مرفأ قراءة... استلهامات "السندباد" في الأدب المعاصر
- 1 -
ربما لم تحظ شخصية خيالية من ممالك الخيال السردية في تراثنا العربي من الاهتمام والتوظيف والاستلهام مثلما حظيت شخصية "السندباد" التي عدت منجما فنيا بكل ما تعنيه الكلمة للأدباء والفنانين والمبدعين والتشكيليين، وصناع السينما ومؤلفي الموسيقى.. إلخ.
وأثناء بحثي عن "سرديات البحر في التراث العربي"، ودراسة (قصة السندباد البحري ورحلاته السبع)، تبين لي عالمية هذه الشخصية واتساع أثرها على كل المستويات، وإلهامها المبدع عبر العصور، خاصة في القرون الثلاثة الأخيرة، تحديدًا منذ اكتشاف "ألف ليلة وليلة" وترجمتها إلى الفرنسية، ومنها إلى كل اللغات الأوروبية في القرن الثامن عشر.
ومن يراجع الجزء الثالث على سبيل المثال من الأعداد الثلاثة الخاصة "الممتازة" التي خصصتها مجلة فصول المصرية العريقة لألف ليلة وليلة، سيجد نماذج عديدة ومتباينة لأشكال وألوان من هذا التأثر والإلهام الذي ألهمته قصة السندباد لطاقة الخيال والإبداع البشري طيلة هذه القرون الثلاثة السابقة.
مئات بل آلاف الصور والرسوم واللوحات التي تفنن في إبداعها كبار الرسامين والمصورين والتشكيليين، عشرات المقطوعات الموسيقية والسيمفونيات التي ألفها عمالقة التأليف الموسيقي، ومع ظهور السينما وأفلام الأنيميشين والقصص المصورة احتل السندباد مكانة ومساحة لم ينافسه فيها أحد! وهكذا يمكن القول إننا الآن يمكن أن نقترح إنشاء مؤسسة أو متحفا عالميا ضخما باسم "السندباد" يضم كل النتاج البشري الذي دار حول هذه الشخصية أو استلهمها أو وظفها في عمل إبداعي أو فني أو نص أدبي مكتوب.
- 2 -
يقول الكاتب والروائي العراقي أحمد سعداوي إن هناك "طاقة" دائمة مختزنة في النصوص القديمة، تستخرجها القراءات الجديدة من خلال التأويل، "أفكّر بذلك وأنا أطالع المجلّد الثاني من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وتحديداً مع بداية الليلة 537 حيث تبدأ شهرزاد برواية حكاية مصادفة لقاء السندباد الحمّال "البرّي" مع السندباد البحري في بيتٍ بغداديٍّ فارِهٍ، وسماعه منه لحكايات رحلاته العجيبة التي منحته في المحصّلة النهائية حياةً رغيدةً، وجاهاً وعزّاً وثراءً كبيراً".
يوضح سعداوي أنه في المقاصد التي اعتنى بها من نَسَجوا حكايات السندباد البحري كانت "غرائبية الرحلات" هي بؤرة الجذب للسامع، بما أن النصّ الأصلي كان شفاهياً، وفاعليته في الروي والسماع، لذلك لم يعتنوا كثيراً بالحكاية الإطارية لهذه الحكايات، فهي مجرد مدخل، والراوي والسامع كلاهما في عقدٍ خفيٍّ يبرّر عدم الوقوف طويلاً مع الحكاية الإطارية، فما هي إلا مقدمة لا تعني الشيء الكثير سوى أن تفتح باباً لمغامرات السندباد في لُجَّة البحار، ومواجهته لغرائب الأحداث والوحوش وطباع المجتمعات التي يصادفها.
وقد تعزّزت مقاصد هذا "العقد الخفي" لاحقاً بتحويل حكايات السندباد البحري إلى قصص "كومكس" أو أفلام ومسلسلات تلفزيونية ورسوم متحرّكة، فنحن هنا ندخل إلى الرحلات نفسها مباشرةً من دون الحكاية الإطارية، التي رأى صنّاع هذه المنتجات الفنية الحديثة أنها غير ضرورية.
وقد توقفت أمام نموذجين من الأدب المعاصر، وهما رواية ليالي ألف ليلة لنجيب محفوظ (وقد أفردناها بمقال سابق هنا في مرفأ قراءة) ورواية الكاتب والروائي والمسرحي الراحل ألفريد فرج "أيام وليالي السندباد".
- 3 -
وقد استوقفني خصوصية وفرادة الرؤيتين الفنيتين والمعالجتين المبدعتين لشخصية "السندباد" في هذين النصين من سردنا المعاصر؛ أولاهما لسيد الرواية العربية نجيب محفوظ، الذي استلهم شخصية السندباد في الحكاية قبل الأخيرة من درته الرائعة "ليالي ألف ليلة"، وقد كان لهذا الاختيار والموقع الذي احتلته حكايته من البناء الروائي مغزاه ودلالته.
وثانيهما لمحاولة الكاتب المسرحي الفذ ألفريد فرج في نصه السردي الممتع "أيام وليالي السندباد"؛ وهو نص كامل بناه على استلهام شخصية "السندباد" ورحلاته وشغفه المعرفي وطقسه الارتحالي. وسنلقي أضواء على طريقة استلهام شخصية "السندباد" في النصين، ونحاول أن نستكشف خيوط الإلهام والاستلهام بين الشخصية المرجعية والنص الأصلي وبين النصوص التي أبدعها الكاتبان المعاصران.
لم يأت استلهام محفوظ للشخصية من فراغ فهو كان مؤمنا بأن حكايات "ألف ليلة وليلة" بثرائها القصصي غير المسبوق، تعتبر بلا شك من أهم القصص في تاريخ الأدب الإنساني كله، وإذا كان تأثيرها قد امتد إلى الآداب الأوروبية وغيرها، فإن تأثيرها عندنا كان أشد وأقوى لأنها نبعت من هذه التربة "العربية"، وكانت متشربة بتراثنا العربي، فعبرت عنه كأفضل ما يكون التعبير.
أما نصه "ليالي ألف ليلة" فقمة من قمم الإبداع الأدبي على مستوى العالم أجمع، وهو لا يقارن بالعمل الأصلي "ألف ليلة وليلة"؛ لأنه أكثر إحكاما وفنا ورؤية وجمالا وحكمة، ولأنه يستخدم بطريقة رائعة فن الحكي والأسطورة من أجل أغراض فلسفية وصوفية وعميقة.
تأتي (حكاية السندباد) كما صاغها محفوظ في "ليالي ألف ليلة" مركزة ومكثفة تماما وجاءت قبل الفصل الأخير أو الحكاية الأخيرة في لياليه، وكأنه يريد إيجاز وتكثيف مغزى حكاياته كلها في حكاية واحدة وهي "السندباد".
يبدو سندباد محفوظ في "ليالي ألف ليلة" حاملًا للحكمة ودروس السنين والأعوام، والخبرات التي حصلها من دوام الارتحال واكتشاف المجهول، ولهذا فهو لا يسهب في تفاصيل الرحلات السبع ولا ما واجهه من عجائب وغرائب وأهوال، بل يقطر ويكثف خلاصة ما تعلمه من دروس ومعارف وحكمة يواجه بها شهريار القلِق.
- 4 -
عندما سيعود سندباد من رحلاته سيطلب شهريار لقاءه في قصره، ليقص عليه خلاصة أخبار رحلاته، "فسُرَّ بذلك أيما سرور، ومضى من فوره إلى القصر بصحبة كبير الشرطة عبد الله العاقل.. غير أنه لم يتشرف بالمثول بين يدي السلطان إلا أول الليل فذهبوا به إلى الحديقة.. جلس حيث أجلس في ظلمة شاملة، وأنفاس الربيع تنفذ في أعماقه أخلاطا من روائح الأزهار وتحت سقف يومض بالنجوم.. كان السلطان يتحدث بهدوء ولطف فاطمأن قلبه وزايلته الرهبة وحل الأنس والحب.. سأله عن عمله الأول وعن حظه من العلوم وعما جعله يعزم على الرحلة.. فأجاب بإيجاز يناسب المقام، وبصراحة وصدق.. قال شهريار:
ـ حدثني قوم عن رحلاتك فرغبت أن أسمع منك ما تعلمته منها إن كنت حظيت منها بعلم نافع فلا تكرر إلا ما تقتضيه الضرورة..
فتفكر سندباد مليا، ثم قال:
ـ الله المستعان يا مولاي..
ـ إني مصغ إليك يا سندباد..
ملأ الرجل صدره بالأريج الطيب، ثم قال:
ـ تعلمت يا مولاي أول ما تعلمت أن الإنسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة، وأنه لا نجاة لنا إلا إذا أقمنا فوق أرض صلبة".. (رواية ليالي ألف ليلة، نجيب محفوظ)
- 5 -
وهكذا سيوجز السندباد خلاصة كل رحلة من رحلاته السبع في درس مستفاد وعبارة جامعة مانعة؛ بعد أن يقدم ملخصا شديد الإيجاز لأحداث كل رحلة، ورغم وجازة الحكاية وتكثيفها فإنها مشحونة بمستويات متعددة ومتداخلة من الدلالات التي يمكن استنباطها على مستوى بنية السرد، والمغزى العام والكلي من الحكاية في إطار هيكل الرواية ككل، على سبيل المثال؛ يقول السندباد في استخلاص أحد الدروس السبعة التي تعلمها:
"تعلمت أيضًا يا مولاي أن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة، وأنه لا يأس مع الحياة..
وتعلمت أيضًا يا مولاي أن الطعام غذاء عند الاعتدال ومهلكة عند النهم، ويصدق على الشهوات ما يصدق عليه..
وتعلمت أيضًا يا مولاي أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة..
وتعلمت أيضًا يا مولاي أن الحرية حياة الروح وأن الجنة نفسها لا تغني عن الإنسان شيئا إذا خسر حريته" (الرواية)
(وللحديث بقية)
