الكتابة الأولى.. قراءة في الفن الصخري
ألقى الفن الصخري ضوءًا ساطعًا على تاريخ إثبات الوثيقة التاريخية، وأصبح من العلوم التي يستند إليها كُتَّاب التاريخ وهو مصدر لتأكيد أو نفي ما ورد في كتب التاريخ. وفي كثير من الأحيان؛ يكون المصدر الأول لبعض الأحداث التي جَازَت على الناس عبر الزمان.
قبل قرنين ونصف تقريبًا، بدأ العالم يتحدث علميا عن اللغة الأولى التي تحدث بها الإنسان الأول، وكان منطلق هذه الفكرة دينيًا صِرْفًا، نبتت من الكتب الدينية، عندما حاول معتنقو الديانتين اليهودية والمسيحية إثبات الأسماء الجغرافية في كتبهم عن الطريق البحث الميداني، وكانت النتيجة ظهور علم جديد يسمى «علم الحضارات» قائم على التنقيب الآثاري .
في بادئ الأمر كان المشتغلون بالتنقيب هم أصحاب الخلفيات الدينية، ممن حاولوا إثبات الخريطة الجغرافية التي سار فيها أنبياء بني إسرائيل. ومن أوائل من عمل على ذلك إدوارد روبيرتس؛ وهو عالم آثار له دور بارز في دراسة واستكشاف الأرض المقدسة في فلسطين. عُرف روبيرتس بدراسته الآثارية لمنطقة الهلال الخصيب وخرجت أعماله في كتاب «أبحاث الكتاب المقدس في فلسطين وجبل سيناء والبتراء العربية»، روبيرتس وزملاؤه الباحثون قدموا فرضيات وفق ما وصلوا إليه من أبحاث ميدانية، من هذه الأبحاث كان عن أصل اللغة.
حتى القرن العشرين كان تلاميذ روبيرتس وأوجست وصامويل كريمر يرون في منطقة هلال الخصيب بداية الحضارة الإنسانية، فمنها بدأت الكتابة والصناعة والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم والفنون. النظرية لاقت قبولًا في الوسط العلمي والديني في العالمين العربي والغربي، وصارت تدرس في المؤسسات العلمية، بل إن بعض المؤسسات أصبحت تدفع بتلاميذها إلى تلك المناطق لمواصلة إثبات النظرية والبناء عليها.
إن المدرسة التي تبنت النظرية القائلة بأن العراق وما حوله هو مهد الحضارة، تعرضت لانتقادات واسعة، ولم تعد هذه النظرية إلا محض شك عند كثير من العلماء، والأمر راجع لعدة أسباب، أبرزها وأكثرها تأثيرًا هو العثور على مخزون ضخم من النقوش الصخرية في جبال العالم. هنا الجبال بدأت تنطق، فلاح الفن الصخري في الأفق بكل اقتدار، وبدأ يعيد قراءة النظريات التي تبناها العلماء مدة طويلة. الفن الصخري أعاد كثيرا من النظريات الحضارية إلى الواجهة، ومنها نظرية الكتابة الأولى، وهذه المرة دار سؤال: إذا كان ساكنو منطقة هلال الخصيب ليسوا أصحاب الكتابة الأولى؟ إذا فمَن هم؟ ومن أين بدأت الكتابة؟
إن السؤال عن ماهية الكتابة الأولى؟ وأين بدأت؟ هو في الحقيقة سؤال عن الوعي وكيف تشكل، فالإنسان يكتب ما يعي، ويُراكم هذا الوعي، ويُخرجه بألوان مختلفة، ومن هذه الألوان كان الفن الصخري، إذ دوّن الإنسان وعيه المتراكم على الجبال التي كانت هي مكان حياته وسكناه.
نقش الإنسان القديم لغته بفكرة الأنا، فعند باب الكهف حفر صوت لسانه ووضع حدا بين ما يملك وما لا يملك. فوضع حجر الأساس للكتابة بتزاوج الصوت مع الرمز. إن المعروف لدى الباحثين الأوائل في علميّ الحضارة واللغة بأن الرمز جاء متأخرا مقارنة بالصوت، فلم يدون ما ينطق إلا منذ 7 آلاف سنة، وقبلها كان الإنسان يجيد فنون العيش كالفلاحة والصناعة. أما الفن الصخري فيقول خلاف ذلك،
فتزاوج الصوت بالحرف حدث مبكرًا في تاريخ البشرية، وأن ما نراه في حضارتي العراق ومصر وغيرهما ما هو إلا الصورة الناضجة لهذا التزاوج، ولا يعبّر عن مهد الكتابة ولا الحضارة.
وهنا أضع وجهة نظري عن اللغة، وقد قسمتها إلى شقين:
الأول: اللغة الأولى، وتتمثل في الصوت، الذي لا أعرف كيف آلَ به المآل، هل تطوّر ودخل في أصواتنا اللسانية الحالية، أم أنه اندثر ولم يعد له أثر؟
والثاني: الكتابة الأولى، وتتمثل في الرمز، فهو باقٍ ومنتشر في جبال العالم.
إن رموز هذه الكتابة أتت على شكلين مختلفين ومتعاقبين زمنيًا، وقد ظهرا في العصر الحجري القديم الأسفل. الرمز الأول، عبارة عن كويبات [جمع كويب، تصغير كوب] أو دوائر غائرة حفرت في الصخور، يتراوح قطرها بين 80 إلى 50 مليمترًا، وتأتي في صفوف منتظمة وغير منتظمة. ذكر خزعل الماجدي في كتابه «حضارات ما قبل التاريخ» هذه الكويبات وقال: «يعد الفن الصخري أقدام أنواع الفن في تاريخ الإنسان، ولعل أقدم أنواعه الكويبات، وهي حفر منتظمة ملساء صنعها الإنسان فوق الصخور، تشبه طبعات كرات على الحجر، وقد أعطاها الاسم عالم الآثار روبرت بدنارك. وأقدم هذه الكويبات وجدت في كهف بهيمبتكا في الهند، وتعود إلى العصر الأشولي (500000-200000 ق.م)». من خلال ما كتبه خزعل نستنتج بأن الرمز مرتبط بالبدايات الأولى للإنسان العاقل، الذي بدأ يعرف بأن وجوده لغاية وهدف يدافع عنه في الحياة. الرمز منتشر على مستوى العالم، وقد وقفنا عليه أنا ووالدي بعُمان في عدة أماكن، وقبلنا وقف عليه باحثون اشتغلوا على الفن الصخري؛ منهم الباحث ر. جاكلي، الذي قال عن الرمز: «علامات منقوشة تشبه الكؤوس على صخرة بامتداد يبلغ سنتمترات قليلة، وعمقها يتراوح بين بضعة ملليمترات وسنتمترين، وترتبط أحيانًا بواسطة أخاديد أو قنوات مائية، وهذه الصخرة مائلةٌ ميلًا طفيفًا، وعليها وجوه صخرية، ربما كانت شائعة في عُمان كما كانت شائعة في أوروبا، حيث يتراوح تاريخها بين العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي». بالإضافة إلى ذلك ذكر جاكلي عن أماكن انتشارها في عُمان من خلال الأبحاث الميدانية التي قام بها، وقال: «إنها توجد في وادي بني خروص ووادي السحتن ووادي العين وناح ووادي عندام ووادي رجيم»، كما وقفت عليها مع والدي في أكثر من مكان؛ منها: وادي بهلا، ووادي تنوف بنزوى.
ولجاكلي ثلاثة تفسيرات للرمز:
- يرمز للوحة ألعاب «الحواليس».
- يرمز لرميات المتعبدين «الحج».
- يرمز لطقوس سلوكية «السحر».
أما أنجلو فوساتي فيقول عن الرمز: «تم إنشاء هذه التجاويف واستخدامها في الفن الصخري على مر التاريخ لخدمة العديد من الأغراض، مثل: الأوعية الطقسية للعروض السائلة لوضع الأدوية أو طحن الحبوب، بطريقة مماثلة لاستخدام الهاون. ويقترح آخرون؛ أنه يمكن تفسيرها على أنها نجوم أو تمثيل للقرى». وأيضًا؛ من التفسيرات التي أخذتها مباشرةً عن هذا الرمز كانت من باحث اللغات القديمة الليبي عبدالمنعم المحجوب، الذي زارنا في شتاء 2019م، في زيارة بحثية حضارية، وفي زيارتنا بصحبة والدي لمنطقة بني صلت الواقعة ما بين ولايتي الحمراء وبهلا وقفنا على ذات الرمز وأخبرنا المحجوب بأنه قديم جدًا، ويرمز لكتابة حسابية قديمة عرفها الإنسان.
أما الرمز الثاني؛ فعبارة عن تخطيطات شحذت على أسطح الصخور، نجدها داخل الكهف أو قرب واجهته. تسمى في الوسط العلمي «بالبوليسوار»، ويقدر الباحثون أن عمرها يتراوح بين 300 ألف و77 ألف سنة. ولهذا الرمز مكانة خاصة عند العلماء لانتشاره العالمي، إلا أنهم يقفون عاجزين عن الاستفاضة في تفسيره، والأمر راجع إلى صغر حجم هذه التخطيطات، مما يجعل تفسيرنا لاستخدامها من قبل الإنسان القديم مبهمًا. ومن القلائل الذين حاولوا تفسيرها أنجلو فوساتي الذي استنتج تفسيره أثناء عمله على دراسة الفن الصخري في جبال عمان، وذهب إلى أن الرمز تشكل نتيجة ضغط طرف السكين على الصخرة، وأنشأ علامات غير منتظمة، وبرأيه أن هذه التقنية شائعة عند الكتابة بالأبجدية العربية على سطح صلب.
أغلب التفسيرات التي قدمها الباحثون للرمزين: الكويبات والتخطيطات قائمة على الطبيعة الجغرافية للمكان، وهذا أمر طبيعي، إذ إن الباحث في علم الحضارة والآثار يحاول بناء أفكاره على الأشياء المادية الملموسة، بيد أن هناك رموزًا تجريدية الشكل عميقة المعنى، لا يمكن وضع تفسير مادي لها. وحتى تتضح الفكرة، أقول: ماذا لو كُتِبَ للغُتنا الحالية أن تنقرض، وبعد ألوف السنين عثر باحث على رموز كتابتها؟ لطرأت عليه تفسيرات كثيرة، ولربما انحصرت في التفسير المادي. هذا ما حصل لدى ثُلّة من علماء اليوم؛ إذ أُعلي من شأن التفسيرات المادية على المعنوية، حتى ظنّ البعض أن الإنسان الذي نفخ الله فيه الوعي لا يعي إلا الأكل والشرب والتناسل. بيد أنه يتضح لنا يومًا بعد يوم من خلال الكشوفات الأثرية القابعة تحت الأرض أو الظاهرة على جبالها، أن الإنسان عرف اللغة ورموزها وتواصل بها منذُ ألوف السنين. وهذا ما ذهبت إليه في هذين الرمزين، بأنهما يعبران عن رموز للغة قديمة عرفتها البشرية. قد تكون هذه كتابة عبارة عن مقاطع بسيطة بفهمنا اليوم، ولكنها منتشرة من الصين شرقًا إلى أمريكا غربًا.