بيتر سينجر
بيتر سينجر
منوعات

بيتر سينجر فيلسوف الأفكار الجدالية (1-3)

27 يوليو 2021
27 يوليو 2021

دانيال جروس -

ترجمة: أحمد شافعي -

أصبح الفيلسوف الأسترالي بيتر سينجر نباتيًا في منتصف العشرينات من عمره، بعد أن حكى له زميل من خريجي أكسفورد وهما يتناولان غداء من الاسباجيتي عن قسوة مزارع الحيوانات. بعد سنوات قلائل، وتحديدًا في عام 1973، اقترح سنجر على مجلة نيويورك لعروض الكتب [The New York Review of Books] أن يكتب لهم مقالة بعنوان (تحرير الحيوان). فلم يكتف روبرت سلفرز ـ محرر المجلة العتيد ـ بنشرها، بل لقد أصبح هو الآخر نباتيا. وفي عام 1975، وسَّع سينجر مقالته إلى كتاب ترجم إلى عشرات اللغات وأسهم في الإلهام بحركة حقوق الحيوان الحديثة.

بيتر سنجر، البالغ من العمر أربعة وسبعين عامًا، مؤلف سبعة عشر كتابًا ومحرر أو مشارك في تحرير دزينتين أخريين من الكتب. كتب عن الميلاد والموت، وهيجل وماركس، والفلسفة السياسية والعولمة، ومواضيع أخرى كثيرة. (أصدر للتو طبعة حديثة من الجحش الذهبي لأبوليوس، وهي رواية رومانية من القرن الثاني الميلادي قال لي إن بالإمكان قراءتها قراءة "رواية مغامرات" موضحًا أن "الكاتب لديه تعاطف واضح مع الحيوانات"). يصف سنجر نفسه بالعواقبي consequentialist، أي المؤمن بوجوب الحكم على الأعمال وفقا لعواقبها. كان بيتر سنجر قد عبَّر في مقاله "المجاعة والوفرة والأخلاقية" سنة 1972 ثم في كتابه "الحياة التي يمكنك إنقاذها" سنة 2009 عن أفكاره حول التزامنا الأخلاقي بمساعدة مدقعي الفقر، وهي أفكار تأسيسية في حركة الإيثارية الفعالة التي تشجع شعوب الدول الثرية على تقديم تبرعات ضخمة للأعمال الخيرية الرامية إلى تحسين حياة أكثرية الناس. كما أثَّرت أفكاره تلك على حركة "عهد العطاء" التي أطلقها وارين بوفيت وبيل جيتس وميلندا جيتس.

اكتشف آخرون أعمال بيتر سنجر بسبب ما أثارته من جدل. ففي كتابه "أخلاقيات عملية" سنة 1979 ذهب إلى أحقية الآباء في إنهاء حياة الأطفال حديثي الولادة من ذوي الإعاقات الجسيمة. فأخذت المظاهرات ـ في العقود التالية ـ تقاطع محاضرات له أو تؤدي إلى إلغائها. في عام 1999 احتجت جماعة "لم نمت بعد" [Not Dead Yet] لحقوق المعوقين على تعيينه في جامعة برينستن التي لم يزل أستاذا يدرِّس فيها. وفي تلك السنة كتب عنه مايكل سبنسر مقالًا عميقًا في هذه المجلة [أي ذي نيويوركر] بعنوان "الفيلسوف الخطر". وفي يوم جمعة [من شهر ابريل] الماضي أطلق سينجر وزميلان له مجلة أكاديمية تحمل اسم "جريدة الأفكار المثيرة للجدل" [Journal of Controversial Ideas].

قضى سنجر العام الماضي في بيته بملبورن مع ريناتا، وهي زوجته منذ اثنين وخمسين عامًا. قال لي إنه يفتقد رؤية أبنائه ومعانقة أحفاده لكن "لعلي أنجزت من العمل أكثر مما كنت لأنجزه في عام طبيعي". كما مارس التزلج على الماء [وهي رياضة تعرف بالركمجة، والكلمة العربية مسكوكة من كلمتي "ركوب الموج" surfing]، وهي هواية اكتسبها منذ الخمسينات. في جلسات حواراتنا الثلاثة عبر الفيديو، كان يحدثني من غرفة مكتب بيضاء ممتلئة من الأرض إلى السقف بأرفف الكتب. وتم تحرير حوارنا مراعاةً للطول والوضوح.

***

* هل فكرت في معاني الوباء الفلسفية؟

ـ ثمة قضايا محددة تحظى باهتمامي. كيف ينبغي أن نوزع اللقاح؟ كيف نقرر ما إذا كان الحظر مبرَّرا؟ لو أن لدينا عجزًا في أسرَّة الرعاية الفائقة، وأجهزة التنفس الصناعي، فهل ينبغي أن نخصَّ بها الأصغر سنًّا، ممن يفترض أنهم سيعيشون أطول، أم المساوين لهم في الحاجة ممن لا ينتظر أن تطول حيواتهم كثيرا؟ أعتقد أن الوباء يشحذ، ويرغمنا على إجابة، الكثير من الأسئلة التي كانت كامنة -لا أقول إنه لم يكن يوجد قبل الوباء من يموتون من أمراض يمكن اتقاؤها، ومن كان بوسعنا مساعدتهم لكننا لم نفعل. لقد ترك الوباء علينا أثرًا كبيرًا، ولكنه لم يقتل من الناس مثل من يموتون في كل عام لأسباب متعلقة بالفقر أو لأسباب غير محتومة.

* فوجئت وأنا أستعرض كتبك بأنك كتبت عن الأوبئة سنة 2015 في كتابك "أقصى خير في أيديكم" [The Most Good You Can Do]، وفيه تتكلم عن خطر تفشي وباء كبير بسبب الطريقة التي نعامل بها الحيوانات.

ـ ثمة خطران يتعلقان بالصحة العامة في مزارع الحيوانات. الخطر الموثق جيدًا هو إيجاد بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية من خلال التغذية الروتينية بالمضادات الحيوانية في المزارع. لقد كانت الكتابة الوبائية أقرب إلى التكهن، لكن حينما حدث في عام 2009 أن أصابنا وباء إنفلونزا الخنازير، وكان يتعلق بمزرعة خنازير على نحو مباشر إلى حد كبير، بدأتُ أُكثر من الكلام في هذا الأمر.

حينما بدأت أفكر في معاملة الحيوانات وأصبحت نباتيًا، كان ذلك بسبب التخوف مما نفعله بالحيوانات. ثم جاء التغير المناخي. غير أن ذلك بدا في أول الأمر متعلقا بحرق الوقود الحفري، ليتبيَّن لاحقا أن إنتاج اللحم له دور كبير. وهكذا يظهر سبب إضافي لعدم أكل اللحم أو لأن يصبح المرء نباتيا. ومع الوباء بات لدينا سبب أساسي آخر.

* الأغلبية الكاسحة من التطعيمات "حجزتها" الدول الثرية، وهكذا فإن مئات ملايين الجرعات تتجه إلى الولايات المتحدة وأوروبا. لا أعرف إلى أي مدى يشغلك هذا وماذا يمكن عمله بشأنه.

ـ أعتقد أنه من العار أن تشتري البلاد الثرية التطعيمات، في حين أن حاجة بعضها إليها منخفضة نسبيًا، وهذا قول لا بد منه. لدينا حالات قليلة جدًا في أستراليا لكننا طلبنا أكثر من كفايتنا من التطعيمات لتطعيم جميع من في البلد.

* على من تقع مسؤولية التوزيع الأعدل؟

ـ ليست لدينا حكومة عالمية، نحن عالم مؤلف من دول ذوات سيادة، وهذه الحكومات ينبغي أن تتلاقى فيتوزع العبء بالتساوي بين الدول الموسرة، مثلما تلاقينا في اتفاقية باريس لنحاول توزيع عبء تقليل غازات الاحتباس الحراري بالتساوي. منظمة الصحة العالمية بالطبع تقترح مخططًا لتوزيع أعدل، وأعتقد أن الحكومة يجب أن توقع التزامًا بذلك.

يمكن أن تقوم شركات الأدوية بدور بالطبع في إتاحة بعض التطعيمات بسعر التكلفة أو بالسماح لبعض البلاد منخفضة الدخول بإنتاج نسخ غير خاضعة للملكية الفكرية [generics]. لكننا لا يجب أن ننتظر ذلك الإحسان من شركات الأدوية. فنظام براءات الاختراعات يكافئ الشركات على البيع للأثرياء ولا يكافئها على تقديم الأدوية لمن لا يملكون أثمانها. وقد تم اقتراح برنمج بديل معروف بـ"صندوق الأثر الصحي" [Health Impact Fund]، حيث يفترض أن تسهم الحكومات بتمويلات، يتم تخصيصها بحيث يقلل العقار من العبء العالمي للمرض. ثم يتم تحفيز شركات الأدوية على إنتاج تلك المنتجات الكفيلة بتقديم أقصى العون لشعوب العالم. ومن شأن هذا أن يكون نظامًا أكثر منطقية.

* كيف جاءت عائلتك أول ما جاءت للإقامة في أستراليا؟

ـ كان والداي الاثنان يعيشان في فيينا في ثلاثينات القرن التاسع عشر. كانا في قرابة الثلاثين من العمر حينما تقدم هتلر متجها إلى النمسا، وكانا يهوديين. أدركا بسرعة شديدة أنه لا مستقبل لهما في النمسا. فلم يكن لليهود أن يتملكوا أعمالًا في ظل القوانين النازية، وكانت أمي قد انتهت للتو من دراسة الطب. قال النازيون إنه ليس بوسع الأطباء اليهود إلا أن يعالجوا المرضى اليهود. لا أعتقد أنهما تصورا فعلا، في تلك المرحلة المبكرة، أنهما قد يتعرضان للقتل. لكن أبي كتب إلى أحد أعمامي في أمريكا قائلا: "هل يمكن أن تقدم رعاية لي ولزوجتي؟" فرد العم قائلا: "إنه ليسعدني أشد السعادة أن أرعاك. لكن الفرصة لم تسنح لي لسوء الحظ فأقابل زوجتك، لذلك لا يمكنني أن أرعاها". ومن الواضح أن تلك كانت لطمة قوية.

تذكَّرت أمي آنذاك أنها سبق أن قابلت رجلا أستراليًّا جاء إلى النمسا للتزلج، وتلقَّت دعوة لمرافقته وبعض الأصدقاء في إحدى الحانات على طرف فيينا. ثم بعث لها ببطاقة بريدية من أستراليا، شاكرًا لها الصحبة. فكَّرت أن تكتب إلى هذا الرجل. لم يكن يهوديا. كان كاثوليكيا من أصل أيرلندي، لكنه كان داعمًا للغاية وتحرك بسرعة لترتيب التأشيرات لأبي ولها. وهكذا جئنا إلى أستراليا. وقد ذهبنا وأنا طفل لزيارة الرجل الذي رعاهما، واسمه جيري دونوفان من مِلبورن.

أحد أجدادي الأربعة، وهو على التحديد، جدتي لأمي، يعد من الناجين من الهولوكوست. جاءت جدتي هذه إلى أستراليا عند مولدي تقريبا سنة 1946، وعاشت حتى سنة 1955، كانت قريبة منا للغاية. كان لنا أصدقاء يهود في ملبورن، ومنهم من كانت على أذرعهم أرقام معسكرات التعذيب موشومة. وكنت أسألهم عن معانيها.

* هل كان لتاريخ عائلتك أثر على رؤاك للأخلاق؟

ـ أثق في ذلك، ولو أنني لا يمكنني القول بأنني كنت واعيًا بذلك حقًا. العناصر التي كنت واعيا بها هي مقت العنصرية ومقت العنف. قرأت الكثير من تاريخ الفاشية القادمة في أوروبا، وكيف نشأت الهولوكوست وكيف جرى التخطيط لها. قال بعض الناس: "حسن، لو أنك واع بالمعاناة المادية المحضة الواقعة على عائلتك، فأسهل عليك أن تتعاطف مع معاناة تقع على الحيوانات غير البشرية". قال مثل ذلك إيزاك باشيفيس سنجر ـ وهو ليس قريبا لي ـ في قصة له على لسان شخصية تقول: "كل يوم في حياة الحيوانات هو تريبلينكا" [وتريبلينكا أحد معسكرات التعذيب النازية].

* في كتاب عن جدك لأمك "إبعاد الزمن" [Pushing Time Away]، تكتب أن من أسباب مقابلته جدتك أنه كان منجذبا إلى الرجال وأنها كانت منجذبة إلى النساء، وكانا يلتقيان لمناقشة ذلك. يبدو ذلك اكتشافا واقعيا.

ـ نعم، ذلك كان اكتشافا واقعيا. عرفته حينما حصلت على رسائل كتبها جدي إلى جدتي وجلبت إلى أستراليا. عثرت على تلك الرزمة الكاملة من الرسائل في شقة جدتي. كنت أقرأ بالألمانية، لكن ذلك الأسلوب القديم في الكتابة باليد كان مرهقًا للغاية في القراءة. ولمَّا تيسر لي من ينسخها، ذهلت ذهولا تاما. لم أكن أعرف أن الرابط الأصلي بينهما هو انجذاب كل منهما إلى جنسه.

* ما الذي دفعك إلى التوغل في ذلك كله، إلى حدِّ تأليف كتاب عنه في النهاية؟

ـ كنت في الأصل مهتما بمعرفة المزيد عن جدي؛ لأنه الشخص الوحيد في أسرتي الذي كان يمكنني أن أراه سلفا لي. كنت أعرف أنه كان عضوًا في حلقة فرويد المعروفة بحلقة الأربعاء، وأنه اشترك مع فرويد في كتابة بحث، ثم انخرط بعد ذلك مع أدولف أدلر Alfred Adler مؤسس علم النفس الفردي Individual Psychology. أردت أن أفهم: هل كان ثمة أي توازيات بين تفكيره وتفكيري؟ لكنني اكتشفت أشياء أخرى لم أكن أتوقعها.

* أحسست من الكتاب أنك كنت تتساءل عما إذا كان مهما أن تكتب عن تاريخ عائلتك.

ـ هذا صحيح. ولم يزل لديّ قليل من ذلك الإحساس. أيٌّ من أعمالي كان الأكثر نفعا؟ لن يكون "إبعاد الزمن". بل سيكون "تحرير الحيوان" أو "الحياة التي يمكنك إنقاذها". أعتقد أن كتاب "إبعاد الزمن" نافع لأبنائي وأحفادي، ولكن وفق أي منظور محايد لأنفع ما أنجزته، لن يكون هذا الكتاب إلا هوى شخصي.

* من أسباب انجذابي، في بداية الأمر، إلى أعمالك أنك تشجعني كفرد على أن آخذ في الحسبان جميع العواقب المستقبلية لما أفعله. أنت تدعونا في "تحرير الحيوان" إلى "تحمل مسؤولية حياتنا، وجعلها خالية من القسوة قدر استطاعتنا". وهذه الفكرة تظهر لاحقًا في أعمالك.

ـ أعتقد أن ذلك صحيح. يمكنك مقارنة الدولارات التي تنفقها على منتجات بوصفها تصويتا لصناعة تلك المنتجات أو للمنهج المتبع في إنتاجها. "تحرير الحيوان" في جوهره يقول "توقفوا عن أكل منتجات الحيوانات التي تجري معاملتها بقسوة. لستم بحاجة إلى ثورة اجتماعية ـ أو إلى الثورة الاجتماعية عسيرة التحقق، بل علينا أن نركز على أن يغير الأفراد سلوكياتهم". لعل لهذا شيئًا من الأثر على تفكيري وعلى السبب الذي يجعلني أفكر في التغيير الفردي.

* تقول: إن كتاب "تحرير الحيوان" ربما سيق إلى الطريقة التي أطّرت بها حججك حول الفقر العالمي، من حيث أنك كنت تركز المسؤولية على الفرد؟

ـ يحتمل أن تكون هناك استمرارية. حينما كنت طالبًا في أكسفورد، كانت هناك جماعة تحمل اسم "الفلسفة الراديكالية". كثير ممن كانت لهم علاقة بها تأثروا بالتراث الماركسي عموما، بمعنى أنهم كانوا يرون أننا بحاجة إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي والمجيء بشيء أفضل منه ليحل محله. بدأت أشعر أن الكلام أكثر مما ينبغي، وأنه في الحقيقة لا يترك أثرًا كبيرًا.

ما كان لأحد أن يعيش تلك الفترة ولا يرى الكثير من صور الأطفال الجياع، لا سيما في أزمة بيافرا [Biafra crisis]، حينما انهار جزء من نيجريا وحوصرت بقية نيجريا حصارًا حقيقيًا. كنا نعيش في أكسفورد، وهي مقر منظمة الغوث الدولية Oxfam أكسفام. بدا أنهم يحاولون القيام بأمور تتوافق مع مسارات العمل السليمة، فبدأنا ندعمهم.

رأى كثير من الناس أننا لسنا مضطرين إلى مساعدة الفقراء؛ لأننا لسنا مسؤولين عن فقرهم. يمكنك القول "نعم، نحن مسؤولون؛ لأننا منتفعون من نظام تجارة عالمية جائر" لكن هذا جدال معقد. حاولت أن أتجاوز ذلك بقولي "انظروا، لو صادفتم طفلا يغرق في بركة ضحلة، وأنتم قادرون على إنقاذ ذلك الطفل بتكلفة بسيطة نسبيا، لكنكم قررتم ألا تفعلوا ذلك لئلا توسخوا ثيابكم، فذلك أمر مريع". لكن في هذه الحالة، إذا قبلت ذلك، فإنك تقبل أن علينا مسؤوليات تجاه المحتاجين.

* يبدو أنك على سبيل الممارسة متشكك في أفكار ماركس. لماذا كتبت كتابًا عن ماركس؟

ـ دُعيت إلى تأليف كتاب في سلسلة أكسفورد. كنت قد درست ماركس في المرحلة الجامعية، وكانت هناك تلك الرؤية لبواكير ماركس، والقائمة بصفة عامة على بعض الكتابات غير المنشورة، وكلها كانت عن الاغتراب، وعن قطيعة حاسمة حدثت قرابة سنة 1848، ففي البداية كان لدينا ماركس ذو الفلسفة الهيجلية، ثم صار لدينا ماركس العلمي المختلف، ولم يكن ثمة رابط كبير بين الاثنين. في دراستي لهذا، توصلت إلى قناعة بأنه رأي خاطئ، فقد كان ثمة اتصال، وبالإمكان فهم ما كان عليه ماركس في كتاباته الأخيرة بالنظر إلى كتاباته المبكرة، وإن ذلك أيضا يوضح بعض العيوب في فكر ماركس. فكرة أن التاريخ يدفع إلى هدفه، حيث تذوب جميع التناقضات، جاءت مباشرة من هيجل. أعتقد أن ثمة أفكارًا نقديةً مثيرةً لما يجري في المجتمعات الرأسمالية، لكنه في الحقيقة يرى أن الثورة محتومة. أعتقد أن ذلك كان خطأً واضحًا.

* يبدو أنه أحد أحدث كتبك "التعليمية" المعنية بكيف يمكن أن يعيش المرء.

ـ هذا صحيح. أعتقد أنه من الطرق التي لا ينبغي أن نعيش بها. وذلك لم يزل مهما؛ لأنني كثيرًا جدًا ما أتكلم عن الفقر العالمي، فيقف من يقول لي "حسن، أليست المشكلة الحقيقية هي الرأسمالية؟ وألا يجب علينا أن نبذل ما في وسعنا لنطيح بالرأسمالية؟"

* يبدو لي أن الحركة التي نشأت حول أعمالك الفلسفية انتهت إلى تناغم كبير للغاية مع الرأسمالية، بمعنى أن بعض ممارسيهما هم ممن يجنون الكثير من المال ـ بعضهم مليارديرات قرروا التخلي عن المال الذي تراكم لديهم. هل كان ذلك شيئًا توقعته، أن تندمج الرأسمالية في عملك الفلسفي؟

ـ لا أعتقد أن الرأسمالية مندمجة في عملي الفلسفي. أعتقد أن عملي الفلسفي محايد حيال الأفضل في النظم الاقتصادية، لكنه عملي، ونحن مرتبطون بالرأسمالية خلال المستقبل المنظور. سيستمر ظهور المليارديرات، وخير لنا أن يكونوا من أمثال بيل جيتس وميليندا جيتس أو وارين بوفيت، ممن يتخلون عن ثرواتهم طوعا وبطرق شديدة التأثير، من أن يكون لدينا مليارديرات يتخذون لأنفسهم يخوتا أضخم وأضخم.

* هل يعني ذلك أنك غير مهتم بمسألة ما إذا كان ينبغي وجود مليارديرات من عدمه؟

ـ رأيي أن الأفضل هو أن يكون لدينا نظام اقتصادي ليس فيه مليارديرات، على أن تبقى فيه الإنتاجية التي أحدثها المليارديرات، وعلى أن يتم توزيع تلك النقود بمزيد من التساوي. لكن في الحقيقة لم يوجد نظام فيه من عدالة التوزيع والإنتاجية مثل ما في الرأسمالية. ولا أرى أن ذلك سوف يحدث في القريب. لو بدأ بلد واحد في فرض ضرائب على المليارديرات بحيث لا يظهر المزيد من المليارديرات، فإن هؤلاء المليارديرات سوف يذهبون إلى بلاد أخرى يمكنهم فيها أن يبقوا مليارديرات.

* ثمة شيء أدهشني في "الحياة التي يمكنك إنقاذها" وهو أنك تناصر الرواتب شديدة الارتفاع للرؤساء التنفيذيين، وتكتب أيضا أن التفاوت [في الدخول] ليس مشكلة إلا إذا أدى إلى علاقات قاهرة، أي أن التفاوت في ذاته ليس خطأ.

ـ أعتقد أن مغزاي في هذا هو ببساطة أنه منطقي للشركات التي تقوم بأنشطة بقيمة مليارات الدولارات أن تدفع رواتب بعشرات ملايين الدولارات لتوظيف أشخاص قادرين على تحقيق هذا المستوى من الربح. هذا منطقي تمامًا. ولا أعتقد أننا يجب أن نندهش من طريقتهم القائمة حاليًا.

لو أنك سألتني "هل يكون نظامًا أفضل ذلك الذي لا يوجد فيه رئيس تنفيذي يكسب خمسين مليون دولار؟" فالإجابة هي نعم، سيكون هذا أفضل أخلاقيا. لكنني أرى الصعوبات في تحول حقيقي، وليس فقط في ثقافة، بل ربما في مراجعة بعض جوانب الطبيعة الإنسانية التي رسختها الثقافة فبات الناس يرونها طبيعية. وليس تغيير ذلك بالأمر اليسير.

* والجانب المعني في الثقافة هو في هذه الحالة المصلحة الشخصية؟

ـ نعم، والإيمان بتنافسية السوق، في ما أتصور. وتقدير القيمة في ضوء ما تحققه من مكسب، لا في ضوء ما تثمره من نفع اجتماعي. لكن ثمة الكثير من الكتب التي أشارت إلى هذا وقالت: إن "هذا غير جيد، ويجب أن نغيره". لكن لا يبدو أن لتأليف الكتب في هذا الموضوع أثرًا قادرًا على البقاء. أعتقد أنني بت أرى أن الأرجح تحقيقا للمنفعة هو تشجيع الناس ـ أعني الأثرياء ـ على التبرع بخمسين في المائة من دخلهم، أو جميع النسب المئوية المتغيرة والمختلفة التي أتكلم عنها في "الحياة التي يمكنك إنقاذها".

يتبع

المحاور كاتب ومنتج إذاعي في نيويورك

نشر الحوار في ذي نيويوركر بتاريخ 25 أبريل 2021