أفكار وآراء

صور نمطية لا تزال عالقة!

22 ديسمبر 2019
22 ديسمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

يمكن استهلال هذه المناقشة اليوم بطرح التساؤل التالي: إلى أي تحد تسهم الصور النمطية في تجميد الفكر الإنساني، وما السبيل إلى التحرر من عوالقها الفكرية المعيقة لحركة الحياة؟.

إن الحورات القائمة بين الأجيال؛ كما نرى ونسمع؛ تعيقها كثيرا مجموعة المسلمات التي تنتصر إلى تكريس الصور النمطية في الحياة، ولأنها أصبحت مسلمات، استوطنها الفكر الإنساني في مخيلته الجمعية، وأصبح في المقابل الإيمان بأهميتها وضرورياتها مطلقا، وقد يصل التقييم في أنها لا يجوز الحديث فيها، أو نقضها بتفاعلات الواقع، وما ينتج عنه من ميلاد صور حديثة معبرة عن عصرها، وعن حقيقة الحياة اليومية لدى أفرادها.

كم هائل من حالات التنميط تعيشها الشعوب على اختلاف مشاربها، من جانب تعزز ثقافتها، ومن جانب تكرس فيها مجموعة من الثوابت الاجتماعية التي تؤمن بها، ومن جانب ثالث؛ قد تمارس عليها مجموعة من العوائق التي تقلص تعاطيها مع الآخر، حيث تتكور على خاصيتها الاجتماعية، وقناعاتها الفردية والجماعية، ولا تسمح أبدا باقتراب ما يزلزل شيئا من ذلك كله، حيث طغت عليها ثقافة المسلمات التي لا تقبل النقاش حولها، وإن اتيحت فرصة لهذا النقاش فإنه سيكون على استحياء، وقد لا يقبل بما يسفر عنه من نتائج، والملمح المهم في هذه الناحية؛ أن مجموعة العوامل المتدافعة نحو خلخلة الوعي الـ «متأزم» لم تؤت ثمارها لتغيير بوصلة الاتجاه نحو إرباك القناعات المتأصلة بضرورة بقاء الصور النمطية في المجتمع، ولذلك تكرر المجتمعات أساليبها في الحياة، وسلوكياتها في التعاطي مع الآخر، وقد تصل أنها لا تقبل المنجز الحضاري المتحقق، إلا ما يتواءم مع هذه الصورة المتكررة والمعززة لثقافة المجتمع المتوارثة.

ولذلك فالصور النمطية حالة ثقافية بامتياز، والخروج من استحكاماتها يحتاج إلى وعي عميق، وهذا الوعي قد يستغرق أجيالا متتالية تنعتق من قناعات من كان قبلها شيئا فشيئا، حتى تتخلص من هذه التركة الثقيلة على «حمولة» المنجز الاجتماعي الذي ينظر إليه بكثير من الاهتمام، وهناك من يعلل أن تجذر الصور النمطية مرده فقدان البديل، ولكن هذا الأمر غير واقعي إطلاقا، فالحياة بطبيعتها متجددة، ومتقبلة، وما كان قبل نيف من الزمان مقبولا، اصبح منبوذا، وما كان متخوفا منه، أصبح في حكم العادي لايثير تلك الرهبة، ولا يرتجى من بعده خوف، فقناعات البشر أيضا متغيرة، ومتقلبة، ولا يوجد في الحياة ثبات مطلق، وإنما هناك حالة نسبية تتداخل في كل مجريات الحياة اليومية، فتعدل من هذا، وترفع من آخر، وتنزل من ثالث، وهكذا تتلبس حيوات الناس صورة ديناميكية غير قابلة للثبات.

دعونا نتخذ مقطعا جانبيا من حياتنا اليومية، لزمن لا يتجاوز الـ (30) عاما على سبيل المثال، ولنأتي بالمرأة؛ مثالا للصورة النمطية في ذاكرة المجتمع، فما هي مجموعة التغيرات التي حدثت على هذا الإنسان الذي يشارك الرجل كل تفاصيل حياته اليومية بلا استثناء، إلا الصفات البيولوجية النوعية بين الذكر والأنثى، فماذا نجد؟

لن نجد شيئا منجزا في حق المرأة يستحق الذكر، فلا تزال المرأة - وفق هذه الصورة النمطية - كائنا ضعيفا، تتخلل نفسه مجموعة من النواقص، هي للمتعة أقرب منها، للكائن البشري القادر على العطاء والمنافسة، لا تزال تعيش في خندقها الـ «جندري» وهذه الصورة متكررة في كل المجتمعات حديثها وقديمها، لا فرق، ولو جئنا إلى مثال انتهاكات حقوق الإنسان في مجال الطفولة، وفي مجال الشعوب الفقيرة، وفي مجال القوى الاستعمارية، لا تزال الصورة نفسها تراوح مكانها بكثير من التسلط، ومن الهيمنة، ومن الاستقواء، ومن الغطرسة، ومن الخداع، ومن استغلال النفوذ، ومن المؤامرات، ولو جئنا إلى الإنسان الفرد في محيطه الصغير «مؤسسة إدارية» أو «مؤسسة اجتماعية» نجد الحالة تعيد إنتاج نفسها في كل الممارسات غير المقبولة، وعلى الرغم من مجموعة القوانين والتشريعات التي وجدت للحد من هذه الممارسات اللا أخلاقية طوعت هذه التشريعات، أو تم التحايل عليها، أو تعديلها، أو إلغائها بالمجمل، كل ذلك لتبقى نفس الممارسات، ونفس السلوكيات، وكأن شيئا لم يكن، وكأن الحياة لا تزال تدور في فلكها منذ نشأتها الأولى، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.

يقول المفكر التونسي الدكتور منصف المرزوقي، في كتابه (من الخراب إلى التأسيس): «إن أكبر معوقات تقدم الإنسانية أنها لا تتعظ من التأريخ ومن كل التجارب التي تمر بها فمحكوم على كل جيل أن يعيد أخطاء من سبقه من الأجيال مثلما هو محكوم على كل دكتاتور أن يعيد نفس الاخطاء لكل الطغاة، وأن يرتطم بنفس الفشل» - انتهى النص -.

قد يعيد البعض أن مرد ذلك إلى الرموز في الثقافة الاجتماعية التقليدية، فهي التي تكرس أكثر مفهوم النمطية، ولا تعطي للأجيال فرصة التحرر من قبضتها الحديدية، وهذه الرموز نجدها في مجموعة القدوات التي تزخر بها المجتمعات، وخاصة التقليدية منها، حيث ينظر إلى الرموز بشيء من التقدير، فالأب رمز الأسرة، وصاحب الوجاهة رمز في مجموعته القبلية، وصاحب السلطة رمز في بيئة سلطته الإدارية، وبالتالي فمن يأتي في التسلسل بعد الرمز، لا يذهب كثيرا عن سلوكيات رمزيته، إما لمنافع خاصة يرتجيها، أو لتقديره أن بقاء الصورة في تكرار ذاتها هي الأسلم إلى حد ما، وهذا بدوره ما يذهب إلى تفسير «مقاومة التغيير» لكل شيء يرى انه جديد؛ في حالة أن هناك من يحاول أن يخرج على القاعدة؛ ويمكن أن يقلب موازين القناعات المتأصلة، مع أن ديدن الحياة هو التغير والتبدل، والنمو، ولكن لأن هناك منافع جمة من بقاء الحالة على تكرار نمطيتها المعتادة، فيبقى الرضا على الصورة النمطية هو الأسلم، وكثيرا ما يقلق «صاحب المصلحة الخاصة» في التسلسل الهرمي في أية سلطة، هو التحول من حالة النمطية إلى حالة الإبداع، لأن في الأولى إراحة للفكر والمسؤولية، ففي ذلك إراحة من التزامات الفكر التحرري، أو من التزامات جديدة من شأنها أن تضيف أعباء أخرى للواقع الذي يعيشه، وفي الثانية إرباك لحالة السكون القائمة، ولذلك تفقد الشعوب أهم استحقاقاتها من النمو والتطور، والارتقاء إلى مصاف الأمم؛ التي قد ينظر إليها على أنها متقدمة، ويمكن أن يلحق بهذه الصورة أيضا مجموعة الجذور التأريخية للنمطية- من أمثال المذاهب الدينية، والعقائد السياسية، والأعراق، والأجناس، والألوان، والنوع؛ كما ذكرنا في حالته الجندرية؛ إلى تكريس العنصرية، وهذه قضية جوهرية، عندما تظل الصورة ذاتها مع توالي الأزمان والدهور، دون أن تغير مجريات الحياة وتقلباتها هذه الفكرة من ذاكرة الأجيال، بل ترى فيها الرمز والدلالة، والخروج من محن الحياة الكثيرة.

هناك من يعلل؛ أن سبب الصدام الحاصل بين الأجيال مرده الصور النمطية المتأصلة لديها، وهذا تقييم متوافق مع الواقع، وهو ذاته ما يطلق عليه «صراع الحضارات» لا فرق، ولكن الخطورة أكثر عندما يتبنى الجيل الصغير الصور النمطية، ويراها بديلا مريحا عن معانقة حالات الجد والاجتهاد، لأن التحرر من الحالة النمطية يقتضي الجهد، والعمل الشاق المضني، وهذه معضلة اجتماعية وثقافية في آن واحد، فهناك صراع قائم ما بين الإبداع والنمطية، وهو صراع أزلي، فعندما ينتصر الإبداع فإن النمطية تلبس كفنها حيث النهايات، وعندما تزدهر النمطية يكون العكس أيضا، والحياة في كل مراحلها تعيش هذا الصراع، ولا تخشاه، وتعده نمطا حيويا مقدرا لا غنى عنه.

أختم هنا؛ بالقول: اليوم، وبفعل وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة يزداد تكريس مجموعة الصور النمطية، عن الأشخاص، وعن المجموعات البشرية، وعن الدول، حيث تثار حولها مجموعة من السلوكيات السلبية، ومن الممارسات الخاطئة، ومن التطاول على حقيقة الواقع، حيث يعيد كل ذلك صورة الإنسان الأولى المتسلح بشريعة الغاب، وبالتالي فتراكم الصور النمطية لها تأثيرات سلبية على حركة الناس وواقعهم، وسلوكياتهم، وحتى على قراراتهم، وهذه مسألة خطيرة جدا على الأجيال الناشئة، والبقاء على الحال ذاتها يربك القناعات، ولا يتيح فرصة للمفاضلة بين الحسن والسيئ.