أفكار وآراء

الإعلام والحوكمة ومقتضيات التنمية المستدامة

02 ديسمبر 2018
02 ديسمبر 2018

أ.د. حسني نصر -

لم تعد الصحافة الحرة ترفا يجب أن يتمتع به فقط مواطنو الدول المتقدمة، بل أصبحت هي التنمية في جوهرها، لأنه إذا كنت لا تستطيع منح المواطنين حقوقهم، وإذا لم يكن لديهم الحق في التعبير، وإذا لم يكن هناك من يسلط الضوء على الممارسات غير المنصفة، ويكشف الفساد، لا يمكنك بناء الإجماع العام اللازم لإحداث التنمية والحفاظ على مكتسباتها.

من هذا المنطلق ينبغي على الدول المختلفة التعامل مع حرية وسائل الإعلام وعدم وضع أية عراقيل أمام إقرار هذه الحرية والحفاظ عليها، ليس فقط لأنها حق من حقوق الإنسان يجب ضمانه، ولكن لأن هذه الحرية هي الضمانة الفعلية للتنمية المستدامة وحماية ما تم إنجازه على مدى سنوات من النهضة والتطور.

لقد تأكد للدول المتقدمة وكذلك للدول التي سارت في طريق النمو وقطعت شوطا كبيرا فيه أن قطاع الإعلام يقوم بعدد كبير من الأدوار التي لا غني عنها ، مثل تزويد الحكام والمحكومين بالمعلومات والأخبار الصحيحة، وتسهيل ودعم الحوار والنقاش العام حول مختلف قضايا العمل الوطني، وأحيانا وضع أجندة وأولويات هذا الحوار. ولعل من أهم الأدوار التي يقوم بها الإعلام هو إخضاع جميع مؤسسات المجتمع الحكومية وغير الحكومية للمحاسبة عبر آليات القيام بوظيفته الأساسية يستهدف حماية مصالح المجتمع كله. وإجمالا فإن وجود وازدهار وسائل الإعلام الحرة والمستقلة أصبح عاملا رئيسيا في تحقيق الحكم مفهوم الحكم الرشيد.

إن فهم وتقدير الدور الكبير الذي يقوم به الإعلام في مجتمعاتنا النامية، ومن ثم تحول هذا الفهم إلى سياسات داعمة لحرية وسائل الإعلام وتعدديتها، يقتضي التفرقة بين مفهومين أساسيين يحدث الخلط كثيرا بينهما، وهما مفهوم تنمية وسائل الإعلام أو التنمية الإعلامية، وبين مفهوم الإعلام التنموي الذي يعني استخدام وسائل الإعلام في التنمية. فالمفهوم الأخير ينظر إلى وسائل الإعلام كوسائل لتحقيق أهداف التنمية، بينما يعنى المفهوم الأول تنمية وتقوية وسائل الإعلام نفسها كهدف نهائي.

في ضوء ذلك يمكن القول إن الممارسات الوطنية في العالم النامي ركزت بشكل كبير على المفهوم الخاص بالإعلام التنموي أي جعل وسائل الإعلام قاطرة من قاطرات التنمية، بينما تجاهلت أو كادت إلى حد كبير تنمية الإعلام نفسه وفي القلب من هذه التنمية إقرار حرية وسائل الإعلام والإعلاميين وضمان استقلالها وتعددها. لهذا السبب حققت دول عديدة معدلات تنمية عالية في مختلف المجالات فيما بقيت وسائل إعلامها على صعيدي الحرية والتعددية والاستقلالية مثلما كانت عليه مع انطلاق برامج التنمية وخطط التطوير . صحيح أن هذه الدول وفرت لوسائل الإعلام الوطنية إلى حد كبير وأحيانا إلى حد مبالغ فيه الإمكانات التكنولوجية والمادية والبشرية التي ساهمت في زيادة عددها ونموها واستمرارها، إلا أنها لم تضف إلى هذه الوسائل الكثير على مستوى الحرية والاستقلالية والتعددية. ولذلك ظل الإعلام الوطني ، في تلك الدول ، هو إعلام الصوت الواحد الناطق بلسان الحكومات وليس الشعوب.

لقد مضى الوقت الذي كان من الممكن فيه التضحية بحرية الإعلام بزعم حماية مكتسبات التنمية الوطنية، خاصة وأن كل التجارب العالمية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن وجود هذه الحرية أكثر فائدة للمجتمعات النامية من غيابها، وذلك على أكثر من صعيد.

إن الإعلام الحر والمتعدد والمستقل والمستدام والقوى في المجتمع يعد حجر الزاوية في قيام واستمرار الحكم الرشيد وحماية مكتسبات التنمية على المدي الطويل. وفي هذا الإطار يمكن لوسائل الإعلام أن تعمل كمؤشر للسياسات الحكومية، ومنصة لمشاركة المواطنين في مناقشة هذه السياسات وتقويمها، كما يمكن أن تكون بمثابة مجلس بلدي أو وطني يتم من خلاله مساءلة الحكومات، وحصن ضد إساءة استخدام السلطة. والحقيقة المؤكدة في عالم اليوم أنه بدون وسائل الإعلام، يصبح من الصعب على المواطنين إثارة ومناقشة قضايا التنمية التي تؤثر على حياتهم. وبوجه عام فإن وسائل الإعلام لديها القدرة على المساهمة في خلق مواطن مستنير ومسلّح بالمعرفة والمعلومات، بالإضافة إلى جعل الحكومة فعالة وسريعة الاستجابة.

على صعيد ثان، فإن الإعلام القوي والمستقل يشجع على الشفافية والمساءلة، وهما عنصران أساسيان للحوكمة والحكم الرشيد. نعم هناك طرق أخرى يمكن من خلالها أن تحقق المجتمعات الشفافية والمساءلة، إلا أن القليل منها يمكن أن يجعل هذه المساءلة عامة وشعبية ومباشرة مثلما تفعل وسائل الإعلام الحرة. ولا يقتصر دور وسائل الإعلام في هذا المجال على التعبير عن آراء المواطنين، ولكن أيضا دفع مؤسسات المجتمع المختلفة إلى الكشف عن خططها ومشروعاتها، والخضوع للفحص الشعبي والمساءلة.

على صعيد ثالث، فإن الإعلام القوي والمستقل من شأنه أن يعمل على استكمال وتعزيز أهداف الحوكمة الجيدة الأخرى. إذ يمكن أن يؤدي تطوير قطاع إعلام قوي مستقل تحريريًا إلى تعزيز مجموعة من أهداف الحوكمة الأخرى. وعلى سبيل المثال، يمكن لقطاع الإعلام التعددي والمستقل أن يكمل برامج مكافحة الفساد من خلال المساعدة في تحديد الأولويات، وكشف حالات الفساد، وشرح أهمية وضرورة أن يكون المجتمع خال من الفساد. كما يمكن أن تساعد وسائل الإعلام الحكومة على أن تصبح أكثر فاعلية واستجابة في التعامل مع وقائع الفساد، إلى جانب رسم صورة واضحة لاحتياجات المواطنين ورغباتهم. والواقع أن دور وسائل الإعلام الحرة في هذا المجال يمكن أن يمتد إلى تعزيز ثقافة الشفافية على جميع مستويات المجتمع، من خلال تسليط الضوء على ممارسات الحكومات المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، إلى جانب المساهمة بقوة في تشكيل مواطنين مطلعين يطالبون مؤسساتهم بتطبيق قواعد الحكم الرشيد.

إن على مجتمعات العالم النامي وعلى رأسها المجتمعات العربية، التي وظفت وسائل الإعلام لفترات طويلة لدعم وتعزيز خطط التنمية الوطنية، أن تبدأ دون تأخير في طرح الأسئلة الجديدة التي تفرضها البيئة الإعلامية الدولية الحالية وتفرضها مقتضيات تحقيق الحكومة والحكم الرشيد، حول تنمية وسائل الإعلام نفسها على مستوى الكيف وليس على مستوى الكم فقط. ولعل من أهم هذه الأسئلة: هل تتمتع الدولة بنظام إعلامي حر ومستقل ومتعدد يضمن التدفق الحر للمعلومات والأفكار؟ وما مردود حضور أو غياب هذا النظام على كفاءة الأداء الحكومي ؟ وهل تُخضع وسائل الإعلام الحكومة ومؤسسات المجتمع للمساءلة على أفعالها، وهل أدي ذلك إلى زيادة الشفافية الحكومية أو زيادة الوعي الشعبي بأهمية المساءلة؟

أن الإجابة الأمينة عن هذه الأسئلة وغيرها ربما تفتح الباب واسعا أمام الدول النامية لإعادة بناء أنظمتها الإعلامية، بما يتوافق مع الاتجاهات الإعلامية العالمية الجديدة. التي لم تعد تنظر إلى وسائل الإعلام كمفعول به فقط ، ولكن تنظر إليها كفاعل مهم في تحقيق الحكم الرشيد أيضا.