم الدكتور صلاح فضل من المؤمنين بأن وظيفة النقد المعاصر في مجتمعاتنا العربية تمضي في الاتجاه نفسه الذي بدأت به عند الرواد، باعتباره عملًا تثقيفيا تنويريا، يهدف إلى إشاعة الروح النقدية في مختلف مستويات الفكر والممارسة الاجتماعية، لأن دينامية التطور ترتكز على تشغيل الموقف النقدي بأقصى طاقته في مجالات السياسة والاجتماع والثقافة، وتضيف إليه توجها جديدًا هو الذي يميز نقد الآونة الأخيرة، وهو تحديد مفهوم وطبيعة توجهه العلمي بشكلٍ يخالف ما كان عليه حال العلم الإنساني من قبل، فقد خرج من دائرة الفروض الأيديولوجية الضخمة، في نظرياته وإجراءاته، ليلتمس مدخلًا صحيحًا للعملية المتنامية المتراكمة، متسقا في ذلك مع منظومة العلوم الإنسانية في حركتها المتواصلة لتعديل استراتيجيتها کي تتوافق مع التطور المحدث.

وكان يرى أنه كلما أصبح النقد علميا، وتخلص بقدر الإمكان من الفروض الأيديولوجية، واتجه إلى المستقبل، كان أكثر عملية وتواصلًا مع الفكر الإنساني، وأكثر عونًا لنا -في الآن ذاته- على اكتشاف خصوصيتنا في هذا العصر واختلافها عما كانت عليه في العصور الماضية...