No Image
عمان الثقافي

نصيحة جوته للكتّاب الشبان

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

ولد يوهان بيتر إيكرمان سنة 1792. وفي عام 1823 بعث إلى يوهان فلوفجانج فون جوته مجموعة مقالات كتبها عن أعمال الكاتب، ثم أصبح مساعدا أدبيا له حتى وفاة الأخير سنة 1832. في ما يلي يوم دوَّنه إيكرمان في دفتره ساردا أحد اللقاءات التي جمعته بالكاتب والشاعر الألماني.

***

الخميس، 18 سبتمبر 1823

صباح الأمس، قبل أن يغادر جوته إلى فيمار، أسعدني الحظ فأنفقت معه مرة أخرى زهاء ساعة. كان ما قاله شديد التميز، عظيم القيمة عندي، وغذاء للفكر يدوم ما دامت الحياة. ويجب على جميع شعراء ألمانيا الشبان أن ينصتوا إلى هذا ـ فقد يكون لهم فيه عون كبير.

بدأ بأن سألني إن كنت كتبت أي قصائد في هذا الصيف. فقلت إنني كتبت القليل، لكنني في المجمل لم أشعر أنني في الإطار الذهني الصحيح المناسب للشعر. فكان جوابه على ذلك أن قال:

إياك والشروع في عمل عظيم. هذه هي الغلطة التي تقع فيه أفضل العقول لدينا، وأعظم الناس مواهب وأجمحهم طموحا. وإنني شخصيا ارتكبت هذه الغلطة، وأعرف ما كبدتني إياه. فما أكثر ما كان لديَّ وانتهى إلى لا شيء! لو أنني كتبت كل شيء بالكمال الذي كنت أقوى عليه، لملأ ما يربو على مائة مجلد.

للحاضر حقه عليك، والأفكار والمشاعر التي تتكالب على الشاعر كل يوم تحتاج إلى أن توضع في كلمات، وحقّ لها ذلك. فإن كان عقلك أسير عمل عظيم ما، فما لشيء آخر أن يختلس نظرة إليه، لذلك تزاح كل الأفكار الأخرى جانبا، ولا يعود بوسعك حتى أن تنعم بمسرات الحياة العادية. وإن قدرا هائلا من البذل والجهد الذهني لازم لمجرد أن تصوغ وتنظم كلًّا عظيما، ويلزم أيضا قدر هائل من الطاقة، فضلا عن فترة غير منتهكة من السلام والهدوء في حياة المرء، لإخراج ذلك كله على الورق في مسودة واحدة متصلة. أما إذا انتقيت المشروع الخاطئ ليكون بداية لك، فكل جهودك إذن هباء، بل إنك إن توليت أمرا شديد الضخامة، ولم تكن تحكم السيطرة على مادتك في بعض مواضعها، فالكل سوف يكون غير مرض لك في مواضع منه، وسوف يؤاخذك النقاد. فلا يلقى الشاعر على جهده الكبير وتضحيته الكبيرة مكافأة أو سرورا، بل هو الضغط فقط والنيل من ثقته. أما الشاعر في المقابل الذي يلتفت إلى لحظته الحاضرة في كل يوم، ويكتب الطازج والعفوي عما يعترضه في طريقه، فمن المؤكد أن ينتج شيئا ذا قيمة، وإن حدث بين الحين والآخر أن أخفق في هذا الشيء أو ذاك، لا يكون شيء قد ضاع منه.

عندك على سبيل المثال أوجست هيجن في كونيشبرج، وهو كاتب رائع الموهبة. هل قرأت له «أولفريد ولايزنر»؟ فيها فقرات لا يعلى عليها: تصوير الحياة على ساحل البلطيق، وكل ما يتصل بالمشهد المحلي، كلها عظيمة البراعة. لكن ما هذه غير فقرات جميلة، أما العمل كله فغير مرض. وإنك لتفكر في الشغل والجهد الذي بذل فيه ـ لقد أضنى الرجل نفسه حتى أوشك أن يهلكها! وما كتبه الآن مأساة.

وتريث جوته لوهلة مبتسما. ونطقت قائلا إنه، ما لم يجافني الصواب فيمعن في المجافاة، قد أسدى النصح لهيجن في «كونست وأولترتم» بأن يقصر نفسه على معالجة المواضيع الصغيرة.

فكان جواب جوته أن قال «يقينا فعلت ذلك، لكن هل يأخذ الناس بالنصح منا نحن أهل الماضي؟ ما من أحد إلا ويحسب نفسه أعلم الناس، ونتيجة ذلك أن كثيرا من الكتاب الشبان يضلون الطريق، وأن كثيرين منهم يبقون طويلا في ضلالهم. لكن لا ينبغي لأحد أن يضل الآن، لقد كان ذلك شأن جيلنا نحن، ذلك السعي والضلال، فماذا كانت غاية كل ذلك لو أنكم معشر الشباب مضيتم في مثل ما مضينا نحن فيه من دروب؟ بهذه الطريقة لن نصل إلى شيء! جيلنا لم تؤخذ عليه أخطاؤه، لأننا لم نعثر على دروب مطروقة فنسلكها، لكننا ينبغي أن ننتظر المزيد ممن يأتون في أعقابنا. بدلا من تكرار السعي والضلال تارة أخرى، يحق عليهم أن يلتمسوا النصيحة منا نحن الكبار ويتبعون الطريق الصحيح منذ البداية. ليس كافيا أن تخطو خطوات تهديك يوما ما إلى غايتك، فكل خطوة يجب أن تكون غاية في ذاتها، ونقلة على الطريق، في آن واحد.

ضع ما قلته لك في اعتبارك، وانظر كم منه يصلح لك. الحق أنني لا أشعر بقلق عليك، لكن لعلك بتشجيعي سوف تجتاز عما قريب مرحلة لا تلائم وضعك الحالي. في الوقت الراهن، لا تبرح المواضيع البسيطة، وحافظ على العفوية، لا تتجاوز الأشياء البسيطة التي تطرح نفسها لك كل يوم، وبصفة عامة، سوف تنتج شيئا جيدا، وكل يوم سوف يهبك البهجة. ابدأ بإرسال أعمالك إلى الكتيبات والدوريات، لكن إياك أن تذعن لمطالب الآخرين. واتبع على الدوام غرائزك.

الدنيا شديدة الشسوع والثراء، والحياة مليئة بالتنوع، فلن يعوزك أبدا ما يلهمك بالقصائد. لكنها يجب أن تكون دائما «قصائد عارضة»، بمعنى أن الحياة الحقيقية هي التي ينبغي أن تقدم لكل العارض والمادة. وكل حادثة معينة تصبح كونية شعرية بفضل أن الشاعر يكتب عنها. كل قصائدي «عارضة»، مستلهمة من الحياة الحقيقية، وقائمة عليها في رسوخ. ولا وقت لدي لقصائد تنتزع من الهواء.

لا تدع أحدا يوهمك أن الحياة الحقيقية تفتقر إلى الاهتمام الشعري. فهذا على وجه التحديد ما يفعله الشاعر: هو الذي لديه من العقل والخيال ما يجعله يعثر على شيء مهم في أشياء الحياة اليومية. الحياة الحقيقية توفر الموتيفات، توفر رؤوس الأقلام الواجب قولها، الجوهر الفعلي للمادة، لكن وظيفة الشاعر هي أن يصمم من كل ذلك كلا جميلا نابضا بالحياة. لعلك تعرف فورنشتاين، الذي يوصف بـ«شاعر الطبيعة»؟ كتب قصيدة عن زراعة حشيشة الدينار، ولا يمكن أن تتخيل ألطف منها. فطلبت منه أن يكتب قصائد تحتفي بعمل الصناع المهرة، وبخاصة النساجين، وإنني على يقين من أنه سوف ينجح، فقد عاش وسط أمثال أولئك الناس منذ بكورته، وهو يعرف الموضوع قلبا وقالبا، وستكون له الهيمنة كاملة على مادته. وتلك ميزة الأعمال الصغيرة، لا تكون بحاجة فيها إلا إلى اختيار مواضيع تعرفها وتملك زمامها. أما في عمل شعري طويل، فلا يكون هذا ممكنا. وما من سبيل للالتفاف على ذلك، فجميع الخيوط المختلفة التي تربط الكل ربطا، والمنسوجة في التصميم، لا بد من عرضها بالتفصيل الدقيق. والشباب ليس لديهم غير رؤية من جانب واحد للأشياء، في حين أن العمل الطويل يقتضي تعددا في زوايا النظر، وفي هذه النقطة يكون إخفاقهم.

قلت لجوته إنني أخطط لكتابة قصيدة طويلة عن الفصول، أنسج فيها وظائف جميع الطبقات المختلفة وملاهيها. فقال جوته «هذا بالضبط ما أتكلم عنه».

قد تنجح في أقسام كثيرة من القصيدة، لكنك في أقسام أخرى سوف تفشل، لأنك لم تدرس الموضوع الدراسة الواجبة وتنقصك المعرفة اللازمة. فقد تصيب مع صياد السمك، لكن ليس مع صياد الحيوانات. وأنت إن أخطأت في أي شيء تماما، يتدني الكل حينئذ، مهما تكن جودة بعض أجزائه، وتخفق في إنتاج شيء كامل. أما إذا ما تناولت فقط الأجزاء الواقعة في نطاق قدراتك، وجعلتها في أعمال منفصلة، فإنك يقينا ستنتج شيئا جيدا.

ولا بد أن أحذرك بخاصة من المواضيع الجليلة التي يبتكرها خيالك. فذلك يتطلب إعطاء وجهة نظر معينة للأشياء ـ والشبان نادرا ما يكونون ناضجين بما يكفي لذلك. فضلا عن أن مخزون الشاعر من الشخصيات ووجهات النظر التي يخلقها ينضب، فيفتقر إلى الموارد اللازمة لمزيد من الإنتاج. ثم فكِّر في قدر الوقت اللازم للحلم بالمادة، ثم لبنائها، وللربط بين أجزائها، ذلك وقت لا يشكرنا أحد عليه، وهذا بفرض أن نتدبر إتمام العمل في المقام الأول.

ومع مادة معينة، في المقابل، يختلف الأمر تمام الاختلاف ويسهل أشد السهولة. فالمواقف والشخصيات موفورة بالفعل، وكل ما على الشاعر أن يفعله هو أن يحييها. فيبقى مخزونه الخاص دونما مساس، بلا حاجة إلى استدعاء الكثير من نفسه، ويقل كثيرا إنفاق الوقت والطاقة، لأن كل ما عليه أن يشغل به نفسه هو التنفيذ. بل إنني قد أغالي فأنصح باختيار مواضيع مطروقة فعلا. فلقد كُتبت إيفيجنيا على سبيل المثال مرات كثيرة، لكن كل نسخة منها مختلفة، لأن كل كاتب يرى الأمور رؤية مختلفة، ويقدمها على طريقته.

لكن الآن، ينبغي أن تنحي جانبا كل المخططات الكبرى. لقد أجهدت نفسك لوقت طويل، وآن لك أن تبدأ الاستمتاع بالحياة، والسبيل الوحيد إلى القيام بذلك هو تناول مواضيع بسيطة.

في ثنايا ذلك الحوار كنا نذرع الغرفة جيئة وذهابا. وجدت نفسي أوافقه في كل ما قال، فقد بدت كل كلمة صادقة في أعماقي. شعرت بنفسي مع كل خطوة أزداد خفة وسعادة، فعليَّ أن أعترف أن مختلف المشاريع الضخام لدي، مما لم أكن بعد قادرا على تمييزها في عقلي، كانت تثقلني وتنوء بي. ولقد طرحتها الآن عن كاهلي جانبا، فهي حيثما سأتركها إلى أن يحين الوقت الذي يمكنني الرجوع فيه إليها بقلب هانئ فأعمل فيها موضوعا بعد موضوع ومشهدا تلو مشهد، فيما أتقدم تدريجيا في دراسة العالم، إلى أن تتم لي السيطرة على كل جزء في مادتي. أشعر أنني تقدمت سنوات عدة، ونلت سنين عديدة من الحكمة من جراء كلمات جوته، وإنني أعرف في أعماق قلبي بهجة فهم ما تعنيه مقابلة معلم حقيقي. فجزاء ذلك لا يحصى ولا يعد.

سأتعلم منه الكثير في هذا الشتاء، وسأحظى بالكثير من جراء إنفاق الوقت برفقته فقط، حتى حين لا يقول أي شيء في لحظة بعينها. يبدو لي أن لشخصه، ولحضوره الملموس في ذاته، أثرا تكوينيا وتهذيبيا، حتى حين لا يقول أي شيء.