No Image
عمان الثقافي

الصَّحراءُ؛ موسيقى الجنِّ ونشيدُ الأرْوَاح

29 مارس 2023
29 مارس 2023

يكاد يكون الخوف هو الإرث البشري الوحيد الذي ورثناه منذ إنسان ما قبل التَّاريخ، فالعصر الحديث لم يستطع إلغاء هذه المخاوف لا سيما ممَّا تمنحنا إيَّاه تلك الطَّبيعة الشَّرسة التي لم تهادن الإنسان منذ وُجِد على ظهرها. ليس هذا فحسب، بل إنَّ هذه الطَّبيعة تحالفت مع كائنات منعزلة، خفيَّة، لا تظهر للعيان، ممَّا تعاهد النَّاس على تسميتِها بالجنِّ والشَّياطين، وأوكلت إليها جزءًا كبيرًا من مساحتها وهو الفراغ.

وإذا كان الإنسان قد سلَّم مسكَنَهُ في الصَّحراء بهذا الفراغ المهيب للطَّبيعة مستسلمًا لعظمتها، فإنَّ ذلك قد جعلها أكثر الأمكنة تأهيلا لوجود الشَّياطين بها، إنَّه المكان المهجور الذي تُصنع فيه البطولات أين يتحوَّل الكائن إلى سعلاة تلتهم الرِّجال، أو وحشٍ خارقٍ على ما اهتدى إليه الشَّنفرى بقوله: فإن يكُ من جنٍّ لأبرح طارقًا.

وإلى جانب مشاهد الصَّيد واللَّهو والنَّشاط الرَّعوي، تكشف الرُّسومات الحجريَّة والنُّقوشات على جدران الكهوف عن وجود وحوشٍ وأشكالٍ مُقنَّعةٍ وكائناتٍ منقسمةٍ بين كونها بشرًا وحيواناتٍ في الوقت نفسه، أين نستكشف ذلك الجانب السَّردي للأساطير والحكايات المبطَّنة في حركات اللاوعي النَّفسي للشَّخصيَّات المرسومة: هوسٌ وجنونٌ وخوف ومطاردات لشخصٍ يرفعُ يديه إلى السَّماء مستنجدًا.

ها هو الرَّحالة الفرنسي ريجيس بيلفيل يصف حديثًا إحدى أكثر مناطق الكوكب جفافا وهي المجابة الكبرى الممتدَّة بين شنقيط وتومبكتو بأنَّها موطنُ الجنِّ الذين يُقالُ عنهم إنَّهم يخسفون بكلِّ من يغامر بها. في هذه الصَّحراء التي تتحدَّدُ مسافاتها الشَّاسعة بطريقةٍ غيبيَّة، يتمثَّل الجنُّ ليرسم حدود الجغرافيَّة التي لا ينبغي للإنسان تجاوزها.

اِرتبطَ الجنُّ في التَّقليد الذي تعارفتهُ كونتا وادان، وهي بلدة قديمة في موريتانيا، بوقوفهم حرَّاسًا على السَّبخة المالحة في إدجيل، وعلى الرَّغم من غياب سند ملكية أو حقِّ اِنتفاع، لا أحد من السُّكَّان يفكر في استخراج الملح دون تصريح من أرواح هذه السَّبخة، حفاظًا منهم على عهدهم الوثيق معها.

تقول زميلتي بالجامعة بباريس آن ماري فريرو في كتابها متخيَّلاتُ الصَّحراء، إنَّ بعض الأماكن تشتهر بشياطينِها التي تعيشُ بها كما لو أنَّها تحرسُها، وهي أماكن من الأفضل تجنُّب الورودِ بها. على هذا النَّحو، تبدو منطقة گاريت جنون، أو «جبل الجن» (وهي عقبةٌ شديدةُ الانحدار تنبثق من منطقة مسطّحة شاسعة)، بشمال أهاغار، كما لو أنَّها مخصَّصة للأرواح الشِّرِّيرة.

ولقد كنَّا نتوهَّم ونحن صغارٌ أنَّ الزَّوبعة الخفيفة التي تنشأ في لحظةٍ خاطفة ثم تنقضي إنَّما هي جنيَّة عابرة. هذا الاعتقاد هو ما يقول به الصَّحراويُّون أيضًا؛ فزوبعة الرَّمل التي تجري فوق الرِّيح عند أوجِّها أو عند غروب الشَّمس إنَّما هي جنٌّ متجوِّل.

ويوجد بمنطقة غات اللِّيبيَّة الصَّحراويَّة جبل كاف الجْنون، ويعتقد النَّاس أنَّها مملكة للجنِّ، وهو نفسه الاعتقاد الذي يحيط بجبل الجنِّ (جبل حرفة) الذي يقع جنوب السَّعوديَّة في اتِّجاه اليمن. ويُروى أنَّه تصدر عن هذا الجبلٍ أصواتٌ غريبة كلَّما حلَّ اللَّيل، ومن بات فيه ليلةً يُصبِح شاعرًا أو مجنونًا.

ولعلَّ اللَّيلَ يُفضي بشكل خاصٍّ إلى عالم الخيال والرُّؤى والتَّجليَّات الأسطوريَّة، وهو يتيحُ الفرصة لظهور الجنّ ولانبعاث أصواتهم من الفراغ.

وكم هي كثيرةٌ تلك الرِّوايات التي تخبرنا بذلك. في كتاب مروج الذَّهب مثلا، يصادف علقمة بن صفوان جنًّا في نصف رَجُلٍ باللَّيل. وباللَّيلِ أيضًا، يستشيرُ الشَّاعر جرير جنَّهُ ليعينَه على نظمِ الشِّعر، تمامًا كما استعان بذلك الفرزدق الذي روى من جهته قصَّة رغبته في صعودهِ الجبلَ قبل الفجر استعانَةً بالشَّيطان لتأليف الشِّعر أيضًا. تناول ألبرت أرازي هذه العلاقة بين الهتاف وآخر الليل قائلا: إنَّ أصوات الجنِّ غامضةٌ وفظيعةٌ بالقدر ذاته. إنَّها تطلق صرخاتٍ خارقةً، فتُسْمَعُ كأنَّها عواءٌ في الليل. ها هو الشَّاعر الأعشى يربط صراحة بين اللَّيل والجنِّ والخوف في قوله بـ«ـأهاويلَ من جنيَّةٍ كلَّ ليلةٍ».

يمكن أن يكون لإيقاع الكلام والغناء علاقةٌ مباشرة بعالم السِّحر. ففي الثَّقافة العربية عمومًا، وفي الشِّعر خصوصًا، احتلَّ الجنُّ مساحةً مركزيَّةً في الإبداع الأدبي عن طريق الهتاف أو إنشاد الجنِّ المثير للغرابة. ولقد كان لكلِّ شاعرٍ قبل الإسلام جنٌّ يُلهمه، حتَّى تميَّز كلُّ شاعرٍ حسب طبيعة جنِّه وأسلوبه البلاغيّ، بل يكون إنتاج النصِّ الشعريِّ أحيانا من عمل الجنِّ نفسه. يخبرنا، على سبيل المثال، راوي الحطيئة أنَّ لديه جنًّا يلهمهُ الشِّعر.

يقدِّم لنا القرشي، من جهة أخرى، في «جمهرة العرب» قائمة بأسماء الجنِّ الذين ألهموا شعراء الصَّحراء، منذ امرئِ القيس إلى شعراء العصر الأموي؛ فهبيد بن الصَّلادم شيطان عبيد بن الأبرص، ومدرك بن واغم شيطان الكميت الأسدي، ولافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وهادر بن ماهر شيطان النَّابغة الذُّبياني وهو الذي استنبغه، ومسحل السّكران بن جندل شاعر الأعشى، والسّفاح بن الرَّقراق الجنِّي شيطان الحارث بن مضاض الجرهمي أحد ملوك العرب في فترة ما قبل الإسلام.

لم يختف هذا التَّقليد بعد ظهور الإسلام، فلقد استُبْدِل الجنُّ، هذه المرَّة، بقوَّة أخرى أكثر خرقًا للطَّبيعة، وهي قوَّة روح القدس. ومع ذلك، ظلَّ الجنُّ، في معظم الحالات، حتى بعد قرون من ظهور الإسلام، مصدرَ إلهام الشُّعراء أثناء النَّظم. فها هو الشَّاعر النَّبوي حسَّان بن ثابت يقول عن صاحبه الجنِّي:

ولي صاحبٌ من بني الشَّيصبان * فطـورا أقولُ وطورا هُوَه

لا تتوقَّف علاقة الجنِّ بالشِّعر على وجود الشَّاعر فقط، بل إنَّها تتجاوزه إلى المغنِّي أيضًا، فلطالما مثَّلت الصَّحراء فضاءً خصبًا لممارسة الجنِّ لما يشبه الموسيقى التي اصطلح عليها العرب بأسماء كثيرة. يخبرنا الشَّاعر الأموي ذو الرّمَّة أنَّ لعزيف الجنِّ صوتًا يشبه صوت الطَّبل.

هزيرٌ كتضرابِ المغَنِّينَ بالطَّبلِ * ورملٍ عزيفُ الجنِّ في عقباتهِ

ولا يغلبُ على الإنسان النَّظر في العزيف إلا في كونه صوتًا للجنِّ، فنجد وصف هذا النَّوع من الإنشاد الموسيقي للجنِّ يُنسَبُ دلاليًّا إلى الرَّنين وإلى التَّرنُّم المقصود به نشيدُ الرَّجز.

ويصف عبيد بن أيوب الغول بوصفه كائنا ينقسمُ في صورته إلى جنٍّ وحيوان، كما يصف أصواته بالرَّنين (الإرنان). ها هو يقول إنَّ الأصوات التي يتبع بعضها بعضًا دون توقف قد أشعلت من حوله نيرانًا قويَّةً وملتهبةً:

حَوَالَيَّ نِيرانًا تَلُوحُ وَتَزْهَرُ * أرنَّتْ بلحنٍ بعدَ لحنٍ، وَأوقَدَتْ

في منطقةٍ تُدعى شاتو أيَّ «مَاعِزُهُ»، وهي موجودةٌ بالقرب من تونگاد، في أدرار موريتانيا: « تعزف الشَّياطين الموسيقى بها طَوالَ اللَّيل، دون أن يراهم أحد. لديهم ماعزٌ يمكنك سماعهَا من بعيد دون مقدرتك على رؤيتها، ولعلَّ النَّاس استوحت منها اسمَها « شاتو».

تقول آن ماري فريرو: لقد أخبرنا سائقٌ يبلغ من العمر 25 عامًا عن تجربةٍ عاشها شخصيًّا. فلقد اضطر، لغرض الوصول إلى منطقة وْجَفْت، أن يواصل رحلته ليلًا، ولكنَّه تحت تأثير التَّعب، فضَّل التَّوقُّف بالقرب من المكان المسمَّى شاتو الصّْغير، لأخذ قسطٍ من الرَّاحة. وبعد أن أخذ النُّعاسُ بعينيه، استيقظ فزعًا على صوت طبلة إفريقيَّة مصحوبِةٍ بالصُّراخ. فيما بعد، أوضحَ له النَّاس العارفون بالمكان أن الأمر يتعلق بمنطقةٍ ترقصُ الشَّياطين بها ليلا على صوت الطُّبول.

وبينما استخدم الموسيقيَّون الجذر اللُّغوي عزف للدَّلالة على تلك العلاقة الوجوديَّة ببن الموسيقى والغيب، فإنَّ «عزف» اُستُخدمت بشكل أساسي حتى عصور ما قبل الإسلام للدَّلالة على صوت الجنِّ، كما لو أنَّ له طابعًا موسيقيًّا ما. ولعَّل بيتَ الأعشى وهو شاعرٌ نشأ قبل مجيء الإسلام يؤكِّد في الواقع هذا التَّصوُّر مبدئيًّا:

كالحُبْشِ في محرابها * والجنُّ تعزِفُ حولها

نُقِل عن إحدى نساء المدينة في العصر الأموي عن المغنِّي الغريض قولها: جاءنا الغريض يوما فقال: نهتني الجنّ أن أنوح، وأسمَعَتْنِي صوتًا عجيبًا قد ابْتَنَيْتُ عليه لحنًا فاْسمعِيهِ مِنّي، واندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر المرّار الأسدي. فكذّبناه وقلنا: شيء فكّر فيه وأخرجه على هذا اللَّحن، فكان في كلِّ يوم يأتينا، فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيعٍ وتقطيعٍ قد بَنَيْتُ عليه صوتَ كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه؛ فإنّا لكذلك ليلةً وقد اجتمعتْ جماعةٌ من نساء مكَّة في جمع لنا (...) إذ سمعنا في بعض اللَّيل عزيفًا عجيبًا وأصواتًا مختلفة أفزعتنا، فقال لنا الغريض: إنَّ في هذه الأصوات صوتا إذا نمتُ سمعتُه، وأُصبحُ فأبني عليه غنائي، فأصغينا إليه فإذا نغمتُه نغمة الغريض بعينها فصدّقناه تلك اللَّيلة.

وإذا كان الهتاف يرتبط بالتَّأليف الشِّعري للجنّ، فإنَّ العزيف هو نفسه تأليف الجنّ للموسيقى. ولذلك، سيشير المستشرق البريطاني هنري جورج فارمر (1882-1965) إلى أنَّ الأدب كشف في الواقع عن شخصيتين مثيرتين للاهتمام: من جهة، شخصية الشَّاعر مجنون، ومن ناحية ثانية، شخصيَّة الملحِّن المدعومة بالجنّ.

سيتيح لنا إدراكُ هذا البعد السِّحري والخارق للصَّوت والأغنية والموسيقى في الثَّقافة العربية ما مفادُهُ أنَّ الإيمان بالقوة السِّحرية للكلام قد يكون كذلك ظاهرةً عالميَّة، كما يذكرنا السُّوسيولوجي الفرنسي إدمون دوتي (1867 - 1926) قائلًا: «إذا كان في السَّجع والقافية والإيقاع تعزيزٌ للطَّابع السِّحري للكلمة، فإنَّ الغناء لن يقلِّل من تأثير هذا الطَّابع. في الواقع، لقد اُعتُبِر الغناء، منذ العصور القديمة، قوة غامضة أنتجتها الجنّ. ولربَّما كانت الموسيقى مخيفة أكثر من الشِّعر نفسه. إنَّ الإيمان بسحريَّةِ الموسيقى هو اعتقادٌ عالميٌّ: سندرك ذلك عندما نكتشفُ بأنَّ المفردة اللاتينيَّة التَّعويذة (incantation) تنحدر من الجذر اللُّغوي (cantare)-(chanter ) الذي يفيد معنى الغناء، ولا شك أنَّ التَّعويذات كانت هي الأخرى بدائيةً أيضًا.

إنَّنا نعلم بتلك الأهمية التي يكتسيها الغناء في إنتاج الظَّواهر الغامضة: فعلى الرغم من كوننا لا نعترف بأيِّ حالٍ من الأحوال بأنَّ هذه الظاهرة تفسِّر السِّحر كلَّه، إلَّا أنَّه لا يمكننا إنكارُها كعنصرٍ مهمٍّ للغاية. يتَّفق المراقبون في التَّصريح من جهة أخرى، بأن الغناء يُشجِّعُ، في الجلسات الرُّوحية، على ظهور الظَّواهر السِّحريَّة. وإذا كانت التَّرنيمة، في معظم الطُّقوس الشَّفهية للسِّحر، قد اختفت؛ فإنَّ الفضيلة الغامضة للصِّيغة الشَّفهية تستمرُّ دائما في تقوية الكلام؛ بحيث لا يستطيع الانفلات من عقال جاذبيتها حتَّى أولئك الذين يدَّعون التَّحضُّر؛ ومن الغريب جدًّا أن يقوم النَّبيُّ ﷺ بإعادة صياغة هذا التَّقليد بقوله: «إنَّ من البيان لسحرًا».

ولعلَّ تفنيداتِ وقوف الجنِّ وراء العزيف قديمةٌ جدًّا، فالمبرّد يرى أنَّ اعتقاد العرب بما يصطلحُ عليه هو نفسُهُ بالدَّويَّة أيضًا، ناجمٌ عن جهلهم على حدِّ قوله، وقدّم تفسيرًا مفادُهُ أنَّ الأصوات التي تُسمع غالبًا في الصَّحراء إنَّما تصدرُ عن أثرِ خفِّ الجمال ووقعِها على الرَّمل.

ولأكثر من قرنٍ، لاحظ العلماء الغربيُّون -دون أن يتمكَّنوا من تقديم تفسيرٍ كافٍ- بأنَّ الرِّمال تصدر أحيانًا ضوضاء. وبحسب تفسير قدَّمته المجلَّة البريطانية «نيو ساينتست» (The New Scientist) في عددها المؤرَّخ بـ 8 مارس 1997 تحت العنوان التَّالي: «الكثبان الرَّملية تغني أناشيد السِّيليكا»، فإنَّ صوت السُّوبرانو المنبعث من الرِّمال ينطوي في الواقع على سرِّ مصدرٍ جديدٍ غير معروفٍ للمادَّة الصَّوتية. وفضلا عن كون الباحثين المعاصرين يعلمون حقًّا بأنَّ الرِّمال يجب أن تكون رطبة وجافَّةً وخاليةً من الغبار، إلا أنَّ لا أحد منهم كان على علمٍ بأنَّ ما يمكن أن يحوِّل صوتًا بسيطًا من تردُّده المنخفض إلى تردُّدٍ مرتفع إنَّما هو مجرَّد وجود الرُّطوبة فيه، كما أوضح ذلك الكيميائي الكندي بجامعة لورنتيان بأونتاريو دوغلاس گولدساك (Douglass Goldsak). ولقد لاحظ هذا الأخير بمعيَّةِ باحثين آخرين أنَّ للرَّمال سطحًا متلألئًا، وأظهرت تحليلاتهم الطَّيفية أنَّها تحتوي نسبيًّا على بعض الماء. والواقع أنَّ الاعتقاد بوجود هذه المادَّة اللَّامعة على الرِّمال إنَّما تأكَّد لهم نظرًا لكون هلام السِّيليكا -وهي عبارة عن نعومةٍ تبقى عالقةً بحبيبات الرَّمل بعد امتصاصها للماء- تقدِّمُ حمايةً لزجةً للرَّمل تسمح لحَبَّاتهِ بالتصاق بعضها ببعض، وهو ما يجعل الكثبان تتصرَّف تمامًا مثل إبرة رنَّانٍ كبيرة، فإذا هبَّت الرِّياحُ، يَصْدُرُ صوتُ العزيف بتردُّدٍ ينخفض ويرتفع بحسب حجم هذه الحبَّات.

وينتشرُ في شمال إفريقيا نوعٌ من الموسيقى الإفريقيَّة تسمَّى السّطمبالي بتونس والدِّيوان بالجزائر والگناوي بالمغرب. ويعتمد هذا الفنُّ الموسيقي على آلات من قبيل القرقب، الطّبيلات، الگنبري وهي آلة ذات وترين، والرَّش أي استخدام اليدين للتَّصفيق تمكينًا للإيقاع من الانتظام.

يروي السّطمبالي مثلا قصَّة ملك إفريقي اُختطِفت اِبنتُه، فقرَّر التَّخلي عن كلِّ شيء، وذهب في اتِّجاه الشَّمال بتونس للبحث عنها، مرتديًا قناعًا يمنع النَّاسَ من كشف وجهه والتَّعرف عليه، بينما صوته الصَّادحُ ينادي ابنتَه سعديَّة، ليمنحها فرصةَ التَّعرف عليه سرًّا. يرمزُ الملك المسمَّى بوسعديَّة إلى معاناة الأفارقة عبر مراحل مختلفة من التَّاريخ، كما يرمزُ قناعُهُ إلى صورةِ جنيٍّ يرقص على وقع الطُّبول الإفريقيَّة. ويُمارسُ هذا النَّوع الموسيقي لغرض معالجة الأشخاص المرضى نفسيًّا، وكثيرًا ما يقوم بتأديته سكَّان الصَّحراء الذين توارثوا ثقافةً سودانيَّةً (بالمفهوم القديم) وإفريقيَّة.

فرَّق لوقا دي هُوش (Luc de Heusch) سنة 1971 في إطار مقاربته البنيويَّة لظواهر الجذب والتَّقمُّص بين ممارستين: طرد الأرواح الشِّريرة أو التَّأليف معها، والتَّأليف مع الجنّ (Adorcisme) يستدعي الاحتفاظ به في الجسد على عكس عمليَّة إخراجه منه. وتتطلَّب عمليَّة التَّأليف بين الإنسان والجنِّ داخل الجسد الواحد الدُّخولَ في عمليَّة تنويمٍ مغناطيسيٍّ تقوم بإسعاف اللَّاوعي البشري في حالة من الجذب الشَّديد عن طريق موسيقى «الدِّيوان» بجنوب الجزائر والتي لها علاقة وطيدة باستدعاء الأرواح. وتشير جميع الممارسات الموسيقيَّة للگناوة بالمغرب أنَّ لكلِّ جنِّ نغمة موسيقيَّةً خاصَّةً به، كما له لونُهُ المفضَّل، وعطرهُ، وبخوره، ويومُهُ من أيَّام الأسبوع، وتحتلُّ لالَّة مليكة جنِّيَّة الگناوة أهميَّة بالغة، أمَّا شمهروش، وهو أحد ملوك الجنِّ السَّبعة، فيعتبَرُ شخصيَّة مفتاحية وأساسيَّة لديهم. ويحتاج هذا النَّوع من الموسيقى دراسات كثيرة لغرض تجلية الملامح الأساسيَّة لما يحتاجُهُ علم النَّفس الموازي في تحليل ظاهرة الجذب وعلاقتها بالعلاج تحت تأثير الموسيقى. في عام 2004، قامت لويجي فالورني وبيمباسورين دافا بإنتاج فيلم وثائقيٍّ ألمانيٍّ بعنوان: حكاية النَّاقة التي تبكي (The Story of the Weeping Camel)، وهي حكاية تروي قصَّة أفرادٍ من الرُّعاة البدو الذي يقيمون في صحراء غوبي بمنغوليا، رفضت إحدى نوقِهِم إرضاع صغيرها، فقرَّروا الذَّهاب إلى مدينة بعيدةٍ جدًّا للبحث عن عازف الكمان، فهو الوحيد الذي بمقدوره أن يسحرَ النَّاقة بالموسيقى استلطافًا لنفسها. لقد استطاعت مقاطع موسيقيَّة محزنة أن تعيد للنَّاقة رغبتَها في إطعام صغيرها، كانت ترضعُهُ وهي تذرف الدُّموع. سيدفعنا هذا المشهد، بالطَّبع، إلى إعادة النَّظر في العلاج النَّفسي الاجتماعي بالموسيقى حديثًا.

د. الهواري غزالي أستاذ محاضر بجامعة باريس