No Image
عمان الثقافي

رغبة ما بعد الرأسمالية لمارك فيشر هل يمكن إيجاد أفق ينقذ العالم من توحش الرأسمالية؟

23 فبراير 2022
23 فبراير 2022

يوضح الكتاب تاريخ تغير الوعي الطبقي من المرحلة الإقطاعية، إلى مرحلة النهضة الصناعية، ودورها في تغيير الوعي الطبقي

يجادل لاند بأن الرأسمالية مستمرة اليوم لأن الفضاء الإلكتروني «موجود تحت جلدنا بالفعل»

يفتح الكتاب آفاقا جديدة في الأفكار ومصادر المعرفة وتحليل الثقافة لفهم السياسة والاقتصاد والمجتمع

تكشف محاضرات الكتاب كيفية التفكير في التغيير في مجتمع تنبني الأفكار فيه من قلب واقعه الاجتماعي والثقافي

«م.ف: لماذا ابتكر مارك زوكييربيرج فيسبوك؟ لماذا يفعل شيئا كهذا؟

ج: ربما لم يكن في ذلك الوقت يعرف، لكن استغرق مدة إلى أن فهم

م.ف: حسنا، هو لا يعرف، لكن شيئا ما قد يعرف. رأس المال يمكنه أن يعرف أليس كذلك؟ يمكن لرأس المال أن يعرف لأن رأس المال مثل الانتخاب الطبيعي، إنه يختار الأشياء.

هناك بشر يتخذون قرارات واعية في نقاط حاسمة لكن هناك أيضا أشخاص مثل زوكربيرج هم دمى في رأس المال دون أي نوع من التفكير».

هذه الفقرة الحوارية بين المفكر البريطاني الراحل مارك فيشر (1968-2017)، وواحد من طلبته تأتي في سياق كتاب «رغبة ما بعد الرأسمالية»، الصادر عن منشورات تكوين في الكويت، من ترجمة نوال العلي.

والحقيقة أن هذا كتاب مفاجئ على عدة مستويات؛ أولها طبيعة الكتاب نفسه، فهو يتضمن تفاصيل خمس محاضرات ألقاها المفكر والأكاديمي الراحل مارك فيشر على طلابه، وثاني المفاجآت أنه تضمن خطة فصل دراسي مكون من 15 محاضرة كل منها تتناول مفهوما حول موضوع ما بعد الرأسمالية، من خلال التركيز على قراءات لكتاب أو أكثر مما اقترحه فيشر، لكن المفاجأة الثالثة أن الكتاب تضمن خمس محاضرات فقط لسبب درامي جدا، وهذه مفاجأة أخرى؛ إذ أن فيشر انتحر عقب المحاضرة الخامسة في يناير عام 2017، وقبل إتمام بقية المحاضرات، بالرغم من أن المحاضرات كلها تدور في إطار المستقبل والتصورات عن كيفية إيجاد نظرية تفكير تصلح لأخطاء اليسار الدراماتيكية في إطار محاولة تقديم تصور لنقد فعال لمنظومة الرأسمالية تمهيدا لإيجاد أفق جديد يخلص العالم من توحش الرأسمالية.

وبرغم صعوبة الكثير مما يطرحه الكتاب من أفكار ومصطلحات فقد تجلى الجهد الكبير الذي بذلته المترجمة نوال العلي في النص، وفي الهوامش العديدة الشارحة التي قدمتها على امتداد متن الكتاب.

مارك فيشر

وربما يجدر بداية التعريف بالمحاضر الراحل قبل الانتقال إلى مضمون الكتاب.

ولد مارك فيشر عام 1968 في ليستر لأبوين محافظين من الطبقة العاملة. تأثر في شبابه بالصحافة الموسيقية في أواخر السبعينيات، كما تأثر بالعلاقة بين ثقافة الطبقة العاملة وكرة القدم. وحصل فيشر على درجة البكالوريوس في الآداب في اللغة الإنجليزية والفلسفة في جامعة هال. (1989)، ثم دراسة الدكتوراه في جامعة وارويك في عام 1999. كان عضوا مؤسسا للجماعة المتعددة التخصصات المعروفة باسم وحدة بحوث الثقافة السيبرانية.

بعد فترة من التدريس كمحاضر في الفلسفة، بدأ فيشر مدونته حول النظرية الثقافية، ك-بونك K-Punk، في عام 2003، التي وصفت بأنها «مجلة رجل واحد تتفوق على معظم المجلات في بريطانيا». وقد كان لهذه المدونة تأثير بالغ تصفه نوال العلي بقولها: بما لم يحدث إلى اليوم أن وصلت مدونة موسيقية في تأثيرها في الأوساط الثقافية إلى هذا الحد. كثيرون يعتبرونها اليوم أرشيفاً أساسياً لفيشر كظاهرة، مثلما يؤرّخ لمرحلة ويمثل جيلاً يعيش تحت نير النيوليبرالية كعقيدة سياسية اقتصادية، من وسائل هيمنتها التي بدأت تصبح أقوى وأوضح في العقد الماضي التمييز والعنصرية والأصولية العرقية وتغييب الوعي الثقافي، فالسياسة النيوليبرالية التي بدأت في نهاية السبعينيات عنت ـ بحسب فيشر ـ عودة القوة والامتياز الطبقي وتهيئة الظروف لتراكم رأس المال. وأدت معاناته المستمرة من الاكتئاب إلى انتحاره في يناير 2017.

لا مزيد من صباحات الاثنين!

قبل بدء المحاضرات يقدم محرر الكتاب مات كوهون مقدمة طويلة بعنوان «لا مزيد من صباحات الاثنين البائسة». وهو عنوان له دلالات عديدة، منها أنه يحيل رمزيا على يوم الاثنين الذي يعد موعد بداية أسبوع العمل، بكل إحالات فكرة العمل الرأسمالية وما تعنيه على الطبقة العاملة، من جهة، ومن جهة أخرى أن محاضرة فيشر لطلبته كانت أولى محاضرات يوم الاثنين من كل أسبوع!

ووفقا لكوهون؛ أخذت سلسلة المحاضرات هذه اسمها من مقال نشره فيشر سابقا في عام 2012، يستكشف علاقة الرغبة بالسياسة في سياق ما بعد الفوردية..

ركز فيشر في المحاضرة الأولى على تقديم تعريف لمفهوم «رغبة ما بعد الرأسمالية»، وربما يمنح مصطلح ما بعد الرأسمالية الإحالة على مفهوم ما بعد حداثي ينبني عليه هذا المفهوم، لكن فيشر، خلال المحاضرة، يوضح؛ مستعينا بنماذج من الدعاية التجارية المصورة في فيديوهات معروفة، والإشارة لأفلام محددة، متوقفا لاحقا عند أمثلة أوضح فيها كيف كان الاتحاد السوفييتي في مواجهة الرأسمالية يقمع الرغبة في الاستهلاك عبر أمثلة عديدة، كما يقدم في الوقت نفسه نقدا للسياق القمعي الذي صاحب التجربة السوفييتية، لكي يوضح فكرته في مدى صدق المطالبين بمواجهة الرأسمالية في مجتمع يتحقق فيه ما يسمى بما بعد الرأسمالية، فهل يمكن لجيل ممن يطالبون بما بعد الرأسمالية أن يستخدموا الوسائل الرأسمالية في سعيهم لما بعدها؟

وفق فيشر ينبني مفهوم ما بعد الرأسمالية على سؤال: لماذا نستخدم هذا المصطلح بدلا من «الشيوعية» أو الاشتراكية أو سواهما؟ ويجيب بالقول: «حسنا، أولا وقبل كل شيء حتى لا يتم تلطيخه عبر ربطه بالمشاريع الفاشلة والقمعية السابقة. يمتلك مصطلح ما بعد الرأسمالية شيئا من الحياد ليس موجودا مع الشيوعية والاشتراكية».

ثم يستطرد موضحا «كما أن ما بعد الرأسمالية تنطوي على الاتجاه، أليس كذلك؟ إذا كانت ما بعد الرأسمالية فهي إذن انتصار؛ وانتصار سوف يتحقق من خلال الرأسمالية. إنها ليست فقط معارضة للرأسمالية، إنها ما سيحدث عندما تنتهي الرأسمالية، تبدأ من حيث نكون».

شيوعية حبوب الهلوسة!

وربما من المناسب هنا الإشارة أن مارك فيشر قبل وفاته، كان يعمل على كتاب بعنوان «شيوعية حبوب الهلوسة» Acid Communism، وهي مجموعة أفكار مرتبطة بتيار الثقافة المضادة في الستينيات؛ كان يحفر في مناطق جديدة في الموسيقى والفنون البصرية والأدب من خلال الحبوب المؤثرة ذهنيا ونفسيا (توضح المترجمة نوال العلي أن المقصود بالمصطلح كما يعرفه فيشر في مقدمة ذلك الكتاب بوصفه طرق تخيل عالم ما بعد الواقعية الرأسمالية).

ويتقدم فيشر في طرح أفكاره لطلبته، من خلال قراءات مقترحة يقدم بها مشروعا لنقد النيوليبرالية، لكي يتم الانطلاق من نقد الرأسمالية من داخلها، مشيرا على سبيل المثال إلى كتاب كارل فريدمان حول نيكسون بالقول «إن البرنامج النيوليبرالي-على الرغم من تركيزه على الحرية- هو في الحقيقة، كما أعتقد ينطوي على الكثير من الضغينة. ما هي البدائل لذلك؟ التضامن هي كلمة واحدة لذلك» ويقترح بديلا للتضامن مصطلح الزمالة» ليبتعد عن الالتصاق باللينينية في حال استخدام مفهوم التضامن. ولكنه لاحقا يكشف تناقض المجتمع النيوليبرالي الذي ينادي بالحرية، بينما يعمل على قمع الغرائز.

ويوضح مات كوهون جانبا من فكرة «شيوعية حبوب الهلوسة» بالقول: (ما كان يهم فيشر فعلا، أن حالة الخدر والانشداه التي يصل إليها الفرد بتحريض ذاتي – سواء بشكل كيميائي أو غير ذلك- تعني أن يقوم بعمل الرأسمالية نيابة عنها، كما لو كان مدفوعا بالتكرار القهري الفرويدي لينفذ، على نحو مصطنع استيلاء الرأسمالية المعرفي من الداخل، كاشفا أن لدى الكائن البشري «ميلا ملحوظا ليبحث عن ويتماهى مع الطفيليات التي تضعفه ولكنها لا تقضي عليه بشكل تام»).

بوهيميا الثقافة المضادة

المحاضرة الثانية- أو الفصل الثاني- والذي يأتي تحت عنوان «بوهيميا الثقافة المضادة كتكوين مسبق»، بالتركيز على قراءة مفهوم ماركوزة لجدلية الحضارة من جهة وعلى استخدام فرويد للقصة المتخيلة لـ «الجماعة البدائية» من جهة تالية، يتناول عددا من المفاهيم الخاصة بتركيبة العائلة الاجتماعية البورجوازية في ظل انحسار شكل العائلة التقليدي في المجتمعات الغربية، والمجتمع الرأسمالي إجمالا، بسبب الميل للعزلة، واستقلال حياة الشباب وتأخر عمر الزواج وتغير المفاهيم الخاصة بإنشاء عائلة في الزمن المعاصر، ثم يعمل على تحليل النماذج اليسارية التي قدمت حلولا بديلة لشكل العائلة البورجوازية التقليدي من مثل الحياة في كميونة أو في جماعات تتخلى عن النموذج البورجوازي للعائلة، وعلاقة ذلك بالتصورات البوهيمية التي انتشرت في تلك الفترة وتقييمها. ثم يمد الفكرة إلى مستوى آخر يتعلق بمفهوم الكبت في المجتمع وعلاقته بقيم العمل، ثم علاقة ذلك بالتحول في مركز قوة أو سلطة الأب، من خلال تتبع التغيرات التي أدت لاستعادة المرأة مكانة جديدة منبثقة من استقلاليتها كما تجلى بشكل خاص في الستينيات والسبعينيات.

في هذه المحاضرة كان فيشر يمهد للمحاضرة اللاحقة التي تركز على التحول من الوعي الطبقي إلى وعي الجماعة، منطلقا من قراءة لوكاتش. ويحاول أن يوضح تاريخ تغير الوعي الطبقي من المرحلة الإقطاعية، إلى مرحلة النهضة الصناعية، ودورها في تغيير الوعي الطبقي، ثم يعرج على دور الحركة النسوية في تغيير الوعي في المجتمعات الحديثة بشكل عام.

ثمة جانب لافت في الكتاب هو أنه يوضح أو يتوقف عند صعوبة الكثير من الأفكار أو الكتب المقترحة على الطلبة، لكنه يجد ثغرات للتبسيط والتوضيح أو لمنح الطلبة الفرصة للإحاطة بجوهر الفكرة التي يريد أن يصل إليها من خلال القراءة المقترحة.

ويهتم فيشر بهذه المقدمات للتأكيد على إصرار الرأسمالية على منع القدرة على الوعي، عبر عدد من الأمثلة وصولا إلى دور الهاتف النقال اليوم «إنهم يعطوننا أشياء ضمن وقتنا تماما. تخيل لو كان بإمكانك ابتكار شيء مثل هذا، من خلاله يمكنك أن تشتت انتباهك بنفسك إلى ما لا نهاية في أي بقعة من العالم وفي أي وقت يتم الوصول إليك بأوامر رأسمالية»!

أو عندما يتشاجر الأفراد حول من لديه امتياز أكبر على تويتر، على سبيل المثال، وينقلبون على بعضهم البعض، فإن العدو الحقيقي – الرأسمالية نفساها- متروك تماما.

وهذه نقطة يتم نقاشها بأشكال عديدة الحقيقة، ومن بينها تلك التي أشرت إليها في بداية المقال حول فيس بوك، ولها إرهاصات أخرى من نموذج نقدي يتوقف عنده فيشر رغم اختلافه معه، وهو تعليق للسياسية المحافظة «لويز مينش» على التلفزيون البريطاني حول النفاق الواضح لمتظاهري حركة «احتلوا» في 2010- المتظاهرون الذين شجبوا الرأسمالية أثناء وقوفهم في طابور ستاربكس، وغردوا عن السياسة من أجهزة آيفون خاصة بهم- فقد جادل فيشر بأن موقف السياسية البريطانية مينش يتطلب، رغم أن سخريتها سطحية إلى حد ما، أو مثيرة للسخرية، فقد رأى فيشر أنه رأي يتطلب استجابة جادة. كان هذا يشير إلى أنه في حين أن سخرية مينش كانت سطحية فإن الآثار المترتبة على نقدها ظلت مقلقة للغاية.

رغبة ممولة بالقروض!

وفي هذا كله نرى جانبا من محاولات البحث عن إجابة سؤال: إلى أي مدى يتم الاستيلاء دائما وفعلا على رغبتنا فيما بعد الرأسمالية وتحييدها من قبل الرأسمالية نفسها؟ كيف يفترض بنا أن نكافح «اشتداد الرغبة في السلع الاستهلاكية الممولة بالقروض؟».

ومثال شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصا هي نماذج دالة جدا مرجعيتها بالنسبة لمارك فيشر من خلال الارتباط الوثيق بالكتابات المناهضة للماركسية لأستاذه السابق «نيك لاند»، على وجه الخصوص مقال لاند «رغبة ميكانيكية»، هنا يدافع لاند عن أن تصبح الرغبة مطابقة لقوى الرأسمالية وحلولية فيها. إذ يجادل لاند بأن الرأسمالية مستمرة اليوم لأن الفضاء الإلكتروني «موجود تحت جلدنا بالفعل»، والتراجع عنه هو تراجع إلى خيال ما قبل رأسمالي لا وجود له.

لكن مارك فيشر يأتي بهذا النموذج ليعارض مقولة حتمية الرأسمالية ويقدم الطرق التي يمكننا من خلالها مواجهة هذه الانتقادات أو تفسيرها بشكل أخلاقي من خلال تحقيق رغبة مضادة للرغبة الرأسمالية –رغبة ما بعد الرأسمالية-، وهذه هي القوة المحركة التي تقف خلف سلسلة محاضرات فيشر.

يعرض الكتاب أفكار المحاضر، وتعليقات الطلبة، أو تداخلهم وتوضيحاتهم، وهو ما يمنح الكتاب ميزة إبراز حيوية المحاضرات، والأفكار، وإن كان الأمر يتسبب أيضا في نوع من كبح انسيابية عرض بعض الأفكار، بسبب السجال والأخذ والرد والانقطاع عن الفكرة ثم العودة إليها. لكن بطبيعة الحال فإن كتابا كهذا يقرأ أكثر من مرة، ويمنح قارئه أفكاره تدريجيا.

وسوف تستمر المحاضرتان اللاحقتان في تعميق هذه الأفكار في محاولة لفهم كيف يدرس التاريخ لفهم فكرة كيفية تشكل وعي الجماعة أولا، ثم الكيفية التي قرأ بها المفكر ليوتار أفكار ماركس لبحث فكرة الرغبة والرأسمالية في أعمال الأخير. وهو ما يمثل علامة مهمة في بناء هذا الكتاب الذي يمتلئ بأفكار ملهمة ومهمة، تفتح أفقا لمستقبل لم ير بعد وهو ما بعد الرأسمالية، ويحاول أن يتخيله، ويجعل منه واقعا.

ومن المؤسف حقا أن ينهي فيشر حياته قبل أن ينهي هذه المحاضرات التي وضع تصميم خطتها كاملة للطلبة في أولى المحاضرات، وهو ما جعلهم، بعد فترة أعقبت رحيله الصادم يحضرون لقاعة المحاضرة في اليوم المخصص للمحاضرة أسبوعيا لاستعادة ذكراه، ثم قرروا إتمام كافة القراءات وفق المنهج الذي صممه لهم، والنقاش مع بعضهم البعض، ثم بدعوة وبحضور عدد من زملاء وأصدقاء فيشر المتخصصين في أفكاره.

حالة أكاديمية تجريبية

جانب آخر مهم يوضحه الكتاب يتعلق بالمستوى الأكاديمي نفسه. الكيفية التي يقدم بها أكاديمي بريطاني لطلبته تصميما لمنهج بحث. عدد كبير من المراجع والكتب التي يطالبهم بقراءتها، وإشراكهم في القراءة ومشاركتهم في الطرح، والإنصات إلى ملاحظاتهم، وتطوير أفكارهم، وهي كلها ملامح لثقافة تشيع فيها العقلية النقدية، وتقدم نقدا سياسيا للمجتمع من وجهة نظر فكرية وفلسفية. والأهم أن الكتاب يقدم جانبا من شخصية فيشر غير معروفة للناس: وبوصف المحرر فيشر تجريبي يطور الحجج على أرض الواقع ويعمل على إقناع طلابه ورفع وعيهم بأن عاملا آخر ممكن. من دون أن نغفل كيف أن مثل هذه الحيوية العقلانية في التفكير لا تقف أبدا موقف الرؤية الأحادية التي تفاضل بين بديلين أبيض وأسود، ولا تلغي طرفا لأجل الآخر، بل تتحلى بالموضوعية التي تعرف كيف تستفيد من المعرفة لأجل رؤية أكثر وضوحا.

كتاب يفتح آفاقا جديدة في الأفكار ومصادر المعرفة وتحليل الثقافة لفهم السياسة والاقتصاد والمجتمع. وفي تقديم نموذج حيوي للتفكير الجدي في أفق ما بعد الرأسمالية، ليس كحلم مستحيل، بل كواقع لا بد أن ينقذ البشرية من توحش الرأسمالية. الكتاب يجعل المرء واثقا من أن محاضرا كهذا لا بد أن يجد في تلامذته من سيلتقط الخيط ويمضي باحثا عن «ما بعد الرأسمالية»!

أيضا تكشف لنا المحاضرات كيفية التفكير في التغيير في مجتمع تنبني الأفكار فيه من قلب واقعه الاجتماعي والثقافي، أي أن الأفكار تنبني على تاريخ المجتمع البريطاني الغربي، التي أقيمت على تحولات المجتمع منذ الثورة الصناعية وصولا إلى زمن الثورة التقنية الراهنة. وبالتالي فالأفكار في غالبيتها أصيلة أي تخص المجتمع البريطاني، وليست مستوردة من ثقافات أخرى كما يشيع لدى النخب العربية التي تتحدث عن التغيير الثقافي والاجتماعي فتستعير مناهج الغرب وأفكاره لتطبقها على مجتمعات لم تمر بالخبرات التي مر بها المجتمع الغربي فتبدو إما أفكارا كسيحة أو غير واقعية أو حالمة!

مع ذلك، أي مع الأخذ في الاعتبار أن المواد المساقة كمثال والنقد موجه بشكل خاص في مجتمع بريطاني ويقدم نقدا للرأسمالية البريطانية، لكن في ظل العولمة تغدو مثل هذه الأفكار على درجة كبيرة من الأهمية لأي مجتمع؛ ويمكن الإفادة منها بسبب التأثير المتبادل للظروف الاقتصادية والثقافية بين المجتمعات في ظل امتداد شبكة الإنترنت ومظاهر العولمة. تبقى إشارة أخيرة أن التسجيلات المستخدمة للمحاضرات الخمس قام بها وشاركها نيس زافرل، وهو حاليا طالب دكتوراه في جامعة هارفارد.

إبراهيم فرغلي كاتب وصحفي مصري