الصحة النفسية بين ثنائية الالتزام الديني والعلاج المتخصص
تبرز الاستقامة والالتزام الديني باعتبارهما مصدرا للسكينة والتوازن الداخلي، ومع تزايد الضغوط الحياتية، التي تؤثر على الصحة النفسية تطرح تساؤلات حول دورهما في تعزيز الطمأنينة، والحدود التي تستدعي تدخلا طبيا متخصصا، وفي هذا الاستطلاع، نستعرض آراء أكاديميين ومتخصصين حول الكيفية التي يمكن أن يشكّل بها الالتزام الديني والعلاج منظومة متكاملة لدعم الصحة النفسية.
قال ناصر بن محمد الهاشمي إمام وخطيب بمسجد سوق الإمام بولاية الكامل والوافي: إن الالتزام الديني وحده لا يكفي لتحقيق السلام النفسي، وإن كان يعزز الطمأنينة، فالتعامل مع الأمراض النفسية يحتاج إلى مراعاة ظروف المصاب، ثم توجيهه نحو تغيير نمط حياته وسلوكه مع الاستعانة بالأطباء المختصين. مشيرا إلى أن الربط بين المرض النفسي وضعف الإيمان غير دقيق، إلا أنه قد يكون عاملًا من بين عوامل عدة، ولكنه ليس السبب الوحيد، مشددا على أهمية دور وعي المجتمع بالصحة النفسية، ودور الأئمة والمعلمين في احتواء الحالات النفسية وجعلها فاعلة بدلًا من أن تكون عبئًا.
وأضاف الهاشمي أن الالتزام الديني يؤثر بعمق على الاستقرار النفسي، لكنه مشروط بأن يكون التزاما جوهريا وليس مجرد مظاهر خارجية، كما أن الخطب والدروس الدينية يجب أن تلامس الواقع الاجتماعي للناس حتى يكون لها أثر بالغ في تهدئة النفوس ومعالجة القلق، مع مراعاة التوازن في الطرح.
وأوضح أن العودة إلى الدين في أوقات الأزمات النفسية أمر طبيعي جدا، موضحا أن الإنسان عندما تتقطع به السبل يبحث عن قوة مطلقة يستند إليها، وهذه القوة تتجسد في الدين والإيمان، وأضاف عند ملاحظة مثل هذه الحالات في المسجد يجب على الإمام الموازنة بين النصح الديني ودعم الأفراد نفسيًا من خلال إعطاء المتضرر نصائح تبعث التفاؤل وتبعده عن التشاؤم، مع توجيهه في الوقت نفسه إلى المختصين في مجال الطب النفسي للاستفادة من خبراتهم العلمية.
وأكد ناصر الهاشمي على ضرورة مراعاة جميع الجوانب في الطرح والأسلوب والواقعية أثناء النصح، مبينا أن الأخطاء واردة من كل فرد، وأن التصحيح والرجوع إلى الحق أمر ممكن وهذا ما يدعو إليه الدين والشرع.
الشعائر والاتزان
من جانبه، قال الدكتور سعيد بن سليمان الوائلي، أستاذ مساعد بقسم أصول الدين بكلية العلوم الشرعية: إن الدين الإسلامي هو دين حياة، وشرع من الأحكام والسنن ما يحفظ على الإنسان نفسه وعقله من كل الشرور والآفات، بما في ذلك الأمراض النفسية والباطنية التي تؤثر على استقراره وطمأنينته، فجعل من مقاصده الكبرى حفظ النفس والعقل، كما دعا النفس البشرية إلى الاتزان والتوازن في تعاملاتها وأحوالها حتى لا تنهار أمام الشدائد والمحن. وأوضح أن الالتزام بالشعائر الدينية والاستقامة له أثر بالغ في منع الاضطرابات النفسية أو التخفيف منها، فهي تجعل المسلم منسجمًا مع الطبيعة، غير مصطدم بها، مما يجعله هادئا سلما سمحا، فيدفع بنفسه المسالمة عنه كل شر متوقع، بل نجد أن هذه الشعائر الدينية تحصنه من كثير من الآفات المتوقعة.
وأضاف: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتبعد الإنسان عن مسببات القلق، والصوم جُنّة تحفظ النفس وتطهرها، والزكاة تزكي النفس وتحصنها، مؤكد الأثر الكبير للالتزام بالشعائر في تحقيق الاستقرار النفسي، حيث إنه معنوي يُدرك بالتجربة والشعور الداخلي. وأيد الوائلي أن صاحب الإيمان الصادق لا يصاب بالاضطرابات النفسية؛ لأن صاحب الإيمان الراسخ قد يبتلى بالأمراض والابتلاءات كسائر البشر، لكنه لا يُصاب بالاضطراب ولا يفقد توازنه، لأن إيمانه يعصمه من التزعزع ويمنحه الصبر واليقين.
كما بين الوائلي أثر الإيمان بالقدر، حيث إن الإيمان بالقضاء والقدر يمنح النفس قوة وثباتًا أمام الصدمات والفقد، فيجعل المؤمن على يقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا يجزع ولا ينهار، بل يتحلى بالصبر والرضا، حتى تتحول المحنة إلى منحة.
وأضاف أن العقيدة الإسلامية تعالج القلق والخوف من خلال ربط الإنسان بخالقه، وتعريفه بحقيقة الدنيا والآخرة، وتكليفه برسالة الاستخلاف، موضحا أن هذا الإدراك يجعل المسلم يتعامل مع ابتلاءات الحياة بوعي، فلا يبالغ في التوتر والخوف، بل يجد الطمأنينة في الأعمال الصالحة ومعاني الرضا.
وأكد أن هناك علاقة وثيقة بين قوة التوحيد واستقرار النفس، حيث إنه يحرر العقول ويفتح آفاقها ويمنحها الطمأنينة، فلا استقرار حقيقي لنفس الإنسان إلا مع التوحيد والإيمان.
التدين الإيجابي
من جهته، قال الدكتور محمد بن سيف الحبسي أستاذ مساعد في قسم الفقه وأصوله بكلية العلوم الشرعية: إن التدين الإيجابي يقوم على الوسطية التي جعلها الله خاصية مميزة لهذه الأمة، موضحًا أن هذه الوسطية تعني الاعتدال والتوازن بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، وهو ما يحقق الاستقرار النفسي ويمنع التطرف، والفهم الصحيح للدين، يحقق السكينة والطمأنينة، مشيرا إلى أن التدين الإيجابي لا يلغي البعد المادي للحياة بل يكمله ويغنيه.
بينما التدين السلبي يقوم على الغلو أو الجفاء وكلاهما منهي عنه شرعًا، مشيرا إلى أن هذا النوع من التدين قد يقود إلى القلق والوسواس والانغلاق الفكري، والاضطراب النفسي، ويظهر الفرق الجوهري بينهما أن التدين الإيجابي يحرر النفس ويطهرها، بينما الثاني يقيدها ويعذبها.
وأشار الحبسي إلى أن التعاون بين العلوم الشرعية والعلوم الطبية ليس مجرد ضرورة عملية، بل هو مقتضى شرعي، موضحًا أن للأكاديميين الدينيين دورًا مهمًا في التأصيل الشرعي للعلاج النفسي، من حيث بيان مشروعية العلاج النفسي ووضع الضوابط الشرعية التي يجب مراعاتها في العالج النفسي، وتطوير نماذج علاجية متكاملة تجمع بين الإرشاد الديني والطب النفسي، إلى جانب الإسهام في تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تربط المرض النفسي بضعف الإيمان أو العقاب الإلهي، والعمل على مكافحة الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي باعتباره مرضا جسديا، يحتاج إلى علاج ولا يعيب صاحبه من خلال توعية المجتمع.
ويمكن تحقيق التعاون بين الأكاديميين والأطباء من خلال الدراسات المشتركة وتطوير المقاييس المتعلقة بالتدين الإيجابي وأثره على الصحة النفسية بالإضافة إلى تشكيل فرق علاجية متكاملة تضم الأطباء والمختصين من الأكاديميين والمرشدين الدينيين ويتأتى ذلك من خلال إخضاع الطرفين لدورات تدريبية مشتركة لتحقيق التكامل بينهم. وفي سياق أثر العبادات، أوضح أن الصلاة تحقق التوازن النفسي، فيما يعلم الصيام الصبر والتحكم في النفس ويطهر القلوب من الأحقاد، ويكمل الحبسي أن العبادات في الإسلام ليست طقوسًا شكلية بل منظومة متكاملة لتهذيب النفس وتحقيق التوازن النفسي والروحي، فأهم العبادات، تبين أثرها العميق في تحقيق الاستقرار النفسي والتحكم في المشاعر والانفعالات، مما يجعل المسلم أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة بصبر وحكمة.
وبيّن أن النهي عن الطلاق وقت الغضب يمثل نموذجا واضحا لمراعاة الشريعة للحالة النفسية للإنسان، إذ إن الغضب يؤثر على سلامة التفكير والإدراك، فجاءت الشريعة لتحمي الأسرة من القرارات المتهورة، وفي ذلك تحقيق للعدالة فمن العدل ألا يؤاخذ الإنسان بما يصدر منه في حالة عدم السيطرة الكاملة على نفسه.
وأكد أن الالتزام العملي بأحكام الشريعة له أثر مباشر على الصحة النفسية للفرد، حيث ينعكس إيجابيا عليها من خلال توفير المعنى والهدف في الحياة، وتحقيق النظام والانضباط، وتوفير الدعم الاجتماعي، ويوفر للنفس الاستقرار ويقلل من القلق الوجودي الذي يعيشه كثير من الناس اليوم.
كما شدد الحبسي على أن الاستغفار والدعاء يمثلان وسيلتين أساسيتين للتخفيف عن النفس وتحقيق الصحة النفسية، فالاستغفار يحرر النفس من عبء الذنب ويجلب الفرج، فيما الدعاء يوفر التفريغ النفسي ويعزز الثقة والأمل.
وأضاف أن الفقه الإسلامي يساعد على تنظيم الحياة اليومية بما يقلل التوتر والقلق من خلال التوازن والوسطية والمرونة، لافتًا إلى أن الصلوات الخمس التي تقسم اليوم توفر فترات راحة نفسية، وآداب الطعام والنوم تحقق توازنا صحيا، ومبادئ التيسير ورفع الحرج تقلل الضغط النفسي، وهذا التنظيم يحقق الاستقرار ويمنع الفوضى والتشتت، فالمسلم الذي يطبق هذا المنهج يجد في حياته نظاما وانضباطا وطمأنينة تحميه من كثير من الاضطرابات النفسية المعاصرة.
وحول موقف الفقهاء من المريض النفسي، أوضح الحبسي أن الشريعة قائمة على الرحمة والعدالة وأن الأحكام تراعي قدرات المريض الإدراكية والعقلية لحمايته وضمان حقوقه، مشيرا إلى مسؤولية المؤسسات الدينية في تعزيز الوعي بأثر الالتزام الديني على الصحة النفسية، من خلال تدريب الأئمة والدعاة على القضايا النفسية، وإنشاء مراكز للإرشاد النفسي الإسلامي، والتعاون مع المؤسسات الطبية. ولفت إلى أن المرض النفسي الذي يؤثر على الإدراك والوظائف اليومية يحتاج إلى علاج طبي متخصص، بينما الحالات المرتبطة بالقلق الطبيعي يمكن للتدين الإيجابي أن يخفف من وطأتها، مؤكدًا أن التكامل بين العلاج الطبي والديني هو الخيار الأمثل.
وأشار إلى أن الشريعة تشجع على طلب العلم النافع والاستفادة من الوسائل الطبية الحديثة في علاج الاضطرابات النفسية، وأن العلاج النفسي والأدوية مشروع بل قد تكون واجبة عند الحاجة إذا التزمت بالضوابط الشرعية.
العبادات والعلاج
بدورها، أوضحت فاطمة بنت عامر العمرية، عضوة جمعية الاجتماعيين العُمانية أن الالتزام الديني بما يحمله من قيم ومعتقدات عميقة يُعد أحد أهم مصادر الطمأنينة والراحة للإنسان، حيث يمنحه شعورا بالهدف ويضفي معنى لوجوده ويعزز من الأمل في مواجهة التحديات، مشيرة إلى أن القيم الدينية تشكل ركيزة أساسية لاستقرار النفس وراحة البال، مشيرةً إلى أن غياب هذا المعنى الروحي قد يدفع الفرد إلى فراغ ذهني ونفسي، بينما تسهم الممارسات العبادية والشعائر الدينية في ترسيخ حالة الاتزان الداخلي.
وبيّنت العمرية أن التدين والإيمان، على أهميتهما الكبيرة، لا يكفيان وحدهما لعلاج الاضطرابات النفسية المعقدة مثل الاكتئاب الشديد أو الوسواس القهري أو اضطرابات القلق العام، حيث إن هذه الحالات تصنف كأمراض تحتاج إلى تدخل علاجي متخصص، سواء كان من خلال الأدوية أو عبر برامج العلاج السلوكي المعرفي وأساليب العلاج النفسي الأخرى المبنية على الأدلة، مؤكدةً أن الإيمان يمكن أن يكون عامل دعم قويا في رحلة العلاج، لكنه لا يُغني عن الاستعانة بالخبرات الطبية والنفسية المتخصصة.
تكامل الدعم
وأضافت: إن التكامل بين الدعم الروحي والعلاج النفسي يعد من أكثر النماذج نجاحا، فهناك حالات عديدة تستفيد من هذا الدمج مثل الاكتئاب والقلق البسيط أو التعامل مع الحزن والفقد أو اضطرابات ما بعد الصدمة وحتى الإدمان، موضحةً أن الأديان تقدم إطارا يساعد الإنسان على التأقلم مع الموت والخسارة أو على مواجهة الألم الناتج عن الأمراض المزمنة، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن العلاج النفسي المتخصص يظل الأساس في التعامل مع هذه الحالات.
وشددت العمرية على ضرورة كسر حاجز الوصمة المرتبطة بالعلاج النفسي، حيث إن بعض الأفراد ما زالوا يعتقدون خطأً أن زيارة الطبيب النفسي تعني ضعف الإيمان، وهو تصور خاطئ ينبع من الخلط بين الالتزام والقدرة على التحمل أو من النظر إلى الاضطرابات النفسية على أنها عقاب إلهي، ولكن من صميم الإيمان هو الأخذ بالأسباب والسعي للتداوي، وهو ما يحث عليه الدين.
وتحدثت العمرية عن الفارق بين الطمأنينة التي يمنحها التدين والعلاج النفسي المبني على الأدلة، موضحة أن الراحة الروحية تنبع من الإيمان بالله والشعور بالانتماء لمجتمع ديني داعم، بينما يعتمد العلاج النفسي على تقنيات علمية وأدوات عملية لإعادة التوازن للأفكار والسلوكيات المختلة، وبيّنت أن الجمع بين الاثنين يضاعف من فرص التعافي ويحسّن جودة الحياة النفسية. مشيرةً إلى النماذج العلاجية الحديثة مثل «العلاج السلوكي المعرفي الديني» أو «العلاج النفسي الإسلامي» التي أثبتت الدراسات فعاليتها، خصوصا مع المرضى الذين يُعد الدين جزءا أصيلا من هويتهم، حيث تساهم هذه النماذج في زيادة الالتزام بالعلاج وتحقيق نتائج إيجابية أكبر. وأكدت العمرية أن الدراسات في المجتمعات العربية والخليجية توضح أن الالتزام الديني يرتبط بانخفاض معدلات القلق والاكتئاب وارتفاع مستويات الرفاهية النفسية، ويرجع ذلك في الغالب إلى الدعم الاجتماعي الذي توفره المجتمعات الدينية وآليات التأقلم الروحي، لكنها حذّرت في المقابل من بعض التفسيرات المتشددة للدين التي قد تخلق شعورًا بالذنب المفرط أو القلق، مؤكدة أهمية الاعتدال والوسطية.
وأكدت فاطمة العمرية على مسؤولية المجتمع والمتخصصين في توعية الأفراد، عبر منهج يقوم على التعاطف والاستماع باهتمام لمخاوفهم ومعتقداتهم دون إصدار أحكام، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، والتأكيد على أن الدين لا يتعارض مع العلاج بل يكمله، مع توفير بيئة علاجية تراعي الجانب الروحي للمريض، وأشارت إلى أن التوجيه الديني الإيجابي في مراكز العلاج النفسي يمكن أن يساهم في تعزيز القبول لدى المرضى وبناء المرونة الداخلية لديهم، وأن الجمع بين الروح والعلم هو السبيل الأمثل لتحقيق الصحة النفسية المتوازنة والرفاهية المستدامة.
وأوضحت العمرية أن الالتزام الديني يعتبر موردا قيما يدعم الأفراد في رحلتهم نحو الصحة النفسية، والوقاية من الأمراض النفسية ولكنه ليس بديلا عن العلاج المتخصص للاضطرابات المعقدة؛ والجمع بين الدعم الروحي والعلمي هو المسار الأكثر فعالية لتحقيق الشفاء والرفاهية المستدامة، ويجب أن يكون لدينا الوعي الكافي لتبني هذا النهج المتكامل في مجتمعاتنا.
