No Image
عمان الثقافي

الواقف

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

الواقف الذي يعكّز عينيه بكامل جسده. تعبر عليه كل الأشياء ولكنه يرى فقط ما تسمح به زوايا محجريه. زوايا الرؤية وحدود انعطافات النظر. فهناك ما يكون خلف ظهره ولا يعنيه، وهناك ما يعبر جنب صدغيه ولا يعنيه، وهناك ما يخطر فوق طرفات العين ولا يعنيه. وهناك أمور أخرى كذلك تفوته عندما يسرح، أوفي لحظات العطس، أو حين تغطي عينيه الدموع.

هذه حدود الواقف لرؤية الأشياء، ولا حدود لما يمكن أن يغيب عن عينيه حتى وإن ظن بأنه مراقب جيد.

أنا الواقف الذي يتأمل الواقفين جالسا. في الصباح تدفع أمي الكرسي ورائي، ثم تتركني لأتهوى. انتهى الحوار بيننا منذ زمن، أو فلنقل إنه اتحد وتحولت الكثير من الألفاظ إلى إشارات محفوظة. حفظنا كل شيء بيننا حتى احتقانات وجهينا. حفظت كذلك نظرات الصبر في عيني أمي وقد أعيتها الحيلة في إيقاف صراخي الذي أطلقه في أي مكان .

وفي الصباح، بعد أن تحممني وتغير ملابسي وتلقمني الإفطار وتسقيني جرعات القهوة، تتركني في الشارع وتذهب لتنهي أعمالها.

أمي الحزينة التي لم أعرف أن حب غيرها. هي من يحبني. أنا أي امرأة ستحبني؟ يعطفون عليّ وأمي تحبني. أمي تخاف أن تموت قبلي أكثر مما تخاف على موتي. غربان عمياء تجوب قلبي فأسرحها في مراقبة الناس أو الصراخ.

بدأت أعرف من نظرات الناس أين تذهب أمي حين تتركني. ولكن عليها هي الأخرى أن تهرب قليلا. أمي التي ماتت حيّة قبل أوانها. تتحد نظرات الشفقة عليّ بالسخط لمن يعرفون سيرة أمي. في المساء كذلك تضعني في الشارع. تركها أبي وأنا عمري خمس سنوات بأطراف لا حياة فيها.

من سيتزوجني الآن. من يقبل بي وأنت معي؟

لا تعرف أمي من تلوم وهي توجه نظرات كالحديد ناحيتي. تقترب مني وتحضنني، فنظل نبكي حتى يدفننا النوم.

الآن أنا كبرت. ليس للأعمار معنى لأمثالي ولكني كبرت كما يجب أن يعبر الزمن على أي شيء. وتوهج حبي لأمي. أحببت كل قطعة في جسمها. أحببت رائحة بكائها، تموجات جلدها، هواءها. عذراء لم تمسسها روح الله.

وكانت جارتنا عزيزة تعزيها:

-هذا الولد من سيدخلك الجنة. هو صلاتك وصومك. فكل ما تفعلينه من أجله، تقرب إلى الله.

انقطع عن أمي كل الزوار من أهلينا. وظلت جارتنا السوداء عزيزة تساعدها في تنظيف البيت والطبخ وفي إخراس صراخي؛ فكانت تلصق حضنها في صدري وتطبل على ظهري بكلتي يديها. تزداد طبول الظهر علوا مع حدة الصراخ وتخفت رويدا رويدا مع خفوته.

أنا لا أتكلم ولكني أفهم أسرار النظرات جيدا. أمي كذلك تضحك. حين تأتي عزيزة تتضاحكان وهما تسبان وتسخران من الناس. أمي تتجنب وصف الأنوف في حضرة عزيزة التي لديها أنف يغطي ثلث وجهها، تتدلى منه حلقة ذهبية لامعة.

أنا في الشارع الآن والناس الذين يسهل مراقبتهم. الذين يهرعون في المشي. وحين أنظر وراءهم لا أجد من يلاحقهم. وأحيانا يقطعون نفس الطريق بلا هدف. فأعرف حينها بأن من يطاردهم موجود فقط في رؤوسهم. أنا لم أجرب المشي. الوجوه تتجدد كل لحظة. أقصر مدد الوقوف تكون مع أولئك الذين يقفون لإصلاح أحذيتهم فجأة، والنساء منهم ترتفع مؤخراتهن بتوتر. أرسل نظراتي خلف السيقان العارية وأرى الألوان المخفيّة.

وهناك وقفات المعتوهين الذين يتجهون ناحيتي ما أن يرمقونني، وهم يحاولون أن يحركوا الكرسي فأصرخ بشدة إلى أن يتدخل المارة ويبعثرونهم.

وهناك من يقف مثلي بغرض المراقبة، ولكنهم فجأة يركضون ويختفون. ثم يعودون إلى نفس المكان ونظراتهم حائرة.

أرى في وقت واحد اثنين ينتظران أذان المغرب، أحدهما في الأعلى يختفي خلف ستارة نافذة، والآخر صاحب الحانوت الذي يتركه مفتوحا ويهب إلى صلاته مطمئنا؛ فيهبط الذي في الأعلى مسرعا إلى الحانوت ويخرج منه وفي يده كيس ممتلئ.

أحدهم اقترب زاحفا مني وهو يجر أطرافه التي همد فيها نبض الحياة. كان شبيهي الذي بلا كرسي. اصطدمت عينانا لحظة. الوجه المنقبض المحمر الذي يبذل طاقة عنيفة ليحمل بقايا الجسد حين وصل إلى كرسييّ وهو يلهث، رفع وجها متضرعا ومد إحدى يديه.

محمود الرحبي قاص عماني