No Image
عمان الثقافي

نقد.. ماذا يعني التفكير في الفلسفة الرواقية اليوم؟

24 يناير 2024
24 يناير 2024

الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز -

كيف كنّا لننظر إلى الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس اليوم لو لم يصل إلينا كتابه الموسوم بـ «التأملات»؟ لقد اضطرّ الإمبراطور بمجرد تولّيه لزمام السلطة، إلى خوض الحروب على كافة الجبهات. فممارسة الحكم، بالنسبة إليه، تقتضي محاولة سدّ الفجوات الموجودة على حدود إمبراطورية مترامية الأطراف تتعرّض للهجمات من جميع الجهات. لقد حارب وقتل، وتميّز عهده بشكل خاص بالعنف ضد المسيحيين الذين عانوا من اضطهادٍ كبير.

لكنه قام، في الوقت نفسه، بعملٍ تشريعي مهم، كما أنه افتتح الكراسي الأولى للفلسفة. يؤكد المتخصص في اللغة والفلسفة اللاتينية بيير غريمال (Pierre Grimal) أن المؤرخين القدماء والمعاصرين على حدّ سواء يُجمعون تقريبا على مدح هذه الشخصية. ومن دون إنكار الصعوبات التي واجهت حكمه، فإنهم يعترفون بالصرامة الأخلاقية العظيمة لهذا الإمبراطور. يمثل ماركوس أوريليوس، بطريقة ما، الروحانية والتعقيد والمسؤولية في العمل. لكن هل كنا لنكيل له هذا المديح لو لم يتأتّى لنا التعرّف على تأمّلاته؟

وهذا يدعونا إلى التساؤل حول كيفية تفكيرنا في الفلسفة الرواقية اليوم. إلى أي مدى يتوافق فكر الرواقية القديمة مع نشاط الرواقيين أنفسهم؟

ماذا يعني التفكير في الفلسفة الرواقية؟

إن التفكير في الفلسفة الرواقية يعني أولا فهمها. عندما نقول «أن المرء رواقي»، فإننا نعني بذلك «السلوك الذي يدل على حزمٍ لا يتزعزع، وعلى عدم المبالاة أمام الألم والشقاء، وغير ذلك من المآسي». وهذا هو المحور الأول للبدء في التفكير في الرواقية اليوم. ثمة محور آخر يتمثل في رواقيةٍ ذات طابع تقني بشكل أكبر، وربما تكون غير مألوفة.

لأن الرواقية هي قبل كل شيء عبارة عن أنطولوجيا تهمّ تقسيمات الوجود، كما تتعلّق بالمنطق فضلا عن البلاغة والجدل ونظرية المعرفة التي تبحث في قضايا الحقيقة واليقين؛ إضافة إلى الفيزياء التي تنقسم إلى ثلاثة محاور: العالم والعناصر والبحث عن الأسباب؛ وأخيرا الأخلاق.

غالبا ما يتم إهمال هذا الجانب من الرواقية، على الأقل من وجهة نظر العامّة. وهذا يمكن أن يطرح مشكلة: هل يمكننا التفكير في الرواقية دون الإحاطة بكل أبعادها أو على الأقل الحصول على رؤية شاملة بخصوص ماهية الرواقية في علاقتها مع المنطق والأخلاق والوجود والفيزياء؟ يبدو من المشروع أن نتساءل ما إذا كان التفكير في الرواقية اليوم ليس سوى مسألة توافقات وانتقاء.

الناس تأخذ من الرواقية ما يناسبها، مع كل أوجه القصور التي قد يعنيها ذلك. يدلّ هذا على شكلٍ من أشكال تبسيط الرواقية كما هو الحال في مجالات التنمية الذاتية على سبيل المثال - من التدريب إلى علم النفس السلوكي مرورا بالفلسفة داخل الشركات. يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: هل لا يزال ذلك يعني تفكيرا في الرواقية؟ قد يكون الجواب مزعجا لأنه قد يعني أن المكان الوحيد حيث يتم التفكير «بشكل صحيح» حول الرواقية سيكون هو المجال الأكاديمي والجامعي.

ثلاثة محاور

ربما يجدر بنا أن نتساءل عن أنواع الرواقية أو محاورها التي سيكون من المناسب التفكير فيها بالنظر إلى فوائدها في الفضاء المعاصر، على غرار ماركوس أوريليوس الذي استخدم الحكمة الرواقية من أجل مواجهة الصعوبات التي مرّ بها في زمانه. وللتفكير في الأمر، أقترح التعريف بهذه الحكمة الرواقية على نحوٍ سريع اعتمادا على حوارات إبكتيتوس عندما تحدّث عن عمل الروح من خلال تحديد تقسيم ثلاثي لوظائف الروح:

- الوظيفة الأولى هي تطويع الرغبة، أي التخلي عن الرغبة في كل شيء لا يتوقّف تحصيله علينا.

- تتعلق الوظيفة الثانية بالميل والفعل: عدم السماح للنفس بالانجراف وراء الرغبات المضطربة، وذلك من خلال ضبط النفس والأهواء التي تضرّ بسلوك الفرد.

- أما الوظيفة الثالثة فتتمثل في الاستخدام الجيد للتمثّلات، والانضباط الذي يدعونا إلى استقامة الفكر والكلام في الأحكام التي تصدر عنا.

سوف نعثر على هذه البنية في أفكار ماركوس أوريليوس بطريقة متطابقة من الناحية المنهجية، وكما سبق وأشار إلى ذلك بوضوح الفيلسوف بيير أدو (Pierre Hadot). تشبَّه هذه المحاور الثلاثة بـ «صندوق أدوات». فهي متاحة، وقابلة للحفظ، ويجب استحضارها في النفس في جميع الأوقات. ومن الأساسي أن نتذكّرها باستمرار، حتى في غير أوقات الشدّة لكي نتمكّن من التمرّس عليها. وهذا ما نسمّيه تمرينا روحيا. إن الشيء الأساسي هنا هو الطابع العملي للفلسفة للرواقية إذ أنها موجَّهة نحو الفعل.

فلسفة أفعال

إن عرض المحاور الثلاثة للفلسفة الرواقية يُلزمنا بالتأكيد على الاعتقاد باستحالة التفكير في الرواقية دون ممارسة ودون تحويلها إلى أفعال على أرض الواقع. وبالتالي، فإن التفكير في الرواقية اليوم يجب أن يتم وفق هذه المقاربة نفسها.

إن فعل «التفلسف» لا يمكن أن يغدو حقيقة إلا بوجود جانبي النظرية والتطبيق العملي معا. يؤكد الفيلسوف البولندي يوليوش دومايسكي (Juliusz Domanski)، أن ثمة رأيا شائعا بين الفلاسفة منذ أفلاطون يقول بأنه لكي يكون المرء فيلسوفا حقيقيا، فمن المهم بالتأكيد أن يعرف كيف ينبغي أن يعيش حياته، ولكن من الضروري أيضا أن يعيش في توافقٍ كامل مع هذه المعرفة: «إن حياة الفيلسوف وسلوكه وشخصيته يشكّلون بذلك تحقيق المفهوم الكامل والشامل للفلسفة».

تمثل النظرية والممارسة في الواقع البُعدان المتلازمان للتمارين الروحية، حتى لو كانت الممارسة هي الجانب السائد أكثر، لأن القضية في النهاية هي معرفة ما هو أفضل مسلك للتصرّف. وهو الأمر الذي يسائل مرةً أخرى الفلسفة الجامعية. وبالمناسبة فإن الفلسفة هي أسلوب حياة أكثر مما تتعلق بشكلٍ خطابي، وكما قال سقراط عندما سُئل عن تعريف الفلسفة: «بدلا من أن أقول ما هي الفلسفة، فإني أجعلها مرئية من خلال أفعالي».

وبالتالي، فلكي نفهم الفلسفة القديمة بشكل عام، والتفكير في الرواقية بشكل خاص، من الضروري النظر إلى الفيلسوف من خلال ثلاثة محاور: الفيلسوف كما يعيش داخل مدرسته، والفيلسوف كما يعيش في المدينة، والفيلسوف كما يعيش مع نفسه.

من المناسب إذن أن نتساءل حول الطريقة التي يتّبعها الفيلسوف في التدريس والدور الذي يضطلع به خارج الفصل، وما وجه العلاقة بين المكتوب والشّفهي، والمكانة التي يحظى بها التلميذ، ومستوى حرية التعبير الذي يحظى به، وما إلى ذلك. يجب علينا أيضا النظر في العلاقات بين المدرسة والمدينة، وما إذا كانت هذه العلاقات قائمة أم لا، وما هو الدور السياسي الذي تمارسه المدرسة. كما ينبغي السعي إلى فهم التأثيرات الحقيقية للفلاسفة على بقية المواطنين. هل يغيّرون أسلوب حياة البعض، وهل يمارسون أي تأثير على الأخلاق؟

فلاسفة يتشابكون مع الواقع

من الضروري إلقاء نظرة على السّير الذاتية للمعلّمين الرواقيين، وسوف ندرك أنهم كانوا منخرطين بشكل مباشر في القضايا اليومية، وما قد يفاجئك هو أنهم كانوا قريبين جدا من إدارة الأعمال. فإذا كان إبكتيتوس عبدا، وعمل كليانثس في نقل المياه، فإن زينون، مؤسس الرواقية، قد ورث ثروة كبيرة عن والده، والأهم من ذلك كله، أنه قام باستثمارها في عدة أعمال، ونحن نعلم على سبيل المثال أنه كان على متن سفينة غرقت خلال إحدى رحلاته البحرية من أجل تصدير الأرجوان الفينيقي إلى أثينا. وعمل سينيكا قاضيا ومقرضا ومدرّسا، في حين كان شيشرون رجل دولة ومحاميا متطوعا يحوز عدة أملاك، وكان يتردّد على دوائر الأعمال مستثمرا فائض أمواله أو مقترضا من المصرفي عند الحاجة.

يقول شيشرون في إحدى رسائله: «لقد أغلق اثنان من متاجري أبوابهم، والمتاجر الأخرى معرّضة للمصير نفسه، لدرجة أن المستأجرين ليسوا وحدهم من لم تعد لديهم رغبة بالبقاء فيها، بل حتى الفئران نفسها قد غادرتها. قد يسمّي الآخرون ذلك مصيبة، لكني لا أسمّي ذلك حتى بالهمّ. يا سقراط ويا أيها الفلاسفة السقراطيون، لن أوفّيكم أبدا حقّكم في الشكر! اقترح عليّ فيستوريوس فكرة إعادة بنائها، وباتّباع رأيه فقد أتمكّن لاحقا من الاستفادة من هذه الخسارة المؤقّتة.

الفكر الرواقي عمليّا في الفضاء المعاصر

إذا كان الفكر الرواقي في العصور القديمة قد تم التفكير فيه من قبل فلاسفة كانوا أيضا رجال أعمال أو سياسيين أو محاربين مثل ماركوس أوريليوس، ألا ينبغي لنا أن نتصوّر رواقية تكون عمليّة بشكل كامل، وترتبط بالحياة اليومية؟

لا ريب أن الحياة اليومية في عصرنا ليست كما كانت عليه إبّان العصور القديمة، فالعمل والتكنولوجيا وأمد الحياة والعولمة والحقوق والواجبات الجمهورية يشكّلون بيئةً مختلفة تماما، وربما هاهنا نحتاج إلى إعادة النظر في الفلسفة الرواقية أو إعادة التفكير فيها.

لقد انصبّ اهتمام الفلاسفة الرواقيين خلال العصور القديمة، ولكن قد يكون هذا صحيحا أيضا بالنسبة إلى الفلاسفة القدماء الآخرين، على الربط بين الفكر والعمل كما سبق وأبرزنا. لكن يبدو أن هذا الربط يظل غائبا اليوم في مجالات عديدة، ولا يخلو ذلك من عواقب.

وبتعبيرٍ أكثر دقّة، ثمّة أعمال ومبادرات، لكيلا نقول ابتكارات، حيث يبدو واضحا أن الفكر غائب تماما. وسواء تعلّق الأمر بالذكاء الاصطناعي، أو بالبيانات الضخمة، أو بتسلسل الحمض النووي، أو بتعديل الجينوم البشري على سبيل المثال، يمكننا أن نتساءل أين هو الفكر الفلسفي الذي يسمح لنا بالحصول على وجهة نظر رواقية حول هذه المواضيع؟ أين هي عناصر المحاور الثلاثة التي قد تكون ذات فائدة جمّة لنا في عصرنا؟ لم يمضِ الكثير من الوقت على نجاح فريق من الباحثين الصينيين لأول مرة في تعديل جينوم أجنّة بشرية قابلة للحياة، فأين الفكر والأعمال الفلسفية التي تتصدّى لهذه القضايا التي تغيّر النوع البشري بشكل نموذجي؟

على ماذا ينصبّ اهتمام الفلسفة الرواقية اليوم؟ أليس هناك انكفاء للفلاسفة الرواقيين على أنفسهم، منفصلين بذلك عن المدينة؟ وعندما تكون آراؤهم مفيدة وصارمة، فأين يتحدثون؟ في الجامعة؟ هذا يعني بين طلاّبٍ شباب، فماذا عن بقيّة السكان مثل المخترعين والمبتكرين والمستثمرين الذين يقلبون وجودنا؟ أليس من الضروري أن تعود هذه الأفكار إلى غمر مجال الحياة اليومية؟

نحن نعلم أنه وبسبب بعض الابتكارات، تختفي مجموعات وأنواع حيوانية من الوجود. وقد انعكس التطور الهائل للتكنولوجيات والمنتجات والسلع الاستهلاكية مباشرة على استنزاف الموارد الطبيعية. ومما لا شك فيه أن ثمّة تدهورا حاصلا على مستوى الغلاف الجوي والتربة والمحيطات بسبب النشاط البشري والجري الدائم نحو مزيد من النمو الاقتصادي.

وأمام هذا الوضع، ألا ينبغي لنا أن نتخلى بكل بساطة عن الرغبة فيما لا يتوقّف علينا؟ ألا يجب أن نسمح لأنفسنا بالتساؤل عن الرغبات المضطربة، والعمل على ضبط النفس، ومراجعة أهوائنا التي تضرّ بسلوك الفرد؟ وأخيرا، أن نفكر في الاستخدام الجيد للتمثّلات، بالشكل الذي يضمن استقامة الفكر والكلام في الأحكام التي نصدرها.

لا يجوز أن نعزل أنفسنا عن العالم إذا أردنا أن نفكّر في الفلسفة الرواقية اليوم. تتيح لنا هذه الفلسفة المتأصّلة في الواقع، أن نرفع رؤوسنا ونسأل أنفسنا لماذا نقدِم على فعل ما نفعله.

كزافييه بافي أستاذ الفلسفة بمدرسة إيسيك لإدارة الأعمال، وباحث مشارك بمعهد الأبحاث الفلسفية التابع لجامعة باريس نونتير عن موقع The Conversation