No Image
عمان العلمي

فضيلة الشك

21 مايو 2025
21 مايو 2025

لعل من الآمن القول إن فضولنا المعرفي هو أحد أقوى المحركات للبحث للعلمي، وأن ثمة تجاذبا دائما بين اللهفة للتفسير، وتعجل لحظة الآها، وبين الشك المستمر في الفرضيات وفي الاستنتاجات أيضا.

يعجبني حين أعمل أن أضع السماعات، أشغل موسيقى الدراسة أو التركيز، وأنهمك في ما علي فعله. لست وحيدة في ذلك، إذ يبلغ عدد المشتركين في القناة الأشهر لهذا الغرض lofi girl أكثر من 14 مليون مشترك، هذا غير المستمعين المتلصصين من أمثالي الذين يستمعون دون اشتراك.

وأنا أُحرر هذا العدد من الملحق، وحين تعرضت للمقال الذي ينشر هنا بعنوان «الحرب على المخدرات الرقمية يبدأ من رصدها»، تخوفت من أن تكون الموسيقى التي استمع إليها تنتمي لنوع «النغمات الثنائية» التي يُحذر الكاتب من خطرها.

حتى بعد أن اتضح أن موسيقى اللو-فاي لا تندرج بالضرورة تحت النغمات الثنائية واصلت البحث في مدى موثوقية الافتراض القائل بضرر هذه النغمات.

يكشف لنا تاريخ العلوم أن تحيزاتنا تؤثر في طريقة إنجازنا للأبحاث العلمية، وبالتالي في النتائج التي نخرج بها. كيف أن ورقة تأسيسية أو مصدرا ما يأخذ مسار البحث لاتجاه منحرف لعقود، عندما لا ينجح العلماء في مساءلة فرضياته أو نقده كما يجب.

أحد الأمثلة يُنشر في هذا العدد حول تاريخ التوحد، وفكرة أنه مرض لا يصيب النساء، إلا فيما ندر. هذه الفرضية جعلت الأبحاث تهمل أو تستبعد نصف المرضى المحتملين. وعند تتبع المسألة يُكشف التالي: «زُرع الاعتقاد بأن التوحد هو حالة مرتبطة بالذكور في وقت مبكر جدًا. وذلك عندما أشار هانز أسبرجر - أحد من يطلق عليهم «آباء التوحد»- خصيصا إلى نوع من الذكاء الذكوري المفرط في دراساته للحالات التي اقتصرت على الفتيان. بحلول ستينيات القرن العشرين، كانت دراسات التفشي المبكرة تشير إلى أن نسبة الذكور إلى الإناث تبلغ 1:4، وهو رقم غالبًا ما يُستشهد به اليوم على مواقع التوحد وفي كتيبات الإرشاد، بل وفي الأوراق البحثية». ومن هنا مضت هذه الفرضية دون مساءلة.

مثال آخر، يكشفه لنا فرانسيسكا مِزينزانا وغابرييل شايدكر في مقالهما المطول حول «رعاية الطفولة والهيمنة»، إذ يقولان إن سياسات التدخل المبكر، بما في ذلك التدخل المتطرف بانتزاع الأطفال من عوائلهم وإلحاقهم بمدارس أو مؤسسات عامة بحجة توفير ما يضمن لهم النمو الذهني الأمثل. ويكشفان أن الأساس الذي تبنى عليه الأوراق العلمية وواضعو السياسات هو في الأصل نموذج متطرف من الحرمان. يقولان: «تستند معظم الأبحاث حول تأثير الحرمان على الدماغ في مرحلة النموّ إلى دراسات أُجريت على الأطفال الذين تم تبنيهم من دور الأيتام الرومانية بعد سقوط نظام تشاوشيسكو عام 1989، والذين عرفوا الحدّ الأدنى من التواصل البشري، وهو أمرٌ لن تعيشه الغالبية العظمى من أطفال العالم». أي أن الباحثين وصناع القرار باعتمادهم على هذه الدراسات يُسقطون استنتاجات جاءت في سياق خاص على حالات «طبيعية» من الفقر والحرمان.

ما الذي أرمي إليه من خلال هذه المقدمة الطويلة؟

بعد الاطلاع على الأوراق العلمية التي تبحث الموضوع، لا يُوجد -كما أرى- أساس مقنع «بعد» للحسم بأن للنغمات الثنائية التأثير الإدماني الخطير الذي يدعيه المقال. وأن الاسم

الإيحائي لها «مخدرات رقمية» هو ما يوحي بالشبه بينها وبين المخدرات التقليدية، وأن أثر هذه الموسيقى أشبه بالتأثير السحري للموسيقى العادية منه بتجارب التعاطي. يحدث كثيرا أن يقع العلماء في فخ الاستعارات. وهذا بالنسبة لي واحد من الأمثلة على ذلك.

والآن، ماذا تقول لنا الدراسات المتوفرة عن النغمات الثنائية؟

ثمة اعتراف لدى الباحثين بأثر النغمات الثنائية على الدماغ. حققت كل من سوزان أ. ريديك، وآن بولدرز وبرنهارد هوميل في 2013 في تأثير هذه النغمات على الإبداع في سياق دراستهم للتحسين المعرفي عبر المحفزات الإدراكية (النغمات الثنائية في هذه الحالة)، وخلصوا إلى أن لها تأثيرا إيجابيا على مهام تستلزم أنماط تفكير من نوع محدد لدى بعض الأشخاص.

دراسات أخرى حاولت البحث في أثر النغمات الثنائية على الذاكرة، معالجة القلق، وغيرها. لكن الدراسة الأكثر شمولية ربما هي التي أجرتها روث ماريا إنجيندوه، إيلا س. بوسني، وأنجيلا هاينه مؤخرا (2023) مراجعة للأدبيات التي تبحث في أثر النغمات وإمكانيات التدخل النفسي التي تمنحها. خلصت المراجعة إلى أن النتائج متضاربة، وفوق هذا فإن تصميم التجارب، منهجيات التنفيذ، وتحليل النتائج متباينة من دراسة لأخرى للحد الذي يجعل مقارنتها غير ممكنة أساسا. وتؤكد الدراسة في النهاية على الحاجة إلى وضع مقاربة معيارية تضمن أساسا مشتركا للدراسات المستقبلية في مجال التحفيز بالموجات الدماغية لأجل الخروج بتبصرات موثوقة.

أظن أن هذا الاستعراض كافٍ للخروج بخلاصة أن موضوع الأثر -سواء الإيجابي أو السلبي- غير محسوم إلى اليوم، فما بالك بالإجماع على أضرار النغمات الثنائية، أو الاتفاق على شكل الإدمان الذي تسببه.

ثمة أسئلة كثيرة لا بد من الانتباه إليها قبل القفز إلى رصد النغمات. إذا ما كان الكاتب مؤمن بأن للنغمات الثنائية آثارا حميدة، فلا بد من توضيح الآلية التي تتحول بها الموسيقى التي تساعد الكثيرين على تهدئة أنفسهم أو التركيز إلى شيء ضار. فكرة أن «الإفراط» في الاستماع إليها هو ما يسبب «الإدمان» قادم من معاملة هذا الشيء غير المادي «موجات الصوت» كشيء مادي «مخدر». سؤال آخر، أين يكمن الحد الفاصل بين تأثير الموسيقى العادية، التي تُعرف بأثرها على المزاج كما يحدث لأي شخص يستمع إليها، والأثر الخاص للنغمات الثنائية، بل وكيف يكون لها أثر خاص، أعني ما هو مكمن هذه الخصوصية؟ لا يكفي القول بأن خصيصتها (أنها ذات ترددين مختلفين، كل منهما يُسمع عبر إحدى الأذنين) مؤذية دون إقامة دليل. وإلا مال الناس (كما يحق لهم، وأنا منهم) إلا الاعتقاد بأن هذه القفزة هي ناتجة من معاداة كل جديد، وليس من الفحص المدروس والمتأني لأثرها.

من دون إعطاء فضاء لهذه الشكوك، لا تُصبح الأوراق العلمية -مهما بلغت مكانة المجلات التي تنشر عليها أو المؤتمرات التي تحتفي بها- أكثر موثوقية من رأي شخصي.

وإن كانت كثير من الأنشطة الإنسانية تقوم على إظهار الثقة ومحاولة الإقناع، فإن ما يميز الممارسة العلمية هو الشك والمساءلة وإعادة التفكير.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم