No Image
عمان الثقافي

نقد: كينونة امرأة ذات واحدة قراءة في مجموعة «واقفة على قلبها كنخلة»

24 يناير 2024
24 يناير 2024

يولد الشعر من حرية الذات التي تختلف مستويات رؤاها في الحياة ضمن نطاق المؤثرات المختلفة، وإذ كان الشعر صوتا حرا في تشكيل المتفرد من خطاب العامة، فما يقوم عليه من الأساس هو الرغبة في أن يكون وحده في الخطاب والمعنى والفهم، وتعبير الشاعر -وإن اختلف من شاعر إلى آخر- لا يخرج من كونه يعلن كينونته، سواء اصطدم بالآخر أو اتفق معه، وإذا كانت المرأة تقع ضمن كثير من الأطر التي سعت إلى تهميشها أو كتم صوتها الإنساني لمعتقدات مختلفة لا تمت إلى الحقيقة والحق بأي صلة؛ فقد كان الشعر أكثر الخطابات الأدبية التي زعزعت هذه الأطر لتعلن حقها في الشعور والكلام والظهور وقبل ذلك الكينونة.

عائشة العبدالله في مجموعتها «واقفة على قلبها كنخلة» تؤكد هذا الإصرار على الكينونة، ومن عتبتها الأولى، عنوان المجموعة، تضع المتلقي على قلق الإصرار حين تحدد الشكل الذي يحمل طيات المعنى، فالوقوف على القلب يشيء بالصراع والإصرار والموقف، إذ النخلة رمز هذه المعاني، وهي في قسوة الأرض والتراب والحجر والطقس محور البقاء ومأوى العيش ومصدره، إضافة إلى ما يمكن أن تحمله كونه شجرة في تحقيق كثير من المعاني في بساطة صورتها وعظمة جذعها، وهي على الرغم من اختلافها عن كثير من الأشجار تشكل معجزة تنوع ثمارها في المحيط الذي تزرع فيه، إنها ليست وردة أو شجرة جوز أو رمان أو زيتون، لكنها أنثى تصر على البقاء والعطاء والاختلاف.

الشاعرة تضع المتلقي في مواجهة الهوية التي يحددها الإطار، وتعلن طبيعة الدافع إلى الإصرار من خلال تعيين ما يحاول الآخر تجاهله أو تجاوزه باعتباره طبيعة، لكنه في الأصل ما يعتقده الكثيرون مشكلة.

نولد إناثا.. هذه أول الحكاية

الأنثى تجسد الاختلاف في كل أصناف الكائنات، ولا يراها الكثيرون نوعا بقدر ما يرونها منزلة أقل، فنجد في الموروث والأعراف والمنقول بشاعة الخطاب والفكرة، وعلى الرغم من أن هذه الأنثى أم الفصائل، لكنها تتحول في تفكير الذكر البشري إلى تعيين مناقض يستدعي العلو بالجنس ليبقى في مصاف المفتخَر به، وتكون كل صفات التفاخر التعالي عن الوقوع في درجة الأنثى، حتى لو كان فعلها مشتركا، فسيكون عليه أن يختلف في تحقيقه. وتشير الشاعرة في نص المفتَتَح إلى القالب/ الفخ:

هل تخيلنا أن عالمنا سيكون ورديا، أليس هذا هو/اللون الذي اختاروه لنا؟/ ثم نكتشف أن اللون مجرد فخ، فخ لقالب مفروض، لا يجدر بنا أن نكسره.

هل كان على المرأة أن تختار لونا آخر حتى تتجنب الفخ كما تقول عائشة، أم أن الفكرة في الحساسية من اللون بعد أن كان لونا أنثويا، ألم يكن الأخضر دالا على فكرة أكثر عطاء، تشير الشاعرة إلى التجاوز والاختيار والتمازج والمشاركة، معاني تجد أنها من حقها في الخروج من محيط الفخ، أو التقييد أو حتى النظرة الأحادية. كل هذا الانصياع يؤدي إلى مرحلة أخرى تحكم خناق الكينونة التي تحلم بها الشاعرة/الإنسان.

تنتهي طفولتنا باكرا، تنتهي قبل أن ندركها، نتوقف عن اللعب لأن أحدا ما قرر أننا كبرنا

..

تتسع الهوة بيننا وبين أجسادنا، ويكبر وحده الألم. الألم الذي لا يمكننا التعبير عنه، فقط نتخفى في غرفنا السرية ونبكي.

النص يقدم الضد من الحلم، ما يمكن أن يحقق المرأة/الإنسان، في أن تكون خارج الإطار الذي لا يمت إلى فسيولوجيتها بصلة، الصورة الحقيقية، بعد ذلك تتلاحق نصوص المجموعة في الإصرار على كينونة الذات في تقلباتها ومواقفها باعتبارها إنسانا يحب ويكره ويقبل ويرفض، بل ويشكل ردات فعل غير واضحة لنفسه وللآخر. كما تعلن موقفها في نصها (لا أنتظر أحدا):

أنَا لا أنتظر أحدا، لا أبكي على انسحاب أحد، لا أفرق ملامحي في وجوه غائبة، ولا أفتل أصابعي لتوديع يد قررت الرحيل، أمد يدي غالبا لمن يحمل الضوء لي، ولكني سرعان ما أستعيدها قبل أن تنطفئ، وأردها إلى قلبي،

إن الدلالة الإيقاعية في نص الشاعرة تتحقق بفاعل تشكيل جملي في توزيع بارع يشيء باهتمام الشاعرة بتجربتها، فإضافة إلى دهشة الصورة التي لا ترهقها الشاعرة باستعارة الغائب/الحاضر، نجد منوال التوزيع الإيقاعي يخدم إصرار الشاعرة على تعيين الشخصية الإنسانية دون طرح تواز ذكوري يمكن أن يجردها من طبيعتها في أن تحدد مواقفها كأي شخص في المحيط البشري، ومع أن الشاعرة لا تريد الاعتراف -وإن أرادت أن تمارس مواقفها وحساسيتها كأي إنسان سواء كان رجلا أو امرأة- بأن هذا ردة موقف تجاه من يريد سلب حريتها في ذلك، لكن نبرة لغتها وتقسيمها الإيقاعي يعلن ذلك بصرامته وشدته، وتكرار (لا) في توزيع المتواليات الشعرية يؤكد الشخصية لكنه يؤكد ما قلناها حول ردة الفعل، فشخصيته ثابتة في حرية الرؤى والعواطف والكينونة، وتحقيق الهوية الطافحة على مستوى فهم العلاقات يبدأ من الضمير (أنا)، حيث لا أختلف عن غيري ولكني لست كما يظن الآخر بأني أشبه اللواتي لا يقلن: (أنا)، لكنها لا تستسلم في أن يكون الضمير ردة فعل، وإلا فإنه تراه استسلاما للإطار ولمن يراها في حيز الانتماء إلى من يقرر عنهن رغباتهن واختيارهن وعلاقاتهن ومواقفهن، ثم تعلن حق الكينونة في رؤية ما أريد أن أراه وكيف أراه، ولي قراري في ألا أستسلم حتى لمن يحترم كينونتي وكياني، فأقرر ما يبقي كل ما أحترمه في داخلي وما أريده لحياتي.

أمد يدي غالبا لمن يحمل الضوء لي، ولكني سرعان ما أستعيدها قبل أن تنطفئ، وأردها إلى قلبي،

امرأة قادرة على أن تدفع الثمن من أجل أن تكون هي، فما جرح روحها كاف ليصنع ما يجب عليها أن تكونه، ومهما اتسع العالم بعيوبه وتناقضاته، فالشاعرة تشكل من داخلها خارج الملموس، ومن خارجها كانت رغبتها في أن تعلن الشكل الذي لا يلائم الآخر المصر على تجاوزها، إنها لا تثق إلا بالسؤال وممارسة ذاتها بكل تحولاتها وخساراتها.

أتقن تشويه ملامح نفسي، أفعل أشياء لا أريدها، ربما رغبَة في التحدي، وربما شهوة للانتقَام، وربما لأنني ملغومة بالخسَارات،

إنها هي كما هي وبطبيعتهم، وإن كان ذلك ثمن الاختيار فهو تحقيق لهذه الذات بكل ما هي به وعليه، وكل ما يشبهني لي وما أشبهه يتصل بي وحدي حين أستطيع أن أقرر لنفسي ما أنا عليه، ومن أجل ذلك لا يكفي أن أقرر كينونة في وجه من ينكرني، بل أتجاوز ذلك إلى التحكم بمشاعري، حتى في الحب أبقى كما تعني لي كينونتي

حبي لك لا يشبهني، جارف كالسيل، متهور وجارح، نازف بالمطر والملح والعواصف، حبي لك غريب عني

تنتصر عائشة للحب وإن لم تتركه حرا في اجتياحها، فكينونتها تقف على الانتصار لذاتها، ومع ذلك هي الإنسان الذي لا ينكر ألمه به وإن أخفى دموعه

لم تعرف أمي أبدا عن بكائي..

لكنه تتمسك به في هذه الكينونة:

لم أخسر في الحب قلبي.. لم أخسر في الحب، سوى عدم رغبتي في الحب

هكذا هي مصرة على الانتصار لا تعبأ بما يمكن أن يثقل كاهل قلبها فتنسى ذاتها المتعبة، ذاتا تمارس وجعها وهشاشتها وضعفها كبشري لا ينقص من أن يبكي وأن يعترف

أحتاج كَتفا غريبَة لا تعرف شيئا عن رأسي، المثقلَة بالدبابيس

وأكثر من ذلك أن تبرز أوهامها محاولات قاسية لتحقيق الذات، وتتجاوز الملموس إلى المحسوس، تجد فيه تداخل الشك واليقين، ومن خلاله تعي ما يمكن أن يحققه له ألم الاختيار.

كانت تؤمن بالهواء فقط، ترفع رأسها، فيمد من عينيها أنبوبتين نحو السماء، تفرد يديها، ويحيلهما إلى فراشتين..

الفضاء والحرية والانعتاق من الآخر ومما قد يسببه من ألم، الطفلة التي تعلمت قول (لا)؛ تتكئ على ظلها، وتعلو فوق كل ما يمكن أن يثقلها عن الأفق؛ فإذا هي تتصل بالسماء لتحقيق ما يجب أن تكونه واثقة في الهواء الذي يرفعها عاليا، وحتى وإن كان الهواء حبا أو حبا تحقق في رجل؛ فهي تعول واثقة على ظهره حين تستعيد طفولتها ورغبتها في القفز؛ لأنها امرأة مختلفة وقوية

«ولا أحد يرغب في امرأة لا تتوقف»

«امرأة لا تعرف كيف تسيل، لكنها تدرك أين تلسع»

المجموعة كلها تأكيد على كينونة الذات، وانتصار لداخلها الذي حققته ردات الفعل المختلفة وانصهار في المتغير البشري الذي تنتمي إليه الطبيعة والشعور المشترك بين الرجل والمرأة، ومع أن العنوان يومض باضطراب التحقق في تركيب (على قلبها)؛ لكنه من ناحية أخرى يبني الصورة التي تزدحم بالأنوثة التي لا تفرض نفسها لتحقيق كينونتها، فلا تختلف عن الرجل إلا بما يقابله في صنع الملموس والمتحقق واقعا. وقد حاولت قراءة ما عجزت عن رصده في هذا التشابك الضروري في أن تقول الشاعرة بشريتها وطبيعة اختلافها.

محمود حمد شاعر وكاتب عماني