No Image
ثقافة

مرفأ قراءة... جورجي زيدان.. رائد الرواية التاريخية

21 مايو 2022
21 مايو 2022

- 1 -

لا يُذكر اسم الرائد اللبناني الراحل في مجالات الصحافة والتاريخ والرواية والدراسات الأدبية جورجي زيدان (1861-1914) إلا مقرونا بريادته للرواية التاريخية في أدبنا العربي الحديث، فقد كان صاحب المحاولة الباكرة للغاية في إخراج سلسلة من الروايات التاريخية بعنوان "روايات تاريخ الإسلام" بلغ عددها ما يقرب من 22 رواية غطت مراحل التاريخ الإسلامي كله، منذ ظهور الإسلام وحتى ما قبل العصر الحديث، وبيانها حسب ترتيب صدورها كالتالي:

«فتاة غسان»، «أرمانوسة المصرية»، «عذراء قريش»، «17 رمضان»، «غادة كربلاء»، «الحجاج بن يوسف»، «فتح الأندلس»، «شارل وعبد الرحمن»، «أبو مسلم الخراساني»، «العباسة أخت الرشيد»، «الأمين والمأمون»، «عروس فرغانة»، «أحمد بن طولون»، «عبد الرحمن الناصر»، «فتاة القيروان»، «صلاح الدين الأيوبي»، «شجرة الدر»، «الانقلاب العثماني»، «أسير المتمهدي»، «المملوك الشارد»، «استبداد المماليك»، «جهاد المحبين».

لكن وبالرغم من هذه الحقائق، وإقرار الريادة التي لا ينازعه فيها أحد، فإن ثمة ملاحظات مهمة وإضاءات ضرورية حول مفهوم "الرواية التاريخية" كما كتبها زيدان ليدشن بها هذه الريادة!

كما أن هناك ملاحظة أخرى تتعلق بفكرة ماهية "الرواية التاريخية" ذاتها أو ضرورة التمييز بين ماهيتها وتطورها في مرحلة زمنية بعينها عن غيرها في مرحلة زمنية أخرى.

فبالتأكيد نحن نطلق على ما كتبه جورجي زيدان ونشره خلال الفترة من العام 1899 وحتى العام 1911 "روايات تاريخية"، وكذلك نطلق على الروايات التي كتبها نجيب محفوظ وزملاؤه في الفترة من ثلاثينيات وحتى خمسينيات وستينيات القرن الماضي هي روايات تاريخية أيضا! وعندما أصدر جمال الغيطاني روايته الشهيرة «الزيني بركات» عام 1969 كانت توصف بدورها بأنها رواية تاريخية! كذلك فإننا نطلق على الخماسية الروائية الشهيرة "خماسية تاريخ الإسلام" التي كتبها المؤرخ والروائي البريطاني الباكستاني الأصل طارق علي روايات تاريخية!

- 2 -

لكنني أظن -وقد يتفق معي كثير من نقاد الأدب ومؤرخي الرواية- على أننا لا نعني مفهوما واحدا أو شكلًا واحدًا للرواية التاريخية، ونحن نتحدث عن هذه الروايات. فثمة روايات لم تبتغ أكثر من استغلال المادة التاريخية المعروفة لعصر من العصور أو شخصية من الشخصيات وإعادة سردها في قالب روائي.

وهناك روايات أخرى لم يكن قصدها إعادة سرد المادة التاريخية كما هي بقدر استلهامها لهذه المادة والتدخل فيها بالحذف والإضافة لمعالجة قضية وأسئلة معاصرة تشغل الروائي وتستحوذ على اهتمامه وتضغط عليه للالتجاء إلى هذا الشكل الجمالي كي تعبر عن نفسها!

ومن الضروري في هذا المقام أن نستأنس بالدراسات الرائدة التي عكفت على دراسة وتحليل هذه الروايات في فتراتها الزمنية التاريخية، واستخلاص سماتها الجمالية والموضوعية كي نحدد بدقة الفروقات الشكلية والجمالية بين روايات مرحلة وأخرى، وكاتب وآخر، وبين روايات لم تتجاوز غايتها الأساسية التسلية أو التعليم أو العرض التاريخي في قالب قصصي، وبين روايات أخرى تتجه قصدا إلى التاريخ وتعالج مادته حذفا وإضافة (وبالجملة تعمل فيه تخييلها الروائي المكين) كي تصل في النهاية إلى شكل متطور وعصري وناضج من أشكال الرواية التاريخية.

- 3 -

يكاد يكون من المتعارف عليه في تاريخ الرواية العربية الحديثة أن بعض أعمال السير والتر سكوت من أول ما ترجم إلى اللغة العربية من الروايات الإنجليزية، وهو روائي شهير حقق نجاحا جماهيريا كبيرا لم يحققه أحد قبله، ويكاد يجمع النقاد ومؤرخو الرواية الحديثة على أنه الأب الشرعي للرواية التاريخية في الأدب الغربي الحديث، فهو مؤسس أو منشئ هذا النوع الأدبي المتميز بوصفه جنساً فنياً مستقلاً له أسسه الفنية وقواعده السردية الخاصة به، وهو من رواد الحركة الرومانسية الإنجليزية، ومن المعروف أن الرواية التاريخية ازدهرت في ظل المذهب الرومانسي.

وفي رواياته التاريخية، ومن خلال شخوص رواياته، قدم سير والتر سكوت الإنسان في دوره التاريخي والاجتماعي، وكما تشكله وتؤثر في ظروفه ومحيطه عوامل التاريخ. وفي تاريخ الرواية العربية والأدب العربي الحديث لم يفلت واحد من كتاب الرواية التاريخية بها من تأثير والتر سكوت من أول جورجي زيدان وحتى نجيب محفوظ.

إن "الرواية التاريخية"، كما يعرفها كل من المؤرخ قاسم عبده قاسم، والناقد أحمد الهواري، في كتابهما التأسيسي «الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث» هي "نمط روائي مبكر ظهر مع بواكير الأدب العربي الحديث، ضمن تيار رئيسي سائد في الرواية العربية الحديثة، كان هدفها الرئيسي تعليم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بفترة تاريخية أو شخصية تاريخية ما، وبالأخص من التاريخ العربي الإسلامي.. كان الهدف الرئيسي من كتابة هذا الصنف من الروايات التاريخية، عند روادها الأوائل في لبنان ومصر، هدفًا تعليميًا عامًا تجلى بالأساس في تعليم التاريخ بالمعنى الحرفي المباشر للعبارة".

كانت الرواية التاريخية، في ذلك الطور الباكر من تاريخها، تركز على تقديم الحقائق التاريخية المتعلقة بفترة ما أو شخصية تاريخية ما بالإضافة إلى تصوير الجوانب الحضارية والاجتماعية المميزة لتلك الفترة.

وكان من سمات الرواية التاريخية في تلك الفترة؛ التركيز على الوصف التاريخي والجغرافي الدقيق والمفصل والموثق للأماكن التي تدور فيها أحداث تلك الروايات بغرض نقل صورة أمينة أو أقرب ما يكون إلى واقعها التاريخي..

- 4 -

لا خلاف على أن جورجي زيدان أول من كتب الرواية التاريخية باللغة العربية، بالرغم من أنه لم يتحدث مطلقا عن أية ريادة، بل إنه هو نفسه حدّد عمله بأنه نوع من إعادة رواية التاريخ الإسلامي وتعريفه إلى القراء من طريق "سرد مشوق يحمل الفائدة التاريخية في نهاية الأمر".

يوضح زيدان بجلاء مذهبه وغايته في كتابة الرواية التاريخية والغرض منها بقوله:

"قد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه، خصوصًا أننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه، كما فعل بعض كتبة الإفرنج ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة فيجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث بما يضل القراء.

وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين. فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج في مجالها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصبح الاعتماد على ما يجيء في الروايات من حوادث التاريخ: مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلى ما تقتضيه من التوسع في الوصف، مما لا تأثير له على وصف العادات والأخلاق".

أما طه حسين فيقول، في تعليقه على بعض روايات (تاريخ الإسلام) لجورجي زيدان: إن هذا الأخير "هو الذي نقل إلى الأدب العربي مذهبًا من مذاهب الأدب الأوروبي، وهو القصص التاريخية".

فيما يرى الدكتور حمدي السكوت الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في تقديمه لرواية «الانقلاب العثماني» التي كانت الأخيرة في السلسلة المؤلفة من 22 رواية (تشكل متن «روايات تاريخ الإسلام»):

"والحق أن روايات زيدان التاريخية تشكل علامة مضيئة ورائدة في تطور الأدب الحديث بعامة، وفي تطور الأدب الروائي في شكل خاص. ويكفي أن نتذكر أن قراءها في ذلك الوقت كانوا شباب الأدباء من أمثال طه حسين، والعقاد والمازني، وهيكل. ويعنينا هنا موقف هيكل في شكل خاص لأن روايته «زينب» تمثل في رأي النقاد عادة الميلاد الحقيقي للرواية المصرية، بل العربية، ونحن نرى أن هيكل قد تتلمذ على نحو ما على هذه الروايات، إذ كان في مطلع شبابه يواظب على قراءتها بشغف"..

(وللحديث بقية).