"ديّانة الماء".. أسئلة وجودية وصراعات بين الروح والجسد
عرضت الجمعية العمانية للسينما والمسرح في مقرها بمرتفعات المطار وبالتعاون مع مكتبة مجاز الفيلم الروائي القصير "ديّانة الماء" للمخرج والكاتب: هيثم المسلمي ومدة عرضه: 28:38 دقيقة، والفيلم يندرج تحت فئة "الخيال، والدراما، والرعب".
وبعد العرض، قدم الشاعر عبد الزراق الربيعي قراءة انطباعية للفيلم، أشاد في مستهلها بفريق عمل فيلم "ديّانة الماء"، الذي قدم العرض الممتع، متناولا حضور "البحر" في السينما الخليجية، وتوقف مع عنوان الفيلم، ثم مكوناته، والقصة من زمان ومكان وشخصيات وأحداث، وانتقل بعدها إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل، فعناصر الفيلم الأخرى كالإخراج والأداء، متوقفا مع بعض المشاهد المميزة بالفيلم.
وعن علاقة البحر بالإنسان الخليجي، أوضح الربيعي أن البحر يظل بمثابة الحضن الدافئ للمخرجين الخليجين، ربما لجماليات الصورة فهنالك يجد المخرج موقعا جاهزا ومتاحا يغترف منه ما يشاء ويؤثث المشهد الصوري بجماليات وجود الصوت، لاسيما الصوت الذي سمعناه اليوم بالفيلم وهو صوت البحر الذي احتل مساحة كبيرة من مجمل الأصوات بالفيلم. كما يعتبر البحر كنزا غنيا بالحكايات والأساطير كعروس البحر وتنين البحر وأغاني البحر فهي كلها تزيد من رفعة العمل السينمائي وتدفعه إلى الأمام. مبينا أن أول تجربة للسينما الخليجية مع البحر هي فيلم "بس يا بحر" للمخرج خالد الصديق الذي أنتج عام 1972 م. حيث تحدث الفيلم عن الشاب الذي يتوق لركوب البحر لصيد اللؤلؤ لكن والده المعاق يمنعه من تحقيق حلمه المتمثل بالزواج من حبيبته عن طريق ركوب البحر وصيد اللؤلؤ. وفي فيلم " ديّانة الماء" نلاحظ مباشرة تشابه في المضمون، ونجد عيسى وهو يتوق إلى ركوب البحر للبحث عن أبيه. وهذه المقاربات تحدث حينما يكون أصل المادة " البحر" هو الوجه المشترك بين الأعمال السينمائية الخليجية. كما نجد في فيلم خليجي آخر عنوانه " سيدة البحر" للمخرجة شهد أمين وهو إنتاج سعودي، نلاحظ فيه قصة الفتاة التي تعيش في قرية على الساحل تحكمها العادات وفكرة تقديم القربان التي تتشابه مع قصتنا حيث " زهرة" هي القربان في فيلم " ديّانة الماء" وهي التي تحاول كسر عادات وتقاليد مجتمعها الساحلي. ويوجد فيلم إماراتي بعنوان " ظل البحر" للمخرج نواف الجناحي يطرح ايضا سلسلة من القضايا الاجتماعية لمجتمع ساحلي معاصر. وأخيرا الفيلم الُعماني " البوم" من إخراج الدكتور خالد الزدجالي.
أما فيلم " ديّانة الماء"، فيشير الرزيقي بأنه فيلم يتحدث عن الشاب الأعمى "عيسى" الذي ابتلع البحر والده، وتوقه لركوب البحر للبحث عن والده لكنه يواجه عدة تحديات ومصاعب مع إسقاط مباشر من مخرج الفيلم لثيمة التمسك بالحلم والجرأة وحماسة الشباب عبر لقطتين لبيتين شعريين من ابيات قصيدة "إرادة الحياة" للشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي:
ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
وعندما نتحدث عن عنوان الفيلم " ديّانة الماء"، نعلم أن عنوان الفيلم هو عتبة لدخول العمل الفني فيحيل كاتب ومخرج الفيلم هنا العنوان إلى المياه المقدسة، وهذا المفهوم موجود في الديانات السماوية وغير السماوية. فكما نعلم أن الوضوء والتطهر بالماء يمارس في الديانة الإسلامية والمسيحية والهندوسية والتي ركز عليها الفيلم مثلما شاهدنا على فكرة نبش القبور وإغراق الجثث في ماء البحر لكيلا تحترق داخل جحيم الأرض ماهي إلا لتطبيق هذا المفهوم.
مضيفا أن سير أحداث القصة بالفيلم شهدت اشتباكا بين المفهوم الديني لقدسية الماء في القرية وبين الخرافة السائدة حوله وإن كانت الغلبة في الطرح لجانب الخرافة. ثم تبرز نقطة أخرى بين هذين العنصرين وهي العلم أو الحقيقة العلمية التي نراها هدف لبحث شخصية "سبيت" التي قام بها الفنان صالح زعل الفارسي، حيث أدهشتنا هذه الشخصية بلغتها العالية وفي مقولة للجاحظ يقول فيها أن "الكلام يطابق مقتضى الحال"، نرى في قصة الفيلم ما يسوغ تلك اللغة العالية للعجوز "سبيت"، فهذا العجوز هو رجل غريب وفد إلى القرية وكان يعمل في مختبر طبي مما يمكن أن يبرر له العلو اللغوي. فالعجوز كان يتحدث عن الوسط الناقل والزجاجة التي يشبها بجسد الإنسان، وهذا في الحقيقة من أجمل المشاهد بالفيلم وأعمقها كما أنه يمثل بؤرة الفيلم الفلسفية. ومحاولة إنقاذ العجوز "سبيت" الجسد البشري لكي تذهب عنه الشوائب ليبقى العظم وهي اشبه بطريقة الهندوس الذين يحرقون الجسد ويبقون رماد العظام لكي يرمونه في النهر. وكما نعلم أن عند الهندوس لديهم عناصر الطبيعية تتمثل في النار، والرياح، والتراب والماء. وإذا ما افترضنا أن ريحا هبت على نارا فأطفأتها، يتبقى لدينا عنصرا الماء والتراب. وحينما نشاهد الفيلم ونغوص في المنظور المفاهيمي الفلسفي تبرز المقارنة بين الماء والتراب في سؤال أيهما أكثر قدسية. فيمثل الماء مصدر الغياب حيث اختطف والد عيسى وابتلعه بينما يتمثل التراب في القبور السبعة التي تنبش بالقرية بشكل مجهول معلنة عن اختفاء الأجساد بداخلها. فيكون الماء هنا بحضوره أكثر قدسية من وجهة نظر العجوز "سبيت" حيث الذي يقلل من شأن التراب ويذكر أن الماء يشغل حوالي 71 بالمائة من كوكب الأرض، فهو المهيمن وهو المطهر. كما حضر عنصر تسفيه التراب وتصويره بأنه تافه لا قيمة له حينما نرى في أحد مشاهد الفيلم أهالي القرية وهم يدلقون التراب دلالة على حقارته ويخاطبون الكائنات التي تأتي من الماء.
ويتابع الربيعي: في خضم الاسقاطات السابقة حول قدسية الماء وتفاهة التراب، يعرج الفيلم ليتطرق إلى علاقة الروح بالجسد وهي قضية جدلية وعالمية كبيرة. ويضج الفيلم بشكل عام بسلسلة من الأسئلة الوجودية العميقة حيث تتمحور كلها داخل بنية من الصراع بين اليابسة والماء والصراع بين العلم والخرافة. "الجمارية" هي كائنات خرافية تأتي من البحر ويعتقد أهالي القرية الساحلية بأنها غاضبة عليهم وتقوم بنبش قبور موتاهم فيسعون إلى إرضاءها عن طريق تقديم القرابين المستمرة، وكانت زهرة هي أحد الضحايا أو القرابين لهذه الكائنات.
بعدها تطرق عبد الرزاق الربيعي إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل، مشيرا إلى أن المعنى يتبين في الفيلم من خلال المضامين الدلالية والإيحائية والرمزية والتي أتت بشكل مكثف، واستنادا على حقيقة أن أصل السيناريو هو نص قصصي مقتبس عن قصة قصيرة لكن مخرج الفيلم أعاد كتابته بصريا وهذا حق مشروع ووارد، حيث يقول جان كوكتو " السينما كتابة حديثة حبرها الضوء". وحوّل المخرج الكلمات إلى ضوء وصورة وخرج لنا بهذا الفيلم. أما تقطيع المشاهد بالفيلم والربط بينها والحديث بالصورة يوضح الربيعي بأنه كان ناجحا، كما أن التأثيث الدرامي كان تأثيثا جيدا، وعندما نأتي إلى ألوان الصورة قدم مخرج الفيلم ألوانا تحمل قيما رمزية معينة، مستشهدا باللون الأسود في لباس " الجمارية" في الحلم الذي حلمه عيسى، حيث مثّل هذا اللون بطريقتين مادية محسوسة ومعنوية رمزية، مثل العتمة التي يعيشها عيسى كونه أعمى وكذلك مثل التشتت والخوف الكبير الذي يعتريه بداخله، وهنالك اللون الأحمر الذي يظهر في لباس الرجال والنساء بمشهد أهالي القرية المؤدين لطقوس مناداة الجمارية حيث تبدو وكأنها مسيرة إلى حرب وتماشت مع الأزياء المبهرة التي حضرت في ذات المشهد ما أعمى الصورة ابعادا جمالية ومعنوية.
ويؤكد الربيعي بأن هناك الكثير من المشاهد التي لفتت انتباهه بالفيلم ومنها مشهد الحوار بين عيسى وأمه وتحذيرها له من السؤال عن أبيه المفقود فتقول له " أن الحقيقة تلسع من يتقصاها ويبحث عنها بحثا محموما"، ويضيف: أمتعنى فيلم "ديّانة الماء" كثيرا فهو يزخر الفيلم بالكثير من العناصر الفينة الجميلة ويقدم عدة إسقاطات عن مواضيع جدلية في صيغة أسئلة وجدانية عميقة، كما شدني الصراع بين العلم والخرافة والذي بنهايته انتصر العلم والمعرفة على الخرافة والأسطورة في صورة مكثفة وآسرة ركز فيها المخرج على شخوصه وعلى الحوار الذي كان مقتضبا فاستطاع المخرج أن يربط بين جميع هذه العناصر ويقدمها في مدة زمنية.
وبعد ذلك تحدث المخرج والكاتب هيثم المسلمي عن نص الفيلم، مبينا أنه كان في أصله قصة قصيرة كتبها عام 2015، وطرح فيها تساؤلات تشغله عن الروح والجسد، ثم طورها لتتحول إلى فيلم. مشيرا إلى أن تصوير الفيلم استغرق أكثر من شهر ونصف، وتم التصوير في مواقع مختلفة في الدقم والمصنعة والسيب والسويق. وأخيرا تم فتح المجال للنقاش لحضور الفيلم.
