زكي نجيب محمود في حديث إذاعي
زكي نجيب محمود في حديث إذاعي
ثقافة

مرفأ قراءة... "زكي نجيب محمود" في رحاب الثقافة الفلسفية

02 أكتوبر 2021
02 أكتوبر 2021

- 1 -

كنت وما زلتُ على يقين بأن هناك من أعلام ثقافتنا العربية المعاصرة (رغم عظم ما قدموه لهذه الثقافة وأبنائها من إنجازاتٍ وخدماتٍ) لم يحظوا أبدًا بالتقدير والانتشار والشهرة التي تتناسب مع ما قدموه من إنجازات وأعمال تنوء بها مؤسسات بأكملها، فما بالك بفردٍ واحد وحيد!

ولطالما كان اسم المرحوم الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1993)، منذ ظهر هذا الاسم على غلاف أجزاء عديدة من كتاب «قصة الحضارة»، مترجمًا لأجزاء عديدة منه يثير انبهاري ودهشتي واستغرابي معًا!

أكثر من عشرين عامًا وأنا أكتشف أن له دائمًا جديدًا لم أقرأه بعد، ولم أتعرف عليه؛ في التأليف والترجمة وكتابة المقال الفلسفي والنقدي الذي برع فيه أيما براعة، وإخراج النصوص الفلسفية، وشروحاتها، وتقديم الكتب والأطروحات العلمية.. إلخ، له ما يقرب من خمسين كتابًا تكاد كلها مرجعية وتأسيسية، ولا غنى عنها لكل شادٍ أو طالب للعلم والفكر والثقافة عمومًا والفلسفة والأدب والنقد خصوصًا!

كان يبهرني، رحمه الله، بقدراته الشارحة والتبسيطية لأصعب الأفكار والتصورات الذهنية المجردة؛ كان بارعًا براعة لا توصف في تفتيق المسائل، دون أن يفتك بها على منضدة التشريح والتحليل و"التفصيص"؛ معلما بالفطرة ومفكرا بالسليقة، ومثقفا بالممارسة والتكوين والعمل الدؤوب لما يزيد على ثلاثة أرباع القرن.

أخذ نفسه بجدية وانتظام وصرامة لم أجد ما يماثلها أو يمكن أن أقارنها به إلا نموذج نجيب محفوظ في الأدب؛ فإذا كان محفوظ قد اشتهر في الأوساط الأدبية برجل الساعة لدقته وانتظامه الشديد في المواعيد، وفي جدول المهام والسلوك (وصفه بذلك أحد أفراد شلة الحرافيش القدامى؛ الكاتب الساخر محمد عفيفي) فإن زكي نجيب محمود يكاد يكون كذلك، إن لم يتفوق على محفوظ نفسه في أخذ نفسه بشدة متناهية وصرامة لا تهاون فيها، وتفرغ يكاد يكون تامًّا للعلم والفكر والثقافة وعلى كل المستويات؛ تدريسًا وتأليفًا وترجمة ومحاضرة وإسهامًا في المجال العام. كان رحمه الله نموذجًا فذًّا ومدهشًا فعلًا!

- 2 -

كنتُ صغيرًا جدًا عندما قرأت اسم زكي نجيب محمود، للمرة الأولى، في جريدة (الأهرام) أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، صورته محفورة في ذاكرتي، ملامحه ذات رهبة وصرامة مبطنة بطيبة، ونظارتاه ذات العدسات السميكة تبتلع أغلب مساحة الوجه. لم أكن أَفقَهُ حرفًا مما هو مكتوب أمامي سوى كلمات بسيطة كنت أستشعر على نحو مبهم أنها "مهمة"، وأنه سيأتي أوان استيعابها فيما بعد..

وانحفرت في نفسي وذهني مبكرًا كلمات؛ الفكر العربي، التراث، الثقافة الإسلامية، الفلسفة، مراجعة نقدية، أزمة حضارية، وعي ذاتي... إلخ.

وكانت هذه بداية تعرفي على اسم المفكر الراحل الذي كان يلقب بـ«أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء» لتمتد هذه الرحلة، وتتعمق كل عدة سنوات بمزيدٍ من القراءات، والاقتراب من أعماله المهمة، ولأتيقن من محورية دوره الفكري والنهضوي في الثقافة العربية طيلة القرن الماضي.

في سنوات البحث والتكوين، كان ثمة هاجس ملح حول تأصيل الأفكار والمداخل الفكرية والعلمية والمنهجية الضرورية في رحلة تكوين الوعي، وتنشيطه وتزويده بالطاقة اللازمة كي يكون قادرًا على العمل والممارسة! وكان زكي نجيب محمود في تلك المرحلة التأسيسية المهمة خير معلم ورفيق ودليل لهذه المرحلة.

كثير جدًّا من الأسئلة والأفكار والشغف والفضول لم يجد غايته ولا مستقره الهادئ النبيل الواثق إلا عند زكي نجيب محمود؛ على سبيل المثال، وقد كنت طالبا في القسم العلمي خلال المرحلة الثانوية، ولم أكن أعرف شيئًا على الإطلاق عن القسم الأدبي خاصة مواده الأصيلة (الفلسفة والمنطق، وعلم النفس، والاجتماع) كانت تناوشني أفكار مبهمة حول "التفكير العلمي" و"التفكير المنطقي" والبحث حول طرائق المعرفة ومساراتها.. هي كلها تساؤلات في صميم الفلسفة. لم يكن هناك شبكة إنترنت عنبكوتية مثلما هو الحال الآن لم يكن إلا جهدك الفردي ونصيبك وحظوظك من البحث والتوفيق.

كان حظي سعيدًا بالتأكيد ليقع كتابان من كتب هذا الأستاذ العظيم بين يدي، لتجيب عن هذه التساؤلات إجاباتٍ مقنعة شارحة مسهبة، واضحة دون تقعير ولا غموض ولا التباس؛ أولهما كتيبه الممتاز «أسس التفكير العلمي»، والثاني «نظرية المعرفة» الذي كان بمثابة المرفأ العقلي ونقطة الانطلاق الفكرية لاستكمال الرحلة دون تخبط ولا التواء ولا جنوح!

- 3 -

أما كتيبه المهم «أسس التفكير العلمي» (صدر عن سلسلة كتابك بدار المعارف عام 1977) فوجدت فيه تفصيلًا وتوضيحًا لإحساسي بمادة الرياضيات التي كنت أعشقها بمنطق عقلي بحت لا بمنطق علمي طبيعي!

أقصد أنني كنت أستشعر متعة عقلية غير عادية، وأنا أعالج مسائل الجبر وحساب المثلثات والتفاضل والتكامل والميكانيكا بصفتها تمرينات على أصول وأسس التفكير المنطقي! فكل حرف وكل كلمة وكل رقم في المسألة هو معطى يحمل معلومة، وله دلالة، إذا صحت ترجمتها بشكل سليم وفق النظام أو النسق الذي يعطي لكل رمز أو كلمة أو حرف معناها أو مدلولها المتفق عليه، فإننا ننتقل إلى الخطوة التالية باتساقٍ وثبات؛ وهكذا.. كنت أشعر بطريقةٍ ما غامضة أن هذه الممارسة العقلية ليست منفصلة عما أقرأه من كتب في العلوم الإنسانية الأخرى (الفلسفة والتاريخ والحضارة) وليست منفصلة حتى عن قواعد اللغة العربية (النحو) الذي تشتكي منه الكثرة الكاثرة من الطلاب والأساتذة والجمهور على السواء!

حلَّ لي زكي نجيب محمود هذا الإشكال في هذه الأسطر البارعة في وقفته عند مفهوم "التفكير الرياضي"؛ بشرحه إياه في كتيبه المذكور؛ يقول:

"عندما يسأل السائلون عن أسس التفكير العلمي، فكثيرًا جدًّا ما تنصرف الأذهان إلى نوعٍ واحد من نوعَي هذا التفكير، وهو ذلك الذي يجري في ميدان العلوم الطبيعية التجريبية، وقلَّما يتنبَّه السائلون أو المجيبون أن ثمة نوعًا آخر، يخالف منهج العلوم الطبيعية اختلافًا جوهريًّا من رأسه إلى قدمه، وأعني به التفكير الرياضي، آخذين لفظة «الرياضة» هنا بأعم معانيها، التي تشمل مع علوم الجبر والحساب والهندسة وما إليها، علومًا أخرى، ليست الأرقام لغتها، ولكنها مع ذلك تنهج النهج نفسه في خطوات السير من الفروض الأولى، نزولًا إلى النتائج التي تتولد من تلك الفروض.

ذلك أن التفكير الرياضي يتميَّز بسيره على خطوتين؛ أولاهما خطوة تُوضع فيها فروض يطلب التسليم بها، لا لأنها في ذاتها لا بد من التسليم بها، في كل الظروف وعند كل إنسان؛ بل لأن الباحث يريد أن يقيم عليها نتائجه، بحيث لا يجوز للناقد بعد ذلك أن يوجه نقده إلى الفروض نفسها، بل عليه أن يحصر نقده عندئذ في طريقة استدلال النتائج من تلك الفروض؛ فإذا لم يكن البناء الفكري كله مقبولًا عند ناقديه، فسبيلهم هو أن يعيدوا هم البناء على فروض أخرى يضعونها ليُخرجوا منها نتائج مختلفة عن نتائج البناء المرفوض".

- 4 -

أما كتابه التعليمي الآخر «نظرية المعرفة» (مع كتابٍ بالعنوان نفسه للمفكر وأستاذ الفلسفة الراحل فؤاد زكريا) فكان فتحًا وأفقًا جديدًا لعقلي وأسئلته التي لا تكف عن التولد والانهمار. لم أكن أعرف أن للتفكير طرائق وسبلًا، وأن هناك مواقف وتصورات من العالم وعلاقتنا به، وعلاقتنا بأنفسنا وبالعالم الخارجي من حولنا.. إلخ تلك الأفكار والتصورات التي تشكل في مجموعها، وكليتها، وتفاصيل بحثها، ما يُعرف بمبحث المعرفة أو "الإبستمولوجي" في الفلسفة العامة.. (وللحديث بقية)