No Image
ثقافة

خنجر الحسوة للإمام «قيد الأرض» والسيف شمشير

10 فبراير 2024
10 فبراير 2024

يعرض المتحف الوطني بمسقط خنجرًا يعرف باسم «الحسوة»، وسيفًا منحي الحد يعرف باسم: «شمشير» يُنسَبان للإمام سيف بن سلطان بن مالك اليعربي (الأول): (1692- 1711م)، والمعروف بلقب: «قيد الأرض»، الإمام الذي دانت له الأقطار، وكرَّت في عهده الجيوش الى أرجاء المعمورة، ففُتِحت أسوار أفريقيا وبوابات الهند، وفي الداخل العماني نقرأ عنه في كتب التاريخ أنه شقَّ الأفلاج وبنى القرى، وزرع الأشجار، منجزات تحققت خلال فترة حكمه التي لم تزد مدتها عن تسعة عشر عاما فقط، ولابد من التفريق بين الإمام سيف بن سلطان (الأول) والمعروف بلقب قيد الأرض، والمشهور بعظمته حاكما، وأحد صناع الوطن، وبين الإمام سيف بن سلطان (الثاني)، الذي حكم عمان خلال فترتين، الأولى بين أعوام: (1728 - 1733م)، والثانية بين أعوام: (1738 - 1741م) ولم تكن له إنجازات تذكر.

عرضت الخنجر والسيف في مستطيل زجاجي بقاعة عظمة الإسلام داخل المتحف، مع لوحة تعريفية بهما، ولم يقدم ما كتب عن الخنجر تفاصيل خاصة بصناعتها، سوى أن مقبضها مصنوع من قرن «وحيد القرن»، وهو قرن «الزراف»، والواضح من ملامحها أنها صناعة عمانية، ويمكن أن نلاحظ الزخارف الهندسية على مقبض القرن، نجمتان مستديرتان وحولهما سبيكة حفرت فيها أشكال تشبه العقود والسلاسل، ومثل هذه الخنجر أو شبيه بها صنع العمانيون الآلاف في مختلف المدن العمانية، فهناك الخنجر السعيدية، والخنجر النزوانية، والخنجر الصحارية، والخنجر الصورية، وكل مدينة عمانية تحاول أن تضفي على صناعتها لمسة خاصة بها، وكانت الخنجر رفيقة المشاوير، ورمز الفخار، وفي البال صور كثيرة لخناجر رأيناها في الأسواق، وهي إما مصنوعة حديثا، فما تزال صناعة الخناجر قائمة إلى اليوم، وإما أن تكون خناجر قديمة متوارثة، ولعل الأسواق ما تزال تحوي خناجر صنعت قبل تاريخ اليعاربة، ولعل بعضها ألفية الأعوام، وكانت قرون الزراف تجلب زرافات، وعاج الفيلة تعج به الأسواق.

أما السيف «شمشير» فله تعريف خاص به، فهو سيف صنع في أصفهان، وصانعه هو أسد الله الأصفهاني، في زمن (الإمبراطورية الصفوية)، النصل فولاذ دمشقي، صنع عام: 1086هـ/ 1675م، يتميز النصل بأكثر التصاميم الزخرفية تعقيدا، والتي تعرف باسم: الأربعون خطوة، ويعد صانعه من أشهر صانعي السيوف في العالم الإسلامي خلال القرن (11هـ/ 17م)، وتشير اللوحة إلى أن السيف لم يكن غنيمة حرب، وإنما تم تكليف الصانع بعمله، ومن المرجَّح أنه قدم هدية إلى سيف بن سلطان اليعربي، من بلاط الإمبراطورية الصفوية، التي رأت فيه حينها إماما مستقبليا لعمان.

ولأن الحديث عن الإمام «قيد الأرض»، فإنه من المناسب أن نبحث عن بعض من تفاصيل حياته في كتب التاريخ، لنرى ما يقول عنه المؤرخون العمانيون، كابن رزيق في كتابه «الشعاع الشائع باللمعان»، يقول عنه: (كان شجاعًا نجيدًا، وذا بأس مهيبًا، هابته القبائل من عُمان وغيرها، وأعمر عُمان، وأجرى فيها الأنهار، وغرس فيها النخل والأشجار، وكان شديد الحزم على المال، فملك من عمان ثلثها، وأحدث أفلاجًا جمَّة)، وقال عنه في كتابه «الفتح المبين»: (لم يزل سيف بن سلطان منصفًا بين الرعية، رادا قويهم عن ضعيفهم، وأذعنت له القبائل، وعمر أكثر عمان، وأجرى فيها الأنهار، وغرس فيها النخيل والأشجار، وكان شديد الحزم على المال، وقويت عمان به وصارت خير بلاد).

وسرد ابن رزيق في كتابه «الفتح» تفاصيل عن الأفلاج التي شقها، والنخيل التي غرسها، والأسطول البحري الذي أقامه، والفلك التي كان تحمل ثمانين مدفعًا كبيرًا.

أما الشيخ السالمي فيقول عنه في «تحفة الأعيان»: (لقِّب بقيد الأرض، لضبطه الممالك وتقييده البلاد بعدله)، وانفرد في كتابه بذكر تفاصيل أخرى عن عدد الخيول والأحصنة التي ملكها، مستشهدا بقصيدة للشاعر راشد بن خميس الحبسي، أن عددها تسعون ألف حصان، يقول في القصيدة: (إن تَسْألنِّي عن الخيل التي مَلَكَتْ.. يَدَاه سَلنِي فإني عارِفٌ فَهِمُ)، (تسعون ألفَ حِصَان من كرائِمِها.. غير الرِّماكِ فما في قولنا وَهَمُ)، والرِّماك، هي الفَرَس التي تُتخذ للنسل، وفي القصيدة نقرأ أوصافا خرافية لهذه الخيول، ومبالغة مستفيضة، فهي: (تَعْدُو فتكبُو الرِّياحُ الهَوْجِ مِنْ خَجَلٍ مِنْها)، أي أن الرياح تخجل منها حين تعدو، وأن راكبها يصيد بها العِقبان: ولو أرَدْتَ لِصَيدِ الطائِراتِ بها.. لكانَ مِنْ صَيدِكَ العِقبان لا الرَّخَمُ)، وأنها تطير مع العَنقاء: (كادَت تكون مع العنقاء طائرة)، وأنها تقطع البر في الأيام الماطرة: (تستغرقُ البَرَّ والأمْطارُ ساكِبَةً)، وتقطع البحر كذلك: (وتقطعُ البحر والأمواجُ تلتَطِمُ)، وما إلى ذلك من أوصاف عجيبة، نسجه الخيال الأدبي للمؤرخ.

إن الآثار التي تركها قيد الأرض ليست الخنجر والسيف فحسب، بل عمان بمدنها مترامية الأطراف إلى ما وراء البحار، والقرى التي بنيت في عهده، والأفلاج التي أمر بشقها، فسالت أنهارًا في سواقيها، والأشجار التي غرست خلال سنوات حكمه، راسمًا اخضرار الحياة في البساط الزراعي، ومتفائلًا خيرًا بتدفق الأفلاج، لتتدفق على عمان أنهار الخيرات فلا تنضب، وتزداد مياه البركات فلا تجدب، يذكر ابن رزيق في كتابه «الشعاع» من تلك الأفلاج: (البزيلي في الظاهرة، والصَّايغي في الرستاق، والكوثر في قرية الحزم، والبرزمان في الشرقية)، كما ذكر في كتابه «الفتح» أفلاجا أخرى منها: فلج المسقاة.

ويضيف الشيخ السالمي في «التحفة» معلومات عن عدد الأفلاج التي شقها الإمام سيف بن سلطان الأول: مؤكدا أنها سبعة عشر فلجًا، ويروي أنه غرس في ناحية بركا من الباطنة من نخلة المبسلي ثلاثين ألف نخلة، ومن النارجيل ستة آلاف، وله أموال في المصنعة لا تحصى، وزرع الورس والزعفران، وملك من السفن أربعة وعشرين مركبًا، وقيل ثمانية وعشرين، وأسماؤها: الملك، والفلك، وكعب راس، والناصري، والوافي، وحملت سفينة الملك وحدها ثمانين مدفعا.

في زيارة جديدة للمتحف الوطني، وقفت على المستطيل الزجاجي الذي يعرض الخنجر والسيف بقاعة «عظمة الإسلام»، لم أجد فيه «شمشير» ذو الحد المنحني، ووضع في مكانه سيف مستقيم، يحوي في حده نقوشًا كتب عليها: (لا إله إلا الله)، وفي دائرة أخرى حفرت الاستعاذة والبسملة، مع ختم تبينت منه توقيعًا لصانعه: (عمل أحمد)، أما «شمشير» فيعرض حاليًا في «متحف الارميتاج»، بمدينة سانت بطرسبرغ، بروسيا الاتحادية، وبقيت «الحسوة» في صندوقها الزجاجي تحتسي جمالها العيون، وتقابل الزوار بوجهها الفضي الوضَّاء، وبخيوطها الممتدة إلى ثلاثة قرون، وكأن صانعها نفخ فيها روح البقاء الى أمد بعيد.