No Image
ثقافة

مرفأ قراءة.. أنا و"المنفلوطي" ومعرض الكتاب!

10 فبراير 2024
10 فبراير 2024

- 1 -

دارت الحلقة السابقة من (مرفأ قراءة) حول مصطفى لطفي المنفلوطي "البياني" الكبير، والمؤسس في تاريخ النثر العربي الحديث، بمناسبة الاحتفال بمئوية رحيله في معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ55 الذي انتهت فعالياته الأسبوع الماضي واختتم بإعلان اختيار سلطنة عمان ضيف شرف الدورة القادمة (2025)

ورغم تأسيسية الأدوار التي لعبها المنفلوطي (1876-1924) في تاريخ الأدب العربي عمومًا، والنثر العربي بخاصة، فإنه لم يظفر بما يستحق من دراسة وقراءة وتحليل، بالرغم من أنه يكاد يكون صاحب التأثير الطاغي على الكتابة العربية و"أسلوبيتها" لما يقرب من نصف القرن! فباستثناء كتاب الدكتور ناجي نجيب البديع حول المنفلوطي (كتاب الأحزان)، والدراسة التاريخية التحليلية القيمة التي أنجزها المرحوم الدكتور محمد أبو الأنوار عن «المنفلوطي حياته وأدبه»، لا يوجد فيما أعلم كتاب آخر أو دراسة بذاتها خصصت لقراءة المنفلوطي ودراسته دراسة مستفيضة.

ويكاد يكون المنفلوطي أول كاتب كلاسيكي تعرفت عليه وأنا في مراحل الدراسة الأساسية وتأثرت به أيما تأثر، بعد أن طالعت له نصا نثريا مقررا في الصف الثالث الإعدادي بعنوان (الجمال) للمنفلوطي، أذكر مطلعه تمامًا "الجمال" هو التناسب بين الهيئات المركبة، سواء أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم الخيالات".. إلخ

هذا النص لم يكن طويلًا بحال (لم يزد على خمسة عشر سطرًا تقريبًا) ولم نكن ملزمين بحفظه! وهو منشور ضمن نصوص كتابه (النظرات) الذي يقع في ثلاثة أجزاء؛ وللتوثيق -لا غير- أورد النص الكامل لهذه القطعة البديعة التي فعلت في صاحب هذه السطور ما فعلته!

- 2 -

يقول المنفلوطي تحت عنوان (الجمال):

"الجمال هو التناسب بين أجزاء الهيئات المركبة، سواء أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم الخيالات. ما كان الوجه الجميل جميلًا، إلا للتناسب بين أجزائه، وما كان الصوتُ الجميل جميلًا، إلا للتناسب بين نغماته، ولولا التناسب بين حبات العقد ما افتنت به الحسناء، ولولا التناسق في أزهار الرَّوْضِ ما هامت به الشعراء.

ليس للتناسب قاعدةٌ مطردةٌ يستطيع الكاتب أن يبينها، فالتناسب في المرئيات غيرُه في المسموعات، وفي الرسوم غيرُه في الخطوط، وفي الشؤون العلمية غيرُه في القصائد الشعرية، على أنه لا حاجة إلى بيانه ما دامت الأذواق السليمة تدرك بفطرتها ما يلائمها، فترتاح إليه، وما لا يلائمها فتفرُّ منه.

إنَّ كثيرًا من الناس يستحسنون الأنف الصغير في الوجه الكبير، والرأس الكبير في الجسم الصغير، ولا يفرقون بين البرص في الجسم الأسود والخال في الخد الأبيض، ويطربون لنقيق الضفادع كما يطربون لخرير الماء، ويفضلون أنغام النواعير على أنغام العيدان، ويعجبون بشعر ابن الفارض، وابن معتوق، والبرعي، أكثر مما يعجبون بشعر أبي الطيب وأبي تمام والبحتريِّ، ويضحكون لما يبكي ويبكون مما يضحك ويَرْضَوْنَ بما يُغْضِبُ ويغضبون مما يُرضي. أولئك هم أصحاب الأذواق المريضة، وأولئك هم الذين تصدر عنهم أفعالهم وأقوالهم مشوهةً غير متناسبة ولا متلائمة؛ لأنهم لم يُدْرِكُوا سر الجمال فيصدر عنهم، ولم تألفه نفوسهم فيصير غريزة من غرائزهم.

إنْ رأيت شاعرًا يبتدئ قصائد التهنئة بالبكاء على الأطلال، ويودع القصائد الرثائية النكات الهزلية، ويتغزل بممدوحه كما يتغزل بمعشوقه، أو متكلمًا يقتضب الأحاديث اقتضابًا، ويهزل في موضع الجد ويجد في موضع الهزل، أو صحفيًّا يضع العنوان الضخم للخبر التافه، ويكتب مقدمةً في السماء لموضوعٍ في الأرض، أو حاكمًا يضع الندى في موضع السيف، والسيف في موضع الندى، أو ماشيًا يتلوى في طريقه من رصيفٍ إلى رصيفٍ كأنما يرسم خطًّا مُعَرَّجًا، أو لابسًا في الشتاء غلالة الصيف، وفي الصيف فروة الشتاء، فاعلم أنَّ ذوقه مريضٌ، وأنه في حاجةٍ إلى معالجة ذوقه، كحاجة المجنون إلى علاج عقله، والمريض إلى علاج جسمه".

- 3 -

ولا أعلم لماذا ولا كيف أحببتُ هذه الأسطر حبًّا جمًّا، ولا كيف حفظتها فورًا من القراءة الأولى، وبتّ أتلذذ بقراءتها بصوتٍ عالٍ مسموع، وأستشعر "التناسب" الذي يتحدث عنه المنفلوطي ذاته بين الجمل والعبارات والفقرات التي كتبها، وأعي تمامًا مقدار ما استمر فيه في القراءة، ومقدار ما أتوقف فيه لالتقاط الأنفاس، ومتى أستمر.

كانت هذه المرة الأولى التي يخامرني فيها هذا الشعور الغامر بجمال "النثر الفني" للغة العربية، لكل لغة إيقاع داخلي ملحوظ مسموع، إذا أحسن قراءته، فقط نحتاج إلى إرهاف السمع والإنصات جيدًا، فيما بعد عرفت أن هذا الإحساس يترجم جماليا وفق عبارات علم البلاغة العربية بأن "أسلوب المنفلوطي يتميز بالعناية الشديدة بموسيقى ألفاظه، وكان حريصًا على توازي الجمل وخاصية الازدواج، وإيقاعها، وعلى رصانة اللغة ونصاعتها. وكان يمتاز بكثرة الاقتباس، والتضمين القرآني".

أدركتُ ساعتها أو حينها أن القراءة الجهرية أو القراءة بصوتٍ عال تلعب دورًا خطيرا في تنمية هذا الإحساس، وتغذية هذا الشعور، جنبا إلى جنب السماع أو الاستماع إلى من "يقرأ" أو إلى أي مادة لغوية "مسموعة" بهذه الطريقة والتركيز فيها.

وهكذا، ودون أن أقصد، نشطت خلايا الاستقبال "السماعي"، وأصبحت رافدًا من أهم روافد التلقي والإحساس والتذوق. ووازاها دون أن أقصد تدريب "اللسان" و"الصوت" بالحرص على إسماعي (أي نعم، إسماعي لنفسي) صوتي، وأنا أقرأ النصوص بنبرة مسموعة ومميزة.

- 4 -

أعود إلى "المنفلوطي" الذي أحببته وأحببتُ لغته الموقَّعة التي تشبه "الشعر" وتمس القلب، وفيها منطق لا أعي أسبابه، ولذا فقد قررت أن أول معرض للكتاب لا بد من شراء ما أتمكن من شرائه من كتب هذا المنفلوطي الذي تشبه صورته صورة السيد أحمد عبد الجواد عملاق بين القصرين وقصر الشوق والسكرية!

[هامش ضروري: أنا مدين للفنان الراحل الكبير جمال قطب بتشكيل صورتي الذهنية "البصرية" لكل أعلام الفكر والأدب والفن والعلوم والثقافة في كل المجالات.. إلخ، منذ وعيتُ فيها على أغلفة نجيب محفوظ الأشهر، وعلى أغلفة غيره لكبار وجُلّ الكتاب عن مكتبة مصر.. البورتريه الذي رسمه جمال قطب للمنفلوطي هو البورتريه الأشهر للرجل في القرن الأخير كله! وقد صدرت كتب المنفلوطي عن مكتبة مصر في حقبة الثمانينيات والتسعينيات بغلاف جمال قطب الذي توسطت صورة أو بورتريه المنفلوطي بعمته الأزهرية الأنيقة، وجبته وقفطانه المكويين بعناية فائقة، وشارب العشرينيات الشهير، وأظن أن لشهرة هذا الطبعات ورواجها وانتشارها ليس في مصر وحدها إنما في العالم العربي كله، أن نسخة واحدة على الأقل من كتب المنفلوطي بهذا الغلاف كانت موجودة في كل بيت مصري به مكتبة أو كان رب الأسرة حريصا على اقتناء الكتب ولو على سبيل الوجاهة والزينة.. الصورة المرفقة مثالا].

- 5 -

وبالفعل ما أن انتهيتُ من الصف الثالث الإعدادي، وكنت على مشارف الصف الأول الثانوي، أعددت قائمة بأسماء الكتب التي سأشتريها للمنفلوطي في معرض الكتاب، ساعدني في ذلك أن (مكتبة مصر بالفجالة) كانت تطبع قائمة إصداراتها الأنيقة، وتجعلها متاحة ميسورة لزوارها ولا تفرِّق بين كبير وصغير (مثلما كانت تفعل معظم دور النشر المصرية في ذلك الوقت!).

ومن هنا عرفت أن للرجل كتابين بعنوان «العبرات» و«النظرات»، ومن المعلومات التعريفية المبتسرة التي حفظتها من درس القراءة بالإعدادية عرفت أنه له أعمال أخرى لم أفهم بالضبط إن كانت "ترجمة خالصة أم تعريبًا بتصرف أم تأليفا وصياغة؟!"

لم أكن أعلم. لكنها مشهورة للغاية، وهي في الأصل أعمال قصصية (وروائية ومسرحية) لكتّاب فرنسيين، ولكن المنفلوطي أجرى فيها القلم (ولم أكن أعلم أن هناك من يترجم له المضمون العام للقصة أو يشير عليه بأهم أحداثها وشخوصها والإطار العام لتطور الوقائع والدراما فيها، ثم يترك للمنفلوطي العنان بلغته الساحرة التي ليس لها مثيل لينطلق في صياغة كل ما وعاه وما فهمه من القصة بلغته العربية الساحرة).

وقررتُ أن أبدأ بقراءة ما أستطيع أن أشتريه بميزانيتي المحدودة، فلم يكن في مقدوري قراءة الأعمال الخمسة أو الستة المدرجة في قائمة ما يسمى "ترجمات المنفلوطي"..