No Image
ثقافة

«رأيت الأضواء مطفأة».. المكان بوصفه ذاكرة وتاريخا مستعادا

24 يوليو 2023
24 يوليو 2023

في 12 فبراير عام 2019م شاركتُ والصديق سعيد الحاتمي في برنامج (وقال القارئ) الذي تقدّمه الكاتبة منى السليمية، وكانت الحلقة عن نص (رحلة إلى القدس) للكاتب عاصم الشيدي المنشور في كتابه (لا أريد لهذه الرحلة أن تنتهي) الصادر عام 2014م عن بيت الغشام، قلت عن هذا النص ما معناه: «نص رحلة إلى القدس لعاصم الشيدي هو ليس نصا خالصا في أدب الرحلات؛ فقد جمع في داخله نصوصا تتماسّ مع النص الأدبي والنص التاريخي والنص الديني. ويحاول عاصم من كل هذه الامتزاجات إلى جمع ثروة هائلة لغوية وجمالية في بناء النص.

اعتدنا دائما في أدب الرحلات الوقوف على فن المشاهدة؛ إذ يقوم الكاتب بوصف ما يشاهده في رحلاته، لكن عاصم الشيدي يصف ما يشاهده في ملاحظاته ثم ينتقل بعد ذلك إلى استخدام لغته الأدبية باستيراد مقطع شعري لنزار قباني أو مقطع شعري لمحمود درويش أو حتى مقطع غنائي لفيروز، وفيروز تكررت في هذا النص حوالي (12) مرة، ومحمود درويش (4) مرات، وإدوارد سعيد (4) مرات، ونزار قباني مرة أو مرتين، كل هذه الاشتغالات داخل نص هو أساسا أدب رحلات له ميزة خاصة عند عاصم الشيدي لا تتوفر ربما عند كاتب آخر، نحن نعلم أن عاصم كاتب صحفي أيضا وكاتب قصصي، لكن في هذا النص مزج فيه بين أدبيات الرحلة والنص الأدبي والتاريخي والديني أراد منه إثارة تفاعلات داخل النص الواحد وهذا ما لمسناه من خلال تصادم النصوص الأدبية والتاريخية والدينية مع الكم الهائل للمعلومات».

في كتابه (رأيت الأضواء مطفأة) الصادر عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء والآن ناشرون وموزعون عام 2022م، يواصل عاصم الشيدي سرد رحلاته بالأسلوب ذاته والتقنيات التي عهدناها في كتابه السابق، فطريقة السرد تتشكّل من تقصّي المعلومة قبل بدء الرحلة، والبحث عن كل ما يقود إلى كشف مسارات الوجهة المقصودة.

أضف إلى ذلك المُرافق أو الدليل الذي يكون له دورٌ مهمٌ في إيصال المعلومة والكشف عنها نجد ذلك مثلا في عبير زياد في رحلة إلى القدس، ونيكولاس في رحلته إلى الحمراء وقرطبة فقد كان عاصم محاوِرا لهما ومناقشا ومعارضا لأيديولوجيات مختلفة في أروقة المكان.

يعود بنا عاصم الشيدي في رحلاته هذه إلى الماضي مستعيدا أوجه الحياة والمكان والبشر القاطنين بها، فمنذ حديثه الأول عن القاهرة كانت ذاكرة نجيب محفوظ حاضرة، والحسين بمقاهيه والطرقات والأحداث التي مرّت بالمكان، فقد كان الماضي حاضرا في النصوص نتلمس خطاه ونشم رائحة ممراته. لم تكن العودة إلى الماضي في أثر نجيب محفوظ وحده بل كانت ثقافية بامتياز في تتبع الصحفي الكبير هيكل ومحاولة اللقاء به، رغم أنّ القاهرة لم تكن مسرحا للقاء مع وجود موعد سابق، فكان اللقاء في شوارع باريس على غير موعد. إنّ القاهرة -في الزيارات المتكررة- عند عاصم أيقونة جمال تجمع بين ذاكرة الماضي وجماليات الحاضر وثقافته، ومع ذلك فهو يستعيد في كتابه ذكريات عام 2001م حيث الزيارة الأولى للقاهرة، فقد كان مشدودا إلى المكان بكل تفاصيله، ومشدودا إلى أمكنة الإنسان المصري، ومشدودا إلى أمكنة نجيب محفوظ بالتحديد وإلى الأمكنة التي وردت في رواياته، والأمكنة التي جلس فيها وحاور أصدقاءه من المثقفين، يستفتح عاصم ذاكرة القاهرة قائلا: «عندما زرت القاهرة أول مرة في صيف 2001 لم يكن ميدان التحرير يعني لي شيئا، وربما مررت به كثيرا دون حتى أن أعرف اسمه. لا بد أنني مررت به وأنا ذاهب إلى وسط البلد قادما من الدقي، أو وأنا أبحث عن مكتبة مدبولي ومكتبة الشروق وسور الأزبكية. لم يكن ميدان التحرير في ذلك الوقت يحمل أي رمزية بالنسبة لي على الأقل. كانت أماكن نجيب محفوظ هي الأهم: الحسين وخان الخليلي والسكرية وقصر الشوق وبين القصرين، وزقاق المدق، وحي الجمالية. كنت مهووسا بهذه الأماكن الروائية الأثيرة وبالمقاهي التي كان يجلس فيها محفوظ وحرافيشه، أو بالبحث عن بعض أبطاله على اعتبار أنه كان ينقل أجواء رواياته من بعض تفاصيل حياته اليومية. ولذلك بحثت عن مقهى الفيشاوي ومقهى ريش، وفي الفيشاوي سألت عنه لكن كان قد ترك هذا المقهى وغيره لسوء حالته الصحية وتقدمه في العمر».

إنّ الارتباط بالمكان الروائي عند نجيب محفوظ هو ارتباط ثقافي في مضمونه في محاولة لتصوير الواقع المكاني ومقارنته بالواقع الروائي كما أشار في الرحلة، كما أنّ الشوق إلى هذه الأمكنة جعل منها مكانا خصبا لسرد الأحداث، وإظهار النوازع الداخلية للكاتب؛ فحادثة صفع عامل المقهى للفتاة في رحلته للقاهرة عام 2019م أظهرت مدى الإنسانية المتمثلة في نفس الكاتب، إذ ظل طويلا يسترجع صورة الفتاة المنكسرة معبّرا عن ذلك قائلا: «شعرت بألم كبير عندما أقدم نادل مقهى الفيشاوي، الذي انتهت جولتنا في الحسين إليه، على ضرب طفلة صغيرة تبيع ورق المحارم أرادت أن تداعبني بطريقة تجبرني بها على شراء المحارم منها. لم أكن منزعجا منها رغم أن كثرة المتسولين في الحسين مزعجة جدا جدا.. كانت الطفلة خفيفة الظل، وتحمل الكثير من روح المصريين الحقيقية، رغم طفولتها البائسة أو المنزوعة منها قسرا شعرت أنني تسببت لها بذلك الضرب القاسي الذي لا يليق بعمرها وطفولتها»... و«لا تعرف الطفلة التي صُفعت على وجهها، ربما مئات المرات في هذا المكان، ماذا تعني طفولة؟ وماذا تعني أسرة؟ وماذا تعني البهجة، أو حتى ماذا تعني فكرة الجلوس في مثل هذه المقاهي والتأمل في وجوه المارة. لأنها لم تكن يوما في وضع المتأمِل ولكن المتأمَل. شعرت بظلم العالم أجمع ينثال في تلك اللحظة فيعيد صفع الطفلة الصغيرة مئات المرات».

ومن أمكنة نجيب محفوظ إلى محاولة البحث عن هيكل إلى المقاهي والميادين التي يعيدنا عاصم إلى ذاكرتها، ينطلق إلى باريس مستعيدا الماضي المتهدّم باسم الحروب، هذه المرة باجتماع القادة الذين باجتماعهم «كان العالم يحتفي بمناسبة مرور مائة عام على صمت مدافع الحرب العالمية الأولى، أو بمعنى أدق نصر الحلفاء على دول المحور، فالبشر لا يحتفلون عادة بنهايات الحروب والمآسي، إنما يحتفلون بالنصر، النصر وحده يستطيع أن يصنع الفرح والمجد، ويملي على كتبة التاريخ التفاصيل التي عليهم أن يخلدوها. على الرغم من ذلك لم يخل احتفال النصر تحت قوس النصر العملاق من غرائب ومشاهد رمزية لا يمكن أن تمر مرورا عابرا.

جلس سبعون من قادة العالم تحت قوس النصر ظهر يوم ماطر وسيئ وفق قراءة الأوروبيين للطقس، ويمموا وجوههم ناحية نصب الجندي المجهول في میدان شارل ديغول. كان هذا الحفل مليئا بالرموز التي يمكن أن تقرأ لصالح فرنسا ولصالح رصيدها الإبداعي قبل السياسي، فكأن ما حدث حكاية حبكها روائي فرنسي فنان من طراز باتريك موديانو أو ألبير كامو أو حتى سارتر.

المنتصرون جلسوا إلى جوار الخاسرين في الحرب العالمية الأولى أو إلى جوار أحفادهم وإن تغيرت الأيديولوجيات، ولكن آلام الماضي وما نقشه في تاريخهم كانت باقية في نفوسهم، ميركل كانت في الوسط بين ترامب وماكرون. وبوتين جلس بين ماكرون وأردوجان سليل الدولة العثمانية أحد أكبر الخاسرين في الحرب العالمية الأولى، وجميع هؤلاء جلسوا تحت قوس النصر الذي بدأ بنيانه في عهد نابليون تخليدا لانتصاراته الإمبراطورية في أوروبا والعالم، وحدث كل هذا في ميدان شارل ديغول الذي قاد الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية واستقل بها عن الجيوش النازية، وفرح بالنصر مع الحلفاء على دول المحور بقيادة ألمانيا النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي كانت نتيجة حتمية لصمت مدافع الحرب العالمية الأولى وشروطها المذلة على دول المحور وخاصة ألمانيا والنمسا».

لقد كان الحديث عن باريس موازيا للحديث عن الماضي وحروبه وصراعاته، أما الماضي بكل تجلياته فتتضح معالمه في رحلاته إلى الأندلس التي يظهر في الكتابة عنها عمق الحنين إلى الماضي المندثر، والتاريخ المهزوم، والعروبة التي فقدت تراثها، فظل المكان معبّرا عن عظمة الإنسان العربي وثقافته وحضارته، فـ«هذه أطلال قرطبة التي أضاءت ظلام أوروبا، واستطاعت أن توقد مشاعل التنوير في كل مكان في أوروبا والعالم العربي العتبات الأولى لدولة الأندلس العظيمة، أم المدائن ومستقر دار الخلافة».

يسترجع عاصم الماضي باسترجاع أغاني الموشحات وصوت فيروز وقصائد الشعراء مثل قصائد أبي البقاء الرندي في سقوط الأندلس، وقصائد ولادة وابن زيدون، وقصائد عبدالمنعم الأنصاري، ويسترجعها بقراءة مستعادة لتاريخ ملوك الأندلس، وتاريخ المكان الأندلسي.

وكما ذكرت سابقا فإنّ عاصم قرأ كثيرا عن بلاد الأندلس وتاريخها وذاكرتها قبل رحلته، هذا ما يبدو، ويظهر ذلك من محاورته للمُرافق أو الدليل ومخاطبته لأسرته في الحديث عن الجوانب التاريخية للمكان هناك، وكما أشار في رحلته فقد قرأ كتاب (الحمراء: أثر الحضارة العربية الثقافي والاجتماعي على الأندلس وإسبانيا) لواشنطن إيرفينغ، وكتاب (غابر الأندلس وحاضرها) لمحمد كرد علي وعدّهما مرجعا مهما في استقاء المعلومة ونقلها إلى القارئ.

يظل الماضي عنصرا مهما في يوميات عاصم ورحلاته، وهو ما ينقله لنا بمشاعر عالية قد تذرف الدموع معها كما فعل هو في رحلته إلى قرطبة، ولم يحاول معه إغلاق باب الحنين للمكان فقد ظل الحنين متوهجا كما يشير في المقطع الأخير من الرحلة: «كنا قد بقينا قرابة خمس ساعات في المدينة عندما أخذنا نيكولاس إلى حافة الوادي الكبير لنلتقط صورا تذكارية للمدينة من زاوية تعطينا الكثير من التفاصيل، ويبدو فيها قصر الإمارة شامخا عاد ابن زيدون مرة أخرى، ليس مع ولادة هذه المرة، لكن مع أنثى أخرى، مع قرطبة بذاتها وهو يقول:

سقى جنبات القصر صوب الغمائم

وغنى على الأغصان ورق الحمائم

بقرطبة الغراء دار الأكارم

بلاد بهـا شــق الشباب تمائمي

وأنجبنـي قــوم هناك كرام