عندما تلمع الفيزياء في روح الشعر.. «هكذا تجيب العلوم الحديثة على تساؤلات الشعراء العرب حول الشمس وعوالق الغلاف الغازي»
الشاعر لسان حال بيئته والأحوال التي تحيط به من حرب وسلم، ولطالما وصف الشاعر العربي من خلال قصائده مفرداته الحياتية كالخيمة والخيل ومكارم الأخلاق كالجود والكرم والشهامة والشجاعة متحدثا عن السفر والترحال والسكينة والهدوء ولكننا في هذا المقال سنركز على الوصف المتميز للشاعر العربي للظواهر الطبيعية، فهناك شعر يصف بعضا من الأجرام كالشمس مثلا وتفاعل أشعتها مع هواء الأرض وغيرها الكثير. وفي هذا المقال نحاول أن نسلط الضوء على تلك العلاقة بين وصف الشاعر الدقيق لبعض الظواهر الفيزيائية وفهمنا الحالي لها أو لنقل التفسير الذي وصل إليه الإنسان حاليا في هذا الزمان بعد اكتمال كثير من النظريات وإقامة العديد من التجارب. وعلينا أن ننبهه إلى أننا لا نحاول محاكمة تصورات الشعراء في تلك الأزمنة الغابرة بما وصل إليه العلم في هذا الزمان، ولكننا نريد التأكيد على دقة تلك الأوصاف والتعبيرات الأدبية والذائقة الشعرية وكيف أنها ليست ببعيدة عن السمات الحقيقية للموصوف من هذه الظواهر، كما سنركز على أمرين اثنين هما الشمس وعوالق الغلاف الغازي واللتين تحدث عنهما كثير من الشعراء ولكننا سنأخذ بعضًا منهم على سبيل المثال ولنبدأ بالمتنبي الذي يجعل ضوء وبريق الشمس يفوز على الكواكب حتى وإن كان زحل فضوؤه مستعار وخامد، حيث يقول:
خُذ ما تراهُ ودع شيئًا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
ويمدح ضوء الشمس المنتشر الذي يغطي المغرب والمشرق فيقول:
كالشمس في كبد السماء وضوؤها
يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
هنا تبدو الشمس نجما مسيطرا على عقول الشعراء وجرما ملهما من أجرام السماء وهذا متوقع ولكننا نجد أنهم كانوا مولعين بها، فهنا مثلًا يصف المتنبي عدم القدرة على إمساك شعاع الشمس حيث يقول:
كأنها الشمسُ يُعيي كف قابضه
شُعاعها ويراه الطرف مقتربا
وفيزيائيًّا كما نعلم الآن أن الضوء هو أشعة كهرومغناطيسية، أي ليس بجسم مادي ولذلك كان المتنبي يؤكد عدم مادية أشعة الشمس وإن لم يكن يقصد ذلك، حيث يؤكد أن العين ترى شيئًا لا يمكن إمساكه فيتساءل بلغة رائعة غير مباشرة عن كنه هذا الشيء؟ وعنترة بن شداد أبى إلا أن يتحفنا بفهم تمثيلي للنجم حيث يقول:
أراعي نجومَ الليلِ وهي كأنها
قواريرُ فيها زئبق يترجرجُ
وتحتي منها ساعدٌ فيه دملجٌ
مُضِيءٌ وَفَوْقي آخرٌ فيه دُمْلجُ
وهنا يصف عنترة النجم الذي يتلألأ في الليل المدلهم كزئبقٍ يترجرج في قوارير وهذا وصف رائع لأن النجم يصدر طيفا واسعا من الأشعة المرئية وغير المرئية بسبب أنشطة التفاعلات النووية التي تجري في لبه، ولعل هذا القول العنتري ليس مفهومًا في زمانه علميًّا لكنها قدرة تصويرية رائعة، حيث إن التلألؤ الصادر من النجم مستمر واستخدام الزئبق غير المستقر في القارورة وصف مميز وذلك ادعى لاستمرار التلألؤ.
ومن جهة أخرى إذا تأملنا البيت التالي الشهير للنابغة الذبياني حول وصف لمعان وقوة ضوء الشمس بالمقارنة مع بقية الكواكب:
إنك شمس والملوك كواكب ...
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
نجد أن الشاعر أبدع في حديثه بأن للنجم ضوءا خاصا به بعكس الكواكب التي تحتاج من ينيرها ولكننا نختلف معه في المانع من رؤية الكواكب من على سطح الأرض؛ فتفاعل شعاع الشمس الساقط مع الغلاف الغازي المحيط بالأرض يؤدي إلى تشتت أشعته وهذا هو السبب المانع. ونجد هذا واضحًا عند رؤية الشمس من مركبة الفضاء الدولية حيث الفضاء الأصغر أو كما يسمى مجال الجاذبية الصغرى وترى النجوم ومنها الشمس كأنها مصابيح منيرة في ذاتها كأحرف تتلألأ كما قال المتنبي (في قصيدته مغاني الشعب):
وَأَلقى الشَرقُ مِنها في ثِيابي
دَنانيرًا تَفِرُّ مِنَ البَنانِ
فطلوع الشمس ليس السبب الأصيل لمنع رؤية الكواكب والنجوم الأخرى ولكن تشتت ضوء الشمس وخصوصًا اللون الأزرق (ذا الطول الموجي القصير) ويحدث ذلك في طبقات الجو العليا وقد نتساءل لماذا هذا اللون بالذات؟ يعزى هذا الأمر للاهتزاز الرنيني لجزيئات الهواء المقارب لهذا الطول الموجي القصير للون الأزرق -والذي سيتم شرحه بالتفصيل تابع القراءة- ويتم عكس هذا الطول القصير بنسبة تسعة أضعاف الألوان الأخرى مما يؤدي إلى انتشار اللون الأزرق في معظم وقت النهار، أما عند الغروب فسنرى اللون الأصفر أو الأحمر المصفر والذي يتميز بطول موجي أكبر وسبب ذلك أن كمية الغلاف الغازي التي يقطعها الضوء تكون أكبر حيث ضوء الشمس الساقط على الأرض يكون مجاورًا أفق الأرض.
كيف تم هذا التفسير تاريخيًّا؟
الخطوات الأولى نحو تفسير لون السماء بشكل صحيح اتخذها جون تيندال في عام 1859. واكتشف أنه عندما يمر الضوء عبر سائل صافٍ يحمل جزيئات صغيرة معلقة، فإن الأطوال الموجية الزرقاء الأقصر تتشتت بقوة أكبر من اللون الأحمر. يمكن إثبات ذلك من خلال تسليط شعاع من الضوء الأبيض عبر خزان ماء مخلوط بالقليل من الحليب أو الصابون. ومن الجانب، يمكن رؤية الشعاع من خلال الضوء الأزرق الذي ينثره؛ لكن الضوء الذي يُرى مباشرة من النهاية يتحول إلى اللون الأحمر بعد مروره عبر الخزان. يمكن أيضًا إظهار الضوء المبعثر على أنه مستقطب باستخدام مرشح للضوء المستقطب، تمامًا كما تظهر السماء باللون الأزرق الداكن من خلال النظارات الشمسية المستقطبة.
ويُطلق على هذا بشكل صحيح اسم تأثير تيندال، ولكنه معروف أكثر لدى الفيزيائيين باسم تشتت رايلي، نسبة إلى اللورد رايلي، الذي درسه بمزيد من التفصيل بعد بضع سنوات. وأظهر أن كمية الضوء المتناثرة تتناسب عكسيًا مع القوة الرابعة لطول الموجة بالنسبة للجسيمات الصغيرة بما فيه الكفاية. ويترتب على ذلك أن الضوء الأزرق ينتشر أكثر من الضوء الأحمر بعامل (700/400)4 ~ 10.
يبقى السؤال الملحّ: «لماذا تشتت الجزيئات الموجودة في الغلاف الجوي الضوء الأزرق أكثر من الضوء الأحمر؟»
وللإجابة على هذا السؤال سنغوص قليلًا في بعض المفاهيم الفيزيائية والتي نرجو أن تكون سهلة للقارئ بشكل عام، أولها أن لجزيئات الهواء المكون من الأكسجين والنيتروجين وبخار الماء بالإضافة إلى ذرات الأرجون القدرة على امتصاص معظم الأشعة فوق البنفسجية وهي الموجات الأشد طاقة والأقل في الطول الموجي والأعلى في التردد من طيف الأمواج الكهرومغناطيسية وهذه المقدرة بسبب السحابة الإلكترونية المكونة لذرات هذه الجزيئات، حيث تقوم الإلكترونات داخل هذه السحابة بالتحرك ذهابًا وإيابًا بتردد ثابت يسمى تردد الرنين حين تصادمها مع الأشعة الكهرومغناطيسية (ضوء الشمس) ولوحظ أن هذا التردد المستقر الرنيني أي المتسق لهذه الإلكترونات مرتفع القيمة ويساوي تردد الأشعة فوق البنفسجية ذات التردد العالي. هذا يعني أنه إذا اصطدمت هذه الأشعة بسحب الإلكترونات لهذه الجزيئات فإن سحابة الإلكترون في الجزيء سوف تهتز ذهابًا وإيابًا حول النوى بتردد رنين بنفس الأشعة فوق البنفسجية الساقطة.
إذاً إذا اصطدمت هذه الذرات بالإشعاع الكهرومغناطيسي ستهتز السحابة الإلكترونية ذهابًا وإيابًا بنفس تردد الإشعاع. والآن إذا تم هز الذرة عند تردد الرنين هذا ستتضاعف حركة السحابة الإلكترونية أي يزداد ترددها حتى يتم امتصاص الإشعاع الكهرومغناطيسي وتنتقل السحابة الإلكترونية إلى مستوى طاقة أعلى. هذا مثل دفع الطفل الصغير على مرجيحة، حيث تنتظر الوقت المناسب لتزيد الدفع دفعًا، وبعد مرور بعض الوقت على امتصاص الذرة -ربما بعد جزء من مائة من الميكروثانية- ستتم إعادة إشعاع الضوء (الطاقة الإضافية والتي جاءت مثلًا من الضوء البنفسجي) وتعود الذرة إلى أدنى مستوياتها من الطاقة.
وفي هذه الحالة يكون للضوء المعاد إطلاقه (من الجزيئات) له نفس طاقة وتردد الضوء الممتص، المقصود أنه لو سقط ضوء بنفسجي سيتم إطلاقه بنفس الطاقة أي كلونٍ بنفسجي ومع ذلك يمكن أيضًا إعادة إطلاقه على شكل عدة فوتونات ذات طاقة أقل. كذلك الضوء المُعاد إطلاقه له نفس الطور مع الضوء القادم من الشمس! وهذا يعني أنه لا يمكن أن يلغي أو يقلل أحدهما طاقة الآخر فكلاهما متفق في الطور.
ولكن عندما تضرب موجة من الإشعاع الكهرومغناطيسي (الضوء) السحابة الإلكترونية بتردد بعيد عن الرنين، تتأرجح السحابة الإلكترونية وتعيد إصدار الضوء. هنا لا يتم امتصاص الضوء المعاد إرساله فعليًّا وإعادة إطلاقه بشكل مباشر، بل يتم تأخيره قليلًا، بحيث يكون لديه فرق في الطور بينه وبين الضوء الساقط. وفي كل مرة يمر الضوء على ذرة، يتبدد جزء منها ويخرج بنفس التردد أو اللون وبتأخر طفيف في الطور. وبما أنها تتأخر بكل ذرة، فإن النتيجة النهائية هي تباطؤ السرعة الظاهرية للضوء. وهذا يسمى كذلك بمؤشر انكسار المادة. كلما اقترب تردد الموجة الكهرومغناطيسية من تردد الرنين للذرة أو الجزيء، زادت كمية الضوء المتناثرة بواسطة كل ذرة، وكذلك زاد تأخير الطور.
الضوء الأزرق أقرب في تردده إلى الضوء فوق البنفسجي من الضوء الأحمر، لذا فإن الضوء الأزرق ينتشر أكثر من الضوء الأحمر. من الناحية الكمية، تتناسب كمية الضوء المتناثرة مع القوة الرابعة للتردد. لذا فإن الضوء الأزرق الذي يبلغ تردده ضعف تردد الضوء الأحمر يتشتت بقوة أكبر بـ 16 مرة. لاحظ أن الضوء الأحمر مبعثر قليلًا، إلا أنه يطغى عليه تشتت اللون الأزرق.
ما ظاهرة «الهباء أو العوالق» التي شغلت الشعراء؟
تتداخل أشعة الشمس مع الغلاف الغازي، كما نرى ذلك بشكل يومي وخاصة إذا جلست داخل غرفة بها فتحة صغيرة تتيح لأشعة الشمس النفاذ منها ستلاحظ بعض العوالق المتطايرة والتي تسمى لغة الهباء، والهباء كما جاء في لسان العرب لابن منظور بأنه التراب الذي تطيره الريح فتراه، وقيل هو الشيء المنبث الذي تراه في البيت من ضوء الشمس شبيها بالغبار. هنا سنعود للوصف الشعري الجميل للمتنبي والذي يصف سيفه هنا بأنه يتلألأ ويهتز لامعًا مثل الهباء المتناثر في الهواء والذي يصدم به شعاع الشمس فيُرينا حركته المهتزة، وصف لغوي رائع:
ودقيق قدى الهباء أنيق
مُتوالٍ في مُستوٍ هزهاز
ويقول المتنبي عن الهباء كذلك:
وإن من العجائب أن تراني
فتعدل بي أقل من الهباء
حيث يذكر المتنبي أن حجم الهباء لا شيء، حيث يخاطب الشعراء الآخرين متفاخرًا أنه من العجب معرفتك بالمتنبي، ثم إنك تسوي بينه وبين من هو أقل من الهباء؛ فالهباء لا تساوي شيئًا ولكن العلم يقول شيئا آخر.
نقول للمتنبي إن الهباء خلقٌ عظيم من خلقِ الله عز وجل، ولنقترب من ذلك علينا أن نتحدث عن «Aerosol» وهو العوالق من الجزيئات الصلبة أو السائلة الموجودة في الغاز وخاصة في الغلاف الغازي. ودراسة هذه العوالق حاليًّا هي شغل العديد من المراكز البحثية حول العالم المهتمة بالبيئة والطقس، حيث إن وكالة ناسا مثلًا تقول إن زيادة كمية الهباء الجوي تؤثر على عوامل مثل عدد السحب الموجودة، ومدى حجم قطرات في السحب، ومدى ارتفاعها، ومدى غزارة هطول الأمطار. وتُعرف هذه باسم «التأثيرات الإشعاعية غير المباشرة» للهباء الجوي وهذا يعني أنها قد تؤدي إلى تغيّرات وتقلبات مناخية، كما أن لها أثرا كبيرا على حياة الإنسان الصحية، ولكن لنكن محددين فالحديث هنا عن الجزيئات متناهية الصغر فليس الحديث مجملًا.
د. ماجد الرقيشي أستاذ الفيزياء المساعد ورئيس شعبة الفيزياء بجامعة نزوى