حين تمتزج الروح مع الموسيقى فيولد خالد الشيخ "وينك يا عازف عود"
ظهر الفنان والموسيقار خالد الشيخ في سماء الفن العربي، فحملنا على جناح غيمة أو على ضوء نجمة، وصدح عندما كان لليل صباح، وغنى ولحّن عندما ذاب الصمت وتحدثت الأغاني، فملأ قوافل الحنين إلى الطرب الأصيل والشعر العربي الرصين، وروى عطش النخيل، وكان بأغنياته الشجية كحال قوافل الزمن الجميل التي تحمل العطور والذهب والأحجار الكريمة.
استطاع خالد الشيخ بموسيقاه تطويع أسراب الفرح وجعلها تنقش على الصدور الأسماء وتواريخ الميلاد، واستطاع بعبقرية فنه أن يجمع الأصالة والحداثة في تمازج فريد من نوعه عُرف به وعرّف به، وكان خالد الشيخ بثورته الموسيقية التي أحدثها واختياراته الشعرية في ذلك الوقت خارجا عن المألوف ليس على مستوى دول الخليج بل تجاوزه إلى المحيط العربي، وفي رحلة حياته مر الشيخ بتحولات دراماتيكية من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، كما كان أيضًا لخياراته الدراسية نصيب في هذه التحولات.
دراسته ومشواره الفني
درس خالد الشيخ السياسة في الكويت في عام 1972، وهجرها في سنته الثالثة في 1975 ليلتحق بالمعهد العالي للموسيقى (الكونسرفتوار بالقاهرة) ودرس التأليف الموسيقي حتى 1979.
رسم "الشيخ" بريشته وإحساسه الفني وبدقة وكفاءة عالية خارطة غنائية نادرة وخاصة به اشتملت على ألحان وجُمل وزخارف موسيقية سابقة لزمنها، متكئًا على أشعار انتقاها بعناية (جواهرجي)، وبمهارة وحرفية غوّاص خليجي في رحلة بحث عن اللؤلؤ النادر والثمين في أعماق البحار، فكان يشدو فنه على إيقاع أصوات (النّهام) وحادي العيس، واستطاع بمهارة الفارس العربي عندما يمتطي الخيول الأصيلة في جزيرة العرب أن يطوّع القصائد، ويروض الألحان.
فجمع خالد الشيخ في شخصيته الفنية الغواص والنّهام والطوّاش والفارس، فكل أغنية قدمها كانت بمثابة لؤلؤة نادرة أضاءت سماء الفن الخليجي والعربي بالنور والبهاء والجمال.
انتقاءات فذّة
استعان خالد الشيخ في رحلته الفنية النادرة والمتنوعة تلك بقصائد لنزار قباني، ومحمود درويش، وناصر البدري، وأدونيس، وغازي القصيبي، وقاسم حداد، وعلي الشرقاوي، وفائق عبدالجليل، وبدر بن عبدالمحسن.. وغيرهم من الشعراء.
فغنى لنزار قباني قصيدة "عيناكِ"، وتغنى لمحمود درويش بقصيدة "أبيات غزل" (سألتك هزي بأجمل كف على الأرض غصن الزمان
لتسقط أوراق ماض وحاضر
ويولد في لحظة توأمان
ملاك... وشاعر...... ).
وترنم لغازي القصيبي بقصيدة "يارا والشعرات البيض" (مالتْ على الشعرات البيضِ تقطفها
يارا.. وتضحكُ " لا أرضى لك الكِبَرا "
يا دميتي! هبْكِ طارتِ المشيب هنا
فما احتيالك في الشيب الذي استترا؟
وما احتيالكِ في الروح التي تَعبتْ؟
وما احتيالكِ في القلب الذي انفطرا.....).
وقد حملنا خالد الشيخ ذات مرة معه على إيقاع كمنجات تجرها نوق تحلق بأجنحة العصافير، وتارة أخرى على أحصنة تسابق الريح وغنى:
"ألا فاسمع ألا فاطرب لصوت الكمنجه
فليس من راح عنا راح عنا كمن جه
كمنجه يا نغم يسري في روحي
ألا هزي الوتر يغسل جروحي..."
ونجح خالد من خلال هذه الأغنية في توليف مزيج بديع ومقصود بالكلمات بين نغمات آلة الكمنجة ومسماها، وبين من راح ومن جاء، وأبدًا لن يتشابه من راح ومن جاء!!.
وفي سياق موسيقي آخر حلّق بنا خالد الشيخ على وقع آلة العود التي تعزف على أوتار الروح ومكامنها
"جروح قلبي وتر .. وينك ياعازف عود
اعزف نغم للبدر .. يمكن تراه يعود
ويشوف حال الذي .. من شوقه صاير عود... ".
ولم يكن خالد مجرد مطرب يؤدي الأغاني فحسب، بل أبدع كذلك في تقديم الجمل اللحنية الرائعة لنفسه ولغيره من الفنانين، فغنى من ألحانه أحمد الجميري، وإبراهيم حبيب، وعبد المجيد عبد الله، وعبدالله الرويشد، وعبادي الجوهر، ولطفي بوشناق، ومن السلطنة غنى له الفنان أحمد الحارثي.
ولأنه كان يعيش في شغف وبحث وعمل مستمر في تطوير ذائقة عُشاق الفن والشعر العربي فإنه أبدع في اختيار أبيات من مرثية مالك ابن الريب التي يروي فيها الشاعر أحداثا مرت به في حياته، ثم يرثي نفسه قبل الموت، فعبّر فيها عن أحلامه وأمنياته في لحظاته الأخيرة من الحياة التي كانت تتلخص في أن يعود ويسوق إبله إلى المرعى، حيث قال على سرير الموت:
"ألا ليتَ شِعــــري هل أبيتنَّ ليلةً
بجنب الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه
وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى
مزارٌ ولكنَّ الغضــــى ليس دانيا......."
ورغم صعوبة وخصوصية هذا النوع من الشعر إلا أن الفنان والموسيقار خالد الشيخ جعل هذا الشعر ينقاد لجمله الموسيقية الخلابة ولحّنه، وغنّاه وأغناه وسكب عليه من إحساسه ذات تجل راق ورائق.
إحباط
في إحدى اللقاءات وصف ابتعاده قائلا: “ليس اعتزالاً بالتحديد إنه انسحاب تدريجي، ومن المهم الإشارة إلى أني لا أنسحب بسبب وازع أو الشعور بالقيام بشيء محرم، فقط لأني أعيش حالة من الإحباط الشديد”!!.
" لأني أعيش حالة من الإحباط "!!!
كيف لهكذا جملة أن تخرج من موسيقار وفنان أطرب حين داعب بأصابعه الذهبية العود والكمنجة!! وزرع الوله حين غنى لنزار " عيناكِ " وغنى وأبدع لمحمود درويش، وعلي الشرقاوي، وأسجى ترانيم القصيبي لحنًا بديعًا ... مثل خالد الشيخ ينبغي أن يعود ليزرع الأمل والبهجة... ليبقى خالد الشيخ، ويستمر زمن الطرب الجميل.
