ثقافة

طاهر العميري: لحظة اللاوعي تنتج فكرة شاقة تقود إلى ضوء القصيدة البعيد!

08 نوفمبر 2022
هدوء اللغة لا يأتي إلا من رعب الإحساس بالزمن والإصغاء للحياة
08 نوفمبر 2022

العُمانية: تتشكل تجربة الشاعر العُماني طاهر العميري في كونها متفردة في التعامل مع المفردة الشعبية، فدائما ما يجد القارئ ذلك الهدوء والتناغم التصاعدي بين مفردات القصيدة الواحدة التي تتميز في الوقت ذاته بتوافق يحفه الدفء والنسق التام مع الفكرة. الشاعر العميري ليس شاعرا فحسب وإنما قارئ يقظ ونهم في شأن الأدب، كما أنه مخلص في كتابة الحرف الشعري، وفاحص لواقع الشعر الشعبي وأنماطه ومفرداته، فقد نُشر له الكثير من البحوث الأدبية في عدد من وسائل الإعلام المحلية وقدم الكثير من الرؤى في شأن النهوض بالقصيدة في سلطنة عُمان، كما قدم نَفَسه الشعري محكّما في العديد من المسابقات على مستوى سلطنة عُمان، وعلى الرغم من البدايات مع الشعر منذ عام 1997 إلا أنه لم يخفت توهجه ليوم، فقد صدر له ديوان "زرقة" 2006 م، وديوان "وطن أخضر" 2017م.

في شأن الشعر يتحدث العميري بروح الشاعر ويقترب من مدى انسجام القصيدة الشعبية مع الواقع الاجتماعي وإسهاماتها في الجانب الوطني والثقافي فيقول: "تذهب القصيدة الشعبية أو العامية، التقليدية منها والحديثة، جنبا إلى جنب مع تحولات المجتمع وانفجاراته الاجتماعية والحياتية، وتحاكي هذا المد الشعوري الكامن في عقله الجمعي، فهي الترجمة الواقعية لمكنوناته الداخلية، وتقدم نفسها بشروطها الجديدة في محاولة رسم صورة عامة عنه "أحزانه وأفراحه وانكساراته"، فهي تنطلق من صدق الحس والحدس، ومن خلال أشكال كتابية أكثر جنونا وشراسة وغنى. لا تستطيع اللغة الشعرية العامية أن تكون بمنأى عن معنى الوجود الحقيقي للإنسان، إذ ترتفع هذه اللغة بقيمة الإنسان من خلال مفردات أقرب التصاقا به، مقدمة لغة أكثر إشراقا وتماسا مع وجوده الحياتي ومشحونة بتلك الطاقة الكلامية في سياق حاجة الإنسان للتعبير والكتابة".

وحول أوجه الالتقاء والاختلاف بين القصيدة الشعبية العُمانية والشعر الشعبي المكتوب في الجزيرة العربية يقول: "لا يمكن لأي قصيدة إلا أن تنطلق من مكونها الثقافي الأول، فالمجتمع يشكل رافدًا أصيلًا، ويمكن لنا بسهولة أن نميّز القصيدة العُمانية من خلال لغتها ومفردات المكان الذي تتشابك وتتعالق به، فالمكان هو الهُوية والرائحة الأولى لأي لغة تأخذ بعدها الثقافي في الأشكال الكتابية التي تنتجها، والهُوية في القصيدة لا يمكن اكتشافها من خلال اللغة فقط، بل من مفردات المكان، زرقة بحره وارتفاع سماوات جباله وحزن أشجاره، وتشكل اللهجة العُمانية قيمة جمالية في بحر اللهجات العربية، فهي تشق طريقها مثل فلج لا ينتهي بتدفقها وتنوع تراكيبها الجمالية، ويصب كل هذا التنوع في حقل القصيدة".

ويضيف: "لا يمكن لنا أن ننكر أوجه الالتقاء والاختلاف بين اللهجة العُمانية بتنوعها وبين لهجات المنطقة لأننا ننتمي للبعد الجغرافي الواحد، وهذا الالتقاء والاختلاف سنجده أيضا في الشعر الشعبي المكتوب، فقد تتشابه المفردات والتراكيب الكلامية لكن يبقى لكل إقليم رائحة لغته الخاصة التي تميزه، وهذا يمكن تمييزه بسهولة من خلال طريقة نطق الكلمة وذوبانها في النسيج العام للقصيدة، كما أن الفنون القولية والغنائية تشكل رافدًا وخصوصية أخرى للمكان لأهميتها في الكتابة الشعرية العامية".

وفي شأن القصيدة الشعبية والهوية الثقافية والاجتماعية (المكون العُماني)، يؤكّد الشاعر طاهر العميري أنه "إذا أردنا أن نتحدث عن أي موروث تاريخي كتابي فعلينا أن نتتبع العمر الزمني لأي شكل فني أو كتابي والمساحة الزمنية التي احتلها ليخرج لنا بشكله النهائي الأخير، هذه الصورة النهائية يقاس عليها ما يكتب بعدها وتعد موروثا لا يمكن الخروج عليه، والحقيقة أن الكتابة هي مجموعة من التحولات، وما يعد موروثا في زمننا كانت له "موروثات" سبقته زمنيا وربما تختلف عنه في أشكالها ومبانيها ومضامينها وهي بالتأكيد رافد للموروث في صورته الأخيرة التي وصلتنا، وبطبيعة الحال ما يكتب في زمننا الحالي سيأخذ شكل الموروث بعد مائة سنة وأكثر، وربما ستبنى عليه نصوص لاحقة وستتجاوزه أجيال قادمة، ولا يمكن لأي نص حديث إلا أن يكون استمرارا وتجاوزا لبنى شعرية سابقة".

وفيما يتعلق بشبهة الغموض في القصيدة العُمانية الحديثة وهل يمكن اعتبارها تطورا طبيعيا للموروث الشعبي العُماني يقول العميري: "الغموض تهمة أُلصقت بالقصيدة العربية الحديثة منذ خمسينات القرن الماضي بسبب الشرخ اللغوي الحاصل بين القصيدة العربية التقليدية وبين القصيدة الحديثة، لاختلاف المدخلات الثقافية والقرائية لكلا الجيلين، لكن لا يمكن إنكار التهمة عن بعض النصوص أو التجارب الشعرية غير الناضجة شعريا وفنيا، وقد يكون الغموض مبررا أحيانا فنيا لدوافع يلجأ إليها الشاعر، ومضرا ببعض النصوص لعدم قدرة الشاعر على الإمساك بفكرة النص والانفلات اللغوي الحاصل في النص الواحد، مثل غياب الترابط النصي بين الجمل مما يؤثر على إنتاج المعنى في الجملة الشعرية أو في النص ككل؛ وهذا يؤدي إلى غموض المعنى بشكل سلبي، وكل هذا يُحسب على القصيدة العامية الحديثة أيضا".

وعن حضور المكان في تجربته الشعرية يقول: "أنا ابن بيئة ورثت البحر في زرقته والنخل في ارتفاعه وسمو هامته والصخر في صلابته، أعيش بين مجموعة هذه الألوان التي تشكل المناخ العام للمكان والتي ستجد بطبيعة الحال طريقها إلى القصيدة وستشكل مناخاتها هي الأخرى، ويحضر المكان في قصيدتي حضورا عفويا، فالشاعر يمنح من جميع هذه المكونات حوله، الذاكرة محملة بالكثير من الأشياء التي لم تستطع المدنية الزائفة إخفاءها ونحن نعيش في ريف يتمدن يحاول نزع أثوابه القديمة التي تصر على الالتصاق به أكثر، والذاكرة ثقب أسود يبتلع كل ما حوله، والشاعر الذكي هو من يستثمر كل هذه المكونات، والقصيدة ذاكرة أخرى تحاول استيعاب ارتطامات الإنسان بالحياة والمكان".

ولأن قصيدته تميزت بهدوء اللغة وحساسيتها العالية وانسيابيتها يفسر الشاعر طاهر العميري ذلك بقوله: "هدوء اللغة لا يأتي إلا من رعب الإحساس بالزمن، الإصغاء للحياة وتأملها بصمت المستريب، ويركن الشاعر إلى الصمت في محاولة مواجهة قسوة الحياة حوله، وتأتي اللغة عالية في حساسيتها وهدوئها وانسيابيتها، ويحاول الشاعر أن يعيش بأقل الخسارات في الحياة متماهيا في حركة وسكون قصيدته متدثرا بعاطفتها ومرتطما بإيقاعاتها، تائهًا في توهجها ومنسرحا في زمنها اللانهائي".

وفيما يخص علاقته بالألوان وحضورها في إصداراته الشعرية يردف قائلا: "لا يمكن لشاعر أن ينفلت من حضور الألوان ودلالاتها في قصيدته أو في عناوين الأعمال الشعرية التي تأخذ هي الأخرى بعدا شعريا آخر، فبين عملين لي "زرقة" و "وطن أخضر" أجد نفسي منفيا بين هذين اللونين، لأنهما يشكلان عالمي الشعري والحياتي الواحد، فبين هذين اللونين أضعت خطوات طفولتي الأولى وبينهما صرت أبحث عن ذاكرتي، وقد تحضر الألوان بدلالاتها الواسعة كاستجابة طبيعية لنداء مكاني بعيد، تحضر فيه البيئة بكامل مكوناتها لترفد اللحظة الشعرية اللاواعية وتشكل مناخاتها اللامرئية، وهذا ما قد يفسر حضورها اللافت الخفي".

ويشير إلى التحديث وتطور اللغة في تجربته أيضا ومدى تماسها مع أفق الحداثة في القصيدة العربية عموما فيؤكد أنه "على الشاعر أن يعيش كل يوم مغامرة جديدة مع قصيدته، وأن يجتاز طريقه نحو معرفة العالم وفهمه، والقصيدة هي من تنير له هذا الطريق، والمعرفة في أفقها الواسع وانفتاح الكاتب على الأشكال الكتابية المختلفة وهو ما يجعل قصيدته مختلفة في رؤيتها، والكتابة قلق يومي وصراع لا نهائي مع اللغة في محاولة الشاعر اكتشاف مجرات جديدة في كون القصيدة الفسيح، ولا يمكن للشاعر أن يركن إلى العادي من الكلام وإلى الأشكال الشعرية الجاهزة، وتجاوز بُنى الكتابة التقليدية بات مطلبا مهما في الكتابة الشعرية الحديثة، في محاولة التّماس مع أفق الحداثة وأسئلتها الكبرى، وعلى الشاعر أن ينصت للعالم وأن يقذف بقصيدته وسط هذا المد اللامنتهي من طرق التعبير الحديثة متماسا ومتجاوبا ومستفيدا من كل هذه التقاطعات التي تصنع نصه الجديد، وهذا ما أحاوله في قصيدتي من خلال الاشتغال على فنيات تكاد تكون جديدة في فضاء القصيدة العامية، واجترار الغنائيات المباشرة في القصيدة لا تصنع إلا قصيدة مكررة يعاد كتابتها واستنساخها، فبينما تطالعنا القصيدة العربية في أفقها الجديد بفنيات أكثر حداثة تغني القصيدة وتضيف لها بُعدا كتابيًّا آخر، والاهتمام بالإيقاع في القصيدة والاستفادة من الطاقات الصوتية للبحور العربية لهو غنى آخر يضاف إلى جماليات القصيدة، وبُنى تتجاوز حتى شكل القافية وتكرارها الصوتي من خلال جمل شعرية أكثر انطلاقا وانسيابية، ويحرر فيها الشاعر الكلام من قوالبه الجاهزة والجمل الشعرية من طولها الاعتيادي إلى انسيابية أكثر انطلاقا وتجاوزا واسترسالا".

وفي ختام حديثه يتحدث الشاعر طاهر العميري عن الكيفية التي ينتهجها الشاعر للتغلب على الفكرة بدءا من حضورها الذهني مرورا بتوظيفيها شعريا فيقول: "القراءة في التجارب الشعرية المختلفة، والتجارب القادمة من كل مكان في العالم ومد الجسور نحوها إلى جانب التأمل والإنصات الشفيف إلى صوت الموسيقى وهو ما يغذي الفكرة في القصيدة، إذ تنفتح المدارك على جوانب أكثر إشراقا كانت تعيش في الظل من تفكير الشاعر، وهنا وفي اللحظة اللاواعية التي تداهم فيها الشاعر القصيدة تحضر كل هذه المكونات لتبرق الفكرة شاقة طريقها، ومؤثثة دروب القصيدة الوعرة ومرتكبة مجازرها الكلامية، ليجد الشاعر نفسه مستسلما إلى فكرة تقوده إلى ضوء القصيدة البعيد، متأملا الحياة في سيرورتها ومحاورا الأشجار عن ظلها ومتسائلا مع الإنسان عن حياة وذاكرة أخرى بديلة".