علي بن أبي طالب«1»
د. سعيد بن سليمان الوائلي -
عضو هيئة التدريس بكلية العلوم الشريعة -
لم يقف دور الخلفاء على السياسة الشرعية للأمة الإسلامية بعيدين عن الجوانب العلمية، بل كان دورهم القيادي مصاحبا لإمامتهم في العلم والمعرفة، وكانوا في ذلكم التطبيق العملي معلمين ومربين لغيرهم.. ومن الخلفاء الأربعة: الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
فإن قيل للعلم مدينة فعليٌ بابُها، هذه مقولة مشتهرة تدل على مكانة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه علي بن أبي طالب، الذي خدم الإسلام صبيا، ونصره شابا فتيا، وقاد دولته رجلا سياسيا.
ولذلك ورد أثر مروي عن الإمام علي يدل على تمكنه العلمي وتحصيله المعرفي بكتاب الله تعالى، فكما روي عنه أنه قال: «سلوني عن كتاب الله، فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، أم بسهل نزلت أم بجبل»، وروي عنه قوله: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا». وهذا يدل بصريح العبارة على أن عليا كرم الله وجهه كان مرتبطا بتفسير القرآن أيما ارتباط، لدرجة إدراكه المعاني بأسباب نزول آياتها، وما يتبعه من وصف لنصوصها في الوقت والمكان.
وقد كان من أبرز الأمور التي استعان بها الإمام علي على تفسير نصوص القرآن الكريم: أسباب النزول، حيث تعتبر أسباب النزول من أهم الأمور التي تبين للناس معاني كتاب الله العزيز، وقد اشترط العلماء حصول الإلمام بها لتفسير القرآن الكريم. فاستخدم علي بن أبي طالب أسباب النزول في تفسير النص القرآني لإزالة الإبهام الذي من الممكن أن يقع فيه الإنسان دون إدراك لظروف تنزل النص بما فيه من أحكام ودلالات، مدركا تحقيق الفائدة من علم أسباب النزول، حيث الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. حتى لقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
مما روي عنه في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]، فروى عنه أنّ رجلاً سأله: أهو أوّل بيت؟ قال: (لا، قد كان قبله بيوت، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى) فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في (وُضع). وبحسب هذه الرواية فإن التوجه لدلالة البركة والهدى وارتباطها بالبيت مراد شرعا، فكان من المفسر أن يوجه إليها عناية السائل لإدراك المقصود.
وفي تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33] روى الطبري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر. ولنا أن نتأمل في تخصيص علي كرم الله وجهه المعنى بما يستند إليه في تصوره من إرادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبي بكر الصديق، وكأن المعنى يقف عندهما ولا يتعداهما إلى غيرهما.. وفي ذلك من الأبعاد ما فيه.
ومما روي عنه في تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النساء: 35]، قال الطاهر ابن عاشور: الآية دالّة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاعَ المستمرّ المعبّر عنه بالشقاق، وظاهرها أنّ الباعث هو الحاكم ووليّ الأمر، لا الزوجان، لأنّ فعل (ابعثوا) مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين، فلو كانا معيّنين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى. وصريح الآية: أنّ المبعوثين حكمان لا وكيلان، وبذلك قال أئمّة العلماء من الصحابة والتابعين. وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب.
ولعل مما يلحظ في تفسير علي بن أبي طالب جانب الفقه العملي، على الأقل فيما ذكرناه من نماذج، غير أن ثمة مواضع تثبت عنده مواقف فيها تعلق بالجانب التربوي وتزكية النفس عندما يتناول المعاني من آيات المواعظ والحكم، خاصة وأنه يروى عنه كثيرا من الحكم والأشعار في الزهد والرقائق، وهذا الأمر يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة.
