لويس عوض ناقدا «تاريخيا»
-1-
قبل أسابيع وربما أشهر كنت بدأت مشروعًا طموحًا لعرض ملامح من تاريخ نقدنا العربي المعاصر في القرن العشرين، منطلقا من إعادة التعريف بالكتب والدراسات النقدية التي أحدثت ثورة منهجية أو انتقالة منهجية أو مثّلت نقطة فاصلة بين ما قبل وما بعد.
وتوقفت بالعرض والقراءة أمام نماذج من هذه الكتب التأسيسية؛ منها على سبيل المثال كتاب «في الثقافة المصرية» للناقدين الاجتماعيين محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، وهو الكتاب الذي فجّر الجدل والمعارك وأعلن تمردًا صريحًا وخروجًا معلنا على النقد السائد وخاصة الخطاب النقدي الذي قدمه جيل الرواد (طه حسين وعباس العقاد وميخائيل نعيمة.. إلخ).
وكذلك توقفنا في مرفأ قراءة عند كتاب آخر مؤسس هو «التحليل الاجتماعي للأدب» للباحث والمفكر السوسيولوجي الراحل السيد ياسين وكان صدور هذا الكتاب تدشينًا معرفيًا لحضور مناهج علم اجتماع الأدب في الثقافة العربية بصورة منهجية على أسس علمية.
وفي السياق أتصور أنه لا تكتمل صورة التيار الاجتماعي في النقد العربي خاصة في النقد العشرين بدون الوقوف عند واحدة من نصوصه التأسيسية الكبرى وهي نصوص الناقد العملاق والمفكر المثير للجدل والمناظرة الدكتور لويس عوض (1915-1990).
كنا ونحن ندرس مناهج النقد الأدبي عمومًا ومناهج علم اجتماع الأدب على وجه الخصوص، نواجه نصوص النقاد مباشرة، قراءة وتحليلًا واستخلاصًا للأفكار والنظريات التي كان ينتهجها أو يتبناها هذا الناقد أو ذاك.
وأذكر جيدا في محاضرات أستاذي الراحل الدكتور سيد البحراوي عليه رحمة الله أنه كان شديد التقدير والإعجاب بمقدمتي الدكتور لويس عوض لكتابين مترجمين هما «برومثيوس طليقا» لشيللي (1946) وقبله «فن الشعر» لهوراس (1945)، فضلًا على المقدمة المستفيضة التي قدم بها لويس عوض لكتابه في «في الأدب الإنجليزي الحديث» الذي نشر فصوله على صفحات مجلة الكاتب المصري (1945-1948) التي كان يرأس تحريرها أستاذه الدكتور طه حسين.
-2-
وثمة إجماع بين من أرخوا للنقد الأدبي المعاصر في ثقافتنا العربية أن هذه المقدمات التاريخية التحليلية التفصيلية هي نموذج فذ وعملي لتطبيق المنهج التاريخي في دراسة الظواهر الأدبية (والإبداعية والفكرية عموما) من حيث تكونها وتشكلها في سياق تاريخي واجتماعي معين ووليدة الشروط الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها.
وتأتي المقدمة التي صدر بها لويس عوض ترجمته المبدعة لكتاب «برومثيوس طليقا»؛ هذا الكتاب الملحمي الفريد لشاعر الرومانسية الكبير شيللي، لتحتل مكانة خاصة في تاريخ النقد الأدبي العربي المعاصر، خاصة أن هذا التقديم/ الدراسة قدم من منظور تاريخي منهجي دقيق وعميق تحليلًا لمجمل حركة الإبداع الرومانسي الإنجليزي في سياق حركة وتطور المجتمع الإنجليزي ككل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
يقول جابر عصفور عن هذه المقدمة: ولترجمة العمل الملحمي «بروميثيوس طليقا» للشاعر شيللي وتقديمه ودراسته أهمية خاصة من هذا المنظور، ذلك لأن هذا العمل يرتبط بالثورة الإبداعية المتفجرة عند الرومانسية من ناحية، وبالنموذج الإبداعي للتمرد الإنساني على الأرباب من ناحية ثانية، وبالتوجه صوب المستقبل الواعد الذي تصنعه النار التي سرقها بروميثيوس وعلمها للبشر من ناحية ثالثة.
ويمكن أن نضيف أيضًا أن «بروميثيوس طليقا» لم تكن مجرد عمل شعري مترجم، بل كانت إرهاصا رمزيا بالجهد الذي بذله لويس عوض والرسالة التي حمل شعلتها النارية كأنه صورة أخرى من بروميثيوس القديم.
-3-
أما المقدمة المستفيضة التي صدر بها كتابه القيم «في الأدب الإنجليزي الحديث» (صدر للمرة الأولى عام 1950)، فتعد بدورها واحدة من وثائقنا النقدية الممتازة في القرن العشرين؛ فبقدر ما كان هذا الكتاب علامة تمرد صريحة وبينة على طرائق الدرس الأدبي المألوفة آنذاك، في كتابات أستاذيه الملهمين عباس العقاد وطه حسين، كان الكتاب كما يصفه جابر عصفور «توهجا مشعا» لأفكار الناقد الماركسي الإنجليزي الشهير كريستوفر كودويل (1907-1930) الذي مات مناضلًا ومدافعًا عن الجمهورية في الحرب الأهلية الإسبانية، وهو صاحب الكتب والدراسات الشهيرة «الوهم والواقع»، و«دراسات في ثقافة تحتضر» (استوحى منه الناقد الراحل غالي شكري عنوان كتابه «مذكرات ثقافة تحتضر»)، وقد كان كريستوفر كودويل النجم اليساري الساطع لحركة النقد الأنجلو ساكسونية في ثلاثينيات القرن الماضي. وهكذا جاءت دراسات وأبحاث لويس عوض في «الأدب الإنجليزي الحديث» تطبيقًا مستمرًا للمبدأ النقدي الذي يرى أنه لا سبيل إلى فهم المدارس المختلفة في الفكر والفن إلا إذا درسنا الحالة الاقتصادية في المجتمع الذي أنجب هذه المدارس والتيارات.
وقد كان لويس عوض ناقدًا اجتماعيًا «تاريخيا»، يرى في ضوء هذا المنهج الذي لا يفصل النتاج الفكري والثقافي الإنتاج الأدبي والإبداع عموما عن جذره الاقتصادي والاجتماعي وسياقه السياسي، تعبيرا عن روح العصر، وتمثيلًا لواقع الإنسان بمختلف وجوهه ومكوناته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولا يمكن فهم انحيازات لويس عوض النقدية والأدبية ولا براعته التحليلية الاجتماعية بدون التأمل في السياق التاريخي والسياسي والثقافي الذي أعلن فيه عن نفسه ناقدا يؤسس لشعار «الأدب في سبيل الحياة» ويكاد يكون في قلب حركة النشاط اليساري دون أن يكون منتميًا لتنظيم.
عاد لويس عوض من بعثته إلى مصر في عام 1940، عن طريق جنوب إفريقيا، في وقت كانت الحرب العالمية في أوجها.
وفي القاهرة تعرف على هنري كوريل، أحد زعماء الحركة الشيوعية المصرية، وذلك في نادي «الاتحاد الديمقراطي» الذي كان الشيوعيون يديرونه. كما تعرف إلى كل من رمسيس يونان، وكامل التلمساني، وفؤاد كامل الذين كانوا ينتمون إلى تنظيم شيوعي في اتجاه آخر غير اتجاه كوريل. وفي النادي وحوله تعرف إلى انقسامات الحركة الشيوعية المصرية في أوج نشاطها و«سريتها» في أربعينيات القرن الماضي.
وأدرك لويس عوض الفوارق السياسية والفكرية الكبيرة والواسعة بين تياراتها، وكان عام 1946 عام الانتفاضات التي كانت تقودها «لجنة الطلبة والعمال» الشهيرة، وهي لجنة شاركت فيها كل التيارات السياسية.
وكان أصحاب المبادرة في تشكيلها الشيوعيون من المثقفين، وفي مقدمتهم الأديبة المعروفة الراحلة لطيفة الزيات.
لم يشارك لويس عوض في تلك الحركة، لكنه وكما يقول كريم مروة اليساري اللبناني المعروف، كان متعاطفًا معها من بعيد، إذ هو غادر في ذلك الحين إلى أوروبا، وكان في الأساس ينأى بنفسه عن الانغماس في العمل السياسي. وكان يرى في العمل العلمي وسيلته إلى الابتعاد عن السياسة والانصراف إلى ما كان يراه مجديا بالنسبة إليه.
-4-
وشهد النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي حركة ثقافية نشيطة، وصراعات حول تحديد معنى الأدب والفن، والعلاقة بينهما وبين المجتمع، وحول دورهما في هذا المجتمع، وإذ كان طه حسين في ذلك الوقت كان أقرب إلى تيار الجمالية الذي يقول بنظرية «الفن للفن»، أو هكذا كان يتم تأويله وتفسير خطابه النقدي من مخالفيه، فقد تصدى له مثقفون شباب من أمثال محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وعبدالرحمن الشرقاوي، باسم الواقعية الاشتراكية. ودعوا إلى نظرية «الأدب والفن للحياة».
وكان لويس عوض قد سبق هؤلاء المثقفين في الدعوة إلى تلك النظرية على طريقته، كما يقول. لكنه رأى في موقف المثقفين الشباب المشار إليه شيئًا من المغالاة في نقدهم لطه حسين، وفي الترويج لنظريتهم.
بالتأكيد كان لويس عوض «ناقدا» لا يبارى، وقد اشتهر بالنقد أكثر مما اشتهر بأي نشاط ثقافي آخر، وإن كانت هذه الفكرة في الحقيقة في حاجة إلى مراجعة ومساءلة حقيقية؛ خاصة مع الإنتاج الغزير والوافر للويس عوض في الفكر السياسي وتاريخ الفكر الثقافي والاجتماعي وتأريخه الشامل للحضارات القديمة وعصر النهضة والثورة الفرنسية كل هذه الكتابات تدعونا معجبين ومندهشين إلى معاودة النظر في فكرة أنه كان «ناقدا أدبيا في الأساس قبل أن يكون أي شيء آخر!»
