وللأوطان في دم كلّ حرٍّ .. يدٌ سلفتْ ودَين مستحقُّ
حامد بن سلطان البوسعيدي -
استوقفني هذا البيت من قصيدة ثمن الحرية لأمير الشعراء التي كتبها عام 1926 ميلادي، عندما قصف الفرنسيون دمشق وخلّفوا فيها دمارًا واسعًا، وشعرت بأن هناك معاني كثيرة في هذا البيت أعمق من أن يقتصر فهمها فقط على الذود عن حياض الوطن والتضحية بالنفس لتطهيره من معتدٍ غاشمٍ خارجي، وإنما تمتد كذلك لوجوب الدفاع عن الوطن من الداخل في كل زمان ومكان، فللوطن حق على أبنائه في التضحية من أجله بالغالي والنفيس، وألّا يتخلوا عنه في أوقات المحن وأن يقفوا إلى جانبه في الشدائد بكل ما لديهم من إمكانيات مادية أو معنوية وعدم البخل عليه بالجهد أو المال للحفاظ على مكتسباته واستدامة منجزاته.
إن وطننا الغالي يمر بأوقات عصيبة، لم يسبق لها مثيل وكلنا يعلم ذلك. فالأوضاع الاقتصادية التي نعيشها الآن، تستدعي منا جميعًا دون استثناء مراجعة الكثير من المواقف والمفاهيم التي ترسخت لدينا عن علاقتنا بالوطن والمواطنة، ومعنى الانتماء والولاء ومفهوم التضحية، ولا ينكر منصف النعم الكثيرة التي غمرتنا نحن أبناء عمان بجميع أطيافنا ومستوياتنا الاجتماعية طوال الخمسين عامًا الماضية، ورفعت مستوى المعيشة والرفاهية لدينا، وحققت الثراء لشريحة عريضة من المجتمع، ووفرت خدمات عديدة بجودة عالية كالتعليم والصحة والمسكن بدون مقابل يذكر، استفاد منها الجميع دون تمييز، مما يستوجب علينا جميعًا أن نرد الجميل له، بعد أن غرفنا من خيراته وتنعّمنا من ثرواته طوال الخمسين عامًا الماضية، منذ بزوغ فجر النهضة المباركة وحتى يومنا هذا.
لم تبخل الدولة على مواطنيها، بل وفرت لهم أكثر مما تستطيع، وتحمّلت طوال السنوات الماضية، عبء دعم السلع الأساسية والوقود والكهرباء والمياه ولم تفرض على المواطن أي نوع من الضرائب حتى تكالبت الخطوب في الآونة الأخيرة، وتضافرت أزمة تدني أسعار النفط مع جائحة كورونا، وأصبحت موارد الدولة عاجزة عن تلبية بنود الإنفاق المتزايدة، واضطرت الحكومة للجوء للاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية هذا النقص، مما أثر على التصنيف الائتماني للسلطنة ورفع سعر الاقتراض، ولم يكن هناك حل لوقف هذا العجز المتفاقم، إلا بحزمة من الإجراءات القاسية، بتخفيض الإنفاق وترشيد الدعم وفرض الضرائب، وتخفيض الرواتب وبعض الامتيازات واسميها «حزمة ربط البطون».
حزمة الإجراءات هذه، لم تمل علينا من الخارج، ولم تفرض علينا من جهات تمويل دولية، وإنما هي عصارة جهد اقتصاديين عمانيين، من تخصصات مختلفة وذوي مؤهلات رفيعة، يدركون حجم تأثيرها على أنفسهم قبل أن تكون على غيرهم وهي مرحلة مؤقتة قد تكون قاسية في بادئ الأمر، لكنها إحدى خطوات الإصلاح التي لا بد منها لتصحيح المسار وتعافي الوضع الاقتصادي لبلدنا.
هذه الإجراءات أوجدت حالة من الامتعاض لدى البعض، وهذا شيء طبيعي وأتفهمه، فلا أحد يسعد بتخفيض دخله أو تقليل رفاهيته، ولكن هذا الوطن أعطانا الكثير ولم يبخل علينا بشيء في وقت الرخاء، وجميعنا نالنا من هذا الخير جانبًا قلّ أو كثر، فهل إذا تعرض الوطن لضائقة نتركه يواجهها وحيدًا عاري اليدين، أم نقف معه حتى تمر المحنة ويجتاز الأزمة، وصدق الشاعر حين قال.. بلادي وإن جارت علي عزيزة... وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام.
فنحن جميعا في مركب الوطن نستظل بخيمته وننعم بعزه ومنعته، ولا بد أن نتقاسم أعباء المرحلة كل حسب قدرته، وخصوصًا الشريحة التي استفادت من ثمار النهضة أكثر من غيرها، عليها رد الجميل الآن دون تلكؤ وبسخاء ومساعدة الفئات التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية، والتخفيف عن كاهل الدولة بتعظيم دور المسؤولية المجتمعية، وخدمة المجتمع.
إذا كنا جادين في سداد الدين لعمان، وجب علينا أن نمتن اللحمة الوطنية ونستعيد روح التعاون والتكاتف والوحدة التي طالما ميّزتنا نحن العمانيين على مدار التاريخ ونرد ولو شيئا بسيطا من الجميل، وعلى كل واحد منا قدر استطاعته أن يشمّر عن ساعديه وأن لا يلتفت إلى الشائعات والانقياد وراء التغريدات المغرضة، والعمل على مضاعفة الجهد والعمل بكل تفانٍ وإخلاصٍ، ووقف الهدر وتعظيم الموارد المتاحة، ومكافحة الفساد وتغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية، مع الإسراع في تطبيق مبادئ وركائز الحوكمة بكل صرامة في كافة القطاعات، فهي حجر الزاوية للمرحلة القادمة من مستقبل عمان، والدفع بالدماء الشابة القادرة على التغيير والإبداع وتمكينها من الإنتاج والعمل.
علينا جميعا حكومة وشعبًا الوقوف بكل ثقة، صفًا واحدًا خلف ولي أمرنا وقائدنا جلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - وسدد على طريق الخير خطاه، مؤسس رؤية عمان، والإيمان التام بقدرته على تجاوز المحنة والعبور بنا لبر الأمان وأن نسانده في تحقيق أهداف واستراتيجيات الرؤية التي تضع تحقيق الحياة الآمنة الكريمة للمواطن العماني في المقام الأول.
